كي لا يتكرر التكرار! (2)

بعد انحسرت الموجة الأولى للإرهاب و انحسرت قوتها ، و تراجعت حدتها ، مع نهاية أربعينات القرن الماضي و بداية الخمسينات منه ، عاد الإرهاب مرة أخرى -متمثلًا في الجماعة الأم للإرهاب : جماعة الإخوان الإرهابية- يجمع شتات نفسه ، و يعيد تكوين ذاته ، عاد لكي يكرر التكرار مرة أخرى ، مستفيدًا من التجربة السابقة ، متلافيًا أخطائه فيها ، بل و كي يعود أقوى مما عليه كان !

ففي الوقت الذي لم تستفيد الدولة –مع الأسف- من انجازاتها في محاربة الإرهاب ، استطاع الإرهاب أن يستفيد من إخفاقاته ، و هزيمته ، ليعاود نشاطه مرة أخرى مثقلًا بخبرة التجربة السابقة!

فضرب الإرهاب مصر ضربة إرهابية جديدة كانت موجتها أعتى و أعلى و أقوى و أشد من سابقتها ، و بعد أن كانت الموجة الأولى تقتصر على عدة عمليات اغتيالات سياسية لبعض الرموز السياسية و القضائية ، و التي نجح بعضها و فشل معظمها ، و كذلك اقتصرت الموجة الأولى على بعض العمليات الخائبة ، من محاولات للتفجير أو التحريق ، جاءت الموجة الثانية في نهاية الخمسينات و بداية و أواسط الستينات ، لتبعث رسالة للجميع أن منحنى الإرهاب في صعود ، و أن على الدولة و المجتمع أن ينتبهوا ، من أنه في كل مرة سيكون الحال أسوأ من سابقه ، و أنه لا مفر من القضاء التام على الإرهاب و اقتلاعه من جذوره ، قبل أن يقتلع هو الدولة من جذورها!

و لكنه –و مع الأسف- لم يفطن أحد للرسالة ، و لم يفك أحدهم شفرتها ، و تعامل الجميع مع الواقع ، كما الطبيب الفاشل ، و الذي يتعامل مع الأعراض فيعالجها ، و يترك المرض ذاته ، يستشري و ينتشر في الجسد كله حتى يهلكه!

فتعامل الجميع مع العرض و قاوموه و تركوا المرض ذاته دون العلاج الشافي و الدواء الكافي ، فخفت الأعراض شيئًا فشيئًا ، و بقي المرض ساكنًا ، و كامنًا في الجسد من غير علاج ، يوشك أن تفور فورته مرة أخرى على حين ضعف و وهن ، و في ساعة غفلة تامة من الجميع ، فيقضى على جسد الأمة تمامًا !

و بالفعل كانت الموجة الثانية للإرهاب أقوى من سابقتها بما لا يقاس ، و تحول الأمر معها ، مما يمكن أن يقال عنه : أنه كان في الموجة الأولى : “عمل الهواة” ، أو “لعب العيال” ، إلى “عمليات محترفين” ، و تخطيط مدربين ، على مستويات عالية ، فبعد أن كانوا سابقًا قد فشلوا في اغتيال بعض الشخصيات العامة كــ “العقاد” مثلًا ، و لم يستطيعوا أن يصلوا إليه ، تطور الأمر ، فارتفعت إمكاناتهم ، و عملوا كما المحترفين فخططوا و تدربوا و نفذوا ، حتى لقد وصل الأمر إلى محاولة –كادت أن تنجح لولا الستر من الله- لاغتيال رئيس الجمهورية شخصيًا ، و ذلك في حادثة المنشية الشهيرة !

و كذلك بعد أن كانت الموجة الأولى من الإرهاب تقتصر على “لعب العيال” بوضع قنبلة بدائية أمام قسم للشرطة ، أو إلقاءها على بعض التجمعات ، أو على أحد المحلات ، جاءت الموجة الثانية مختلفة تمامًا ، فقد كانت أقوى و أعلى من سابقتها بمراحل لا تدرك!
فقد وضعوا لأنفسهم خطة محكمة ، و حصلوا على كمية مرعبة من المتفجرات ، و خططوا لتدمير مصر كلها ، و ذلك بتدمير جميع مولدات الطاقة على مستوى الجمهورية في آنٍ واحد ، لتظلم مصر كلها في لحظة!

و كذلك خططوا –و كادوا أن ينفذوا- لتدمير العديد من المنشآت الحيوية بالديناميت و المواد المتفجرة ، لكي يصيبوا البلاد كلها بالشلل التام في دقائق معدودة !

و كذلك خططوا –وكادوا أن ينفذوا- لتدمير القناطر الخيرية بأكملها ، لتغرق الدلتا كلها ، و يهلك من و ما عليها ، من بشر و زرع و حيوان ، و تحويل دلتا مصر كلها في غضون ساعات إلى ديار خراب و أرض يباب لا يبقى فيها خيرًا و لا يذر!!
و بعد ذلك كانت خطتهم تقتضي السيطرة على السلطة و إعلان البيان الأول من مبني ماسبيرو بعد السيطرة عليه بقوة السلاح هو الآخر!
و كانت الخطة الخبيثة هذه من الإحكام بحيث تؤدي إلى نتائجها الكارثية المنشودة لهم ، و لكنه ، و لولا رحمة الله بهذا البلد الأمين و بأهله الطيبين ، لكان ما لا تحمد عقباه إلى هذه الساعة .

فمن هذه الرحمة الربانية بنا ، أن كان قائد “التنظيم الخاص السري” للإخوان الإرهابية ، في ذلك التوقيت ، هو “سيد قطب” ، و كان بسبب أمراض نفسية كثيرة ، ألمت به ، منذ طفولته ، قد أصابته بالتردد و الشك في كل شيء و في كل أمر و في كل الناس ، فقد كان مترددًا عصبيًا بطبعه ، يفتقد إلى صفات القائد المحنك ، فلم يستطع اتخاذ قراره ، بإعطاء أوامره لأتباعه ، باتخاذ اللازم و بدأ تنفيذ الخطة ، فكان تردده هذا رحمة من الله بنا ، فسبقت يد الأجهزة الأمنية يد الإرهاب بخطوة واحدة ، و تم بذلك إبطال هذا المخطط اللعين لتدمير مصر كلها ، و قتل أبنائها!
ليبقى لنا هنا ملاحظتان هامتان و أمران لا يمكن القفز فوقهما و تجاوزهما دون التنبيه عليهما مرارًا و تكرارًا و التنبه لهما تمام الانتباه ، و هما :
أولًا : أن الموجة الإرهابية الثانية في نهاية الخمسينات و بداية و أواسط الستينات ، جاءت بعد الموجة الأولى للإرهاب في مصر -و التي كانت في نهاية الأربعينات و بداية الخمسينات- بعشر سنوات كاملات ، و هي المدة التي من الملاحظ –استقرائيًا- أن الإرهاب يحتاجها لإعادة تكوين نفسه مرة أخرى و العودة ليضرب ضربته ، ففي كل مرة مما مر و مما سيأتي ذكره –إن شاء الله- كان الإرهاب يعود بعد عشر سنوات ، و هو أمر يجب الالتفات إليه ، و التحسب لحسابه .

و ثانيًا : أن الموجة الثانية من الإرهاب كانت –وبلا شكٍ- أعنف و أقوى و أعتى بكثير جدًا من الموجة الأولى ، و هو يؤكد لكل صاحب بصر –فضلًا عن كل صاحب بصيرة!- أن الإرهاب يستفيد من تجاربه ، و يبني عليها ، و لا يبدأ في كل مرة من الصفر ، و إنما يبدأ من حيث انتهى إليه في المرة السابقة ، فينمي من قدراته و يتلافى الأخطاء التي وقع فيها في السابق ، يعظم من مكاسبه ، و يؤسس عليها ، بل و يغير من خططه و تكتيكاته ، بخلافنا نحن ، و الذين نقاومه في كل مرة بنفس الوسائل و الأساليب ، و نبدأ في كل مرة لا من حيث انتهى الآخرون ، و لكن من حيث بدءوا ، فيتقدم الإرهاب خطوة للأمام و نظل نحن نراوح في مكاننا ، ليكون الواقع أن الإرهاب يتقدم خطوتين للإمام ، أو أننا نرجع للوراء خطوتين ، أو كلاهما معًا!

و بناءً عليه فإنني أقرر أننا لو أردنا –إرادة حقيقة- أن نقضي على الإرهاب و نقتلعه من جذوره أن نغير من أساليبنا و استراتيجياتنا في محاربة الإرهاب ، لنكسر تلك الحلقة اللعينة التي ندور فيها ، و حتى لا نورث للأجيال التي تأتي بعدنا نارًا تحت الرماد ، توشك أن تحرقهم ، فيلعننا أبنائنا و أحفادنا ، بسبب ذلك الميراث الخبيث الذي تركناه لهم ، بدلًا عن أن نورثهم خيرًا و سلامًا و نماءً .

و ما يزال حديثنا موصلًا حول موجات الإرهاب اللعينة في المقال القادم -إن شاء الله- ،و الذي نرجو من خلاله أن نساهم –و لو مساهمة يسيرة- في أن نزرع الوعي في العقول و القلوب ، كي لا يتكرر التكرار .

أضف تعليقك هنا