يسر الشريعة والتكليف بالوسع بين الأصل والاستثناء – جلب المصالح ودرء المفاسد

التشريع الإسلامي بين جلب المنافع ودرء المفاسد

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن المقصد العام للتشريع الإسلامي رعاية مصالح الناس بجلب المنافع وتكثيرها ودرء المفاسد والتقليل منها ، والسبيل إلى ذلك سن الأحكام في مختلف مجالات الحياة ، وتكليف الإنسان بما يحققه ، ولقد راعى المشرع قدرة المكلفين على التنفيذ ، فلم تكن هناك تكاليف إلا وهي موافقة للقدرة ، فلا تكليف إلا بمقدور ، ولاتخيير إلا بين مقدور ومقدور ، فجاءت الشريعة الإسلامية في غاية من التيسير.

رفع الحرج

لكنني أجد كثيرا من الكتاب في أصول الفقه ، أو المدرسين في مختلف المحافل بارك الله في جهودهم ، وقدرهم عليها ، الأحياء منهم والأموات، يخلطون بين اليسر ورفع الحرج في التعبير عن مرونة الشريعة ، فينسبون إليها اليسر الأصلي واليسر الفرعي ، ورفع الحرج من حيث الأصل ، وأراه من الخطأ الفادح في وصفها لكل المكلفين.

والتوضيح أنها شريعة حاملة لتكاليف يسيرة ، بل إنها موصوفة بالسهولة كلية ، ومصداق ذلك قوله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} سورة البقرة 286.

الاستطاعة

إن مبناها على الاستطاعة ، لو يعلم الله حكما لا يستطيعه الإنسان لما كلفه به أبدا ، لأن الله لا يحاسب شخصا على ترك تكليف فوق الطاقة ، فكل الأوامر والنواهي التي كلف بها الإنسان تدور في فلك إمكانه وقدرته ، وإن ظهرت للبعض عظيمة الخطب لأن ذلك نابع من كسلهم وتقاعسهم فقط.

دفعني إلى هذا وعدي لتلاميذي بتوضيح أمر اليسر والعسر ورفع الحرج في الإسلام ، لأن الأحكام في الشرع قد تتعسر على بعض أصحاب الحالات الاستثنائية كالمريض والمسافر والمشلول وغيرهم ، فحينئذ يتخذ له التشريع أحكاما أخرى لإعادته إلى اليسر ، فيشترك في النفع مع أصحاب الحالات العادية ، ليلتقي الكل أخيرا في الامتثال.

يسر وليس رفعا للحرج

هنا يمكن القول إنه وقع رفع للحرج بعد عجز قدرة البعض ، أما القول إنها مبنية على اليسر ومعه رفع الحرج بدء ، فهذا مما أراه من الغفلة في تصويرها : تأليفا أو تدريسا.

ولذلك جاء بيان السنة لها في قوله صلى الله عليه وسلم فيما ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا، وَأَبْشِرُوا، وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ» رواه البخاري.

فذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسر ، لا أصلا ولا فرعا ، وإنما أرشد إلى الرفق في المعاملة والتدرج في التنفيذ لأصحاب الحالات الخاصة كالمبتدئين.

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» رواه الإمام أحمد.

ينبغي إعلام الناس أنها تمتاز باليسر ، دون اصطحاب لفظ “رفع الحرج” أولفظ “اليسر الأصلي واليسر الفرعي” ، لأن ذلك يوهم الكثير بوجود العسر فعلا في الشريعة ، وهذا ما نأت عنه في كثير من وقائعها وأحكامها.

وبناء على هذا يلجأ الكثير من الناس إلى ترك بعض التكاليف بحجة قوله تعالى {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها} ، لكن الحقيقة الشرعية والواقعية أن الإنسان مكلف بتقديم كل ما في طاقته لا أن يقدم أقل منه وهو قادر عليه ، ولا أن يقدم أكبر منه لأنه ليس قادرا عليه ، فتجد المتقاعس عن صلاة الصبح مثلا يحتج بهذا النص ، وهو قادر على النهوض لها ، يتأخر عنها ويحتج به ، يتأخر عن بعض الواجبات ويحتج به ، يتعامل دون تقيد بالضوابط في الأموال ويحتج به ، تهتك مكانة العقيدة بعلم أو جهل ، يفتك بالنفوس ، بالعقول ، بالأعراض ، بالمال ، ثم يعلق كل شيء على شماعة هذا النص ، وغير ذلك كثير ، وكمثال على ذلك : من يستطيع حمل وزن معين يجب عليه حمله ، أما أن يكلف بحمل أكثر منه فلا تكليف إلا