كي لا يتكرر التكرار! (1)

إن من يستقرأ التاريخ الحديث لوطننا الغالي مصر و يستنطقه ، و خاصة فيما يتعلق بموجات الإرهاب التي ضربت و لا زالت تضر مصر على مدار القرن العشرين المنصرم ، و منذ مطالع القرن الحادي و العشرين الحالي ، يجد أن لهذه الموجات الإرهابية المتعاقبة متوالية عددية يمكن حصرها و عدها و إحصائها ، بل و يمكن التنبؤ من خلال هذا التسلل المنتظم بالموعد الذي سوف تثور فيه موجة بركان الإرهاب من جديد ، و متى سوف يعود الإرهاب لكي يضرب ضربته الخسيسة مرة أخرى!

فبالنظر في تاريخ الإرهاب في مصر و مع مصر ، نجد أن أول موجات الإرهاب في مصر كانت في نهاية الأربعينات من القرن الماضي و بداية الخمسينات ، و ذلك بسلسة اغتيالات إرهابية ، طالت بعض الرموز في السياسة و القضاء ، ثم ثارت ثائرة التفجيرات الإرهابية في أماكن شتى و متفرقة ، و كذلك الحرائق التي طالت القاهرة الكبرى كلها من شرقها و غربها و شمالها و جنوبها ، حيث تم حرق عدة أقسام للشرطة ، و بعض المحلات التجارية و غيرها ، في العاصمة في توقيت واحد و في ساعة محددة ، في حدث اصطلح على تسميته فيما بعد بــ “حريق القاهرة”!
و لعل العجب العجاب في “حريق القاهرة” هذا أن أحدًا -و إلى يومنا هذا- لم يحدد الجاني و المتسبب في هذه الحرائق ، و مشعلها ، أو حتى يوجه له اتهامًا صريحًا ، مع كون هنالك من اعترف اعترافًا رسميًا بأنه الجاني !

و هو أمر يبعث الشك و يثير الريبة في النفوس أيما إثارة ، و كأن هناك من يريد أن يبرئ الجاني الحقيقي ، و أن تلصق التهمة بغيره ، أو حتى لا تلصق بأحد بالأساس و من ثم تقيد ضد مجهول!

تمامًا كما حدث في مصر في الفترة فيما بين يناير 2011 م و يونيو 2013 م و التي راح ضحية الأعمال الإجرامية و الإرهابية التي حدثت تحت جنح تلك الفوضى التي سادت البلاد في هذه الأعوام ، ثم أُلصقت التهمة بفاعل مجهول اصطلح على تسميته “الطرف الثالث”!
مع كون الفاعل معروف و مكشوف للكافة ، في الحالتين و لكن كان المراد هو التعمية عليه و عدم توجيه التهمة إليه!

هذا الفاعل الأصلي في الحالتين المتشابهتين في الواقع و الملابسات ، وفي فترة الفوضى التي تسبق على الاستقرار ، في بداية الخمسينات من القرن الماضي ، و التي أحرقت فيه جماعة الإخوان الإرهابية! مصر كلها فيما تم تسميته بــ “حريق القاهرة” و أُلصقت التهمة بمجهول ، و كذلك في أحداث الفوضى التي سبقت الاستقرار الذي حل عقب يوليو 2013 م ، حيث ذبحت تلك الجماعة الإرهابية الفاجرة ، المصريين من الوريد إلى الوريد ، في الشوارع و الأزقة و الميادين ، و ألصقت التهمة أيضًا بفعل مجهول سمي “الطرف الثالث”!

فقيضت قضية حريق القاهرة تاريخيًا! ضد مجهول مع أن الفاعل الأصلي لها قد اعترف ، بما خططته أيدي الإخوان أنفسهم في كتبهم ، أنهم هم من قاموا بذلك ، و إن لم يسموه بــ “حريق القاهرة” ، كما سماه الناس ، و لكنهم أكدوا أنهم هم من فعلوها!

الحاصل ، أن حرق القاهرة و ما زامنه من عمليات إرهابية ، و اغتيالات سياسية ، كانت هي الموجة الإرهابية الأولى التي ضربت مصر في تاريخها المعاصر ، مع نهاية الأربعينات و بداية الخمسينات من القرن الماضي ، أي بعد مرور “عشر سنوات” كاملات ، على تأسيس “النظام الخاص السري” للإخوان ، على يد المجرم الأكبر و الإرهابي الأعظم في التاريخ المعاصر “حسن البنا” و زبانيته ، و ظلوا خلال تلك السنين العشر ، يعدون العدة من أجل انطلاق الإرهاب الذي يستهدف الدولة المصرية للقضاء علي مؤسساتها، ومن ثم السيطرة على ما يتبقى منها!
لقد أسس “البنا” ما أسماه هو “النظام الخاص” أو “الجهاز السري”! ، ليكون من وجهة نظره الآثمة بديلًا عن جيش مصر العظيم ، و ليحل محله في المستقبل (و هو ما يفسر لك لماذا يكره هؤلاء الخونة المجرمين جيش مصر و يتمنون له السوء ، لأنه يقف حجر عثرة و عقبة كئود أمام تحقيق مآربهم الدنيئة) .

و كانت مهمة هذا الجيش الخبيث المسمى بــ “الجهاز السري أو النظام الخاص” منذ تأسيسه هي القيام بالعمليات الإرهابية القذرة و التي من شأنها إضعاف الوطن و إنهاك الجيش !

و بالفعل أعدوا العدة لذلك و قاموا بشراء السلاح من تجار السلاح في الصحاري المصرية ، و بدءوا في التدرب على مهامهم القذرة من استعمال السلاح ، و تصنيع المتفجرات و تدبير الاغتيالات و ما شابه ذلك ، و كان هذا كله يتم بعيدًا عن الأعين في الصحاري و المناطق النائية ، و لمدة عشر سنوات كاملات ، فلما أحسوا بأنهم قد تأهلوا لمواجهة الدولة ، و أن قوتهم قد قويت ، خرجوا من جحورهم و نابذوا الدولة العداء ، و بدءوا في استخدام العنف ضد مصر و أهلها الطيبين .

فلما واجهوا الدولة ، واجهتهم هي الأخرى بدورها ، فهزمتهم هزيمة نكراء و تم القبض على قياداتهم و رجالاتهم ، فلما أحسوا بالهزيمة و تيقنوا من خسارتهم ، و أن الغلبة للدولة لا محالة ، و أن المقاومة غير مجدية ، بل إن آثارها ستكون كارثية على وجدهم ، تراجعوا و عادوا خطوتين للخلف ، و دخلوا جحورهم ، فسكنوا و سكتوا ، فاستكانت الدولة –مع الأسف- لسكونهم ، و حسبت أنهم قد قضت عليهم و قطعت قرنهم ، و أتت عليهم .

و لكن الحقيقة المرة أن هذا السكون ، لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة ، و أن هدوء الإخوان ، كان كتجمد الحية الرقطاء قبل أن تنقض على فريستها لتلتهما ، فكان الواقع المرير ، أن عاد الإخوان إلى جحورهم لا ليسكنوا ، و إنما لينشطوا أشد النشاط بعد حين ، و لكي يجتهدوا في تلافي آثار الضربة القوية التي تلقوها، و لكي يعملوا على تجاوز الأزمة ، فيعيدوا تجميع ما تشتت متهم مرة أخرى ، و ترميم ما تصدع من جدران بنيانهم تارة أخرى ، بل و الاستفادة القصوى من التجربة بكل ما فيها من إيجابيات و سلبيات ، ليعظموا الإيجابي و يتلاشوا السلبي في المرة القادمة ، كل ذلك كان يتم في صمت مطبق ، و في غفلة تامة من الدولة و الناس ، و الذين حسبوا أن الإرهاب قد قضي عليه و أنه قد ذهب و بلا رجعة!

و لكن الأخير كان فقط قد قرر أن يأخذ هدنة محارب ليعيد ترتيب صفوفه ، و ليعود كي ينتقم و ليكون أقوى من سابق عهده و أعنف و أكثر خبرة و حنكة ، فيضرب ضربته القاضية في أشد لحظات اطمئنان خصمه و غفلته عنه .

استغرق ذلك هذه المرة أيضًا “عشر سنوات” كاملات ، قام الإخوان خلالها بتجميع صفوفهم ، و عادوا أقوى من سابق عهدهم ، فضربوا مصر بموجة إرهابية ثانية أعتى من سابقتها .
لتبقى الملاحظة الاستقرائية التي سوف تتكرر معنا في كل مرة –مع الأسف- أن الإرهاب كان يضرب ضربته ، و تثور فورته ، مرة كل عشر سنين !

ثم تقاومه الدولة عامًا أو عامين أو يزيد قليلًا ، فتنطفئ حدته ، و تخور قواه ، و يفقد قوته ، و تظن الدولة أنها انتصرت عليه ، لتصدمها المفاجأة بعد عشر سنوات أخرى بأنه قد عاد مرة أخرى أقوى مما عليه كان ، فتقاومه بالطريقة ذاتها ، حتى إذا ذهب عاد مرة أخرى ، و نظل هكذا في حلقة مفرغة ، بين إرهاب و مقاومة ، و لكننا و لكي نكسر هذه الحلقة و لكي نخرج منها ، و لكي لا يتكرر التكرار في كل مرة ، علينا أن نغير الطريقة الخاطئة في تعاملنا مع الإرهاب ، و ذلك بأن نقتلعه اقتلاعًا من جذوره ، بدلًا عما نفعله في كل مرة من اجتثاث شجرته ، من فوق الأرض و نترك الجذور ضاربة في العمق ، فتنمو بذلك شجرته مرة أخرى ،بل و تخرج أشد فتوة و أعتى قوة من المرة الأولى ، ثم تلقى علينا بظلال التكفير و من ثم التفجير و القتل و سفك الدم .

و في المقال القادم -إن شاء الله- نبينُ لماذا يتكرر التكرار في كل مرة ، و ما ينبغي علينا فعله : كي لا يتكرر التكرار .

أضف تعليقك هنا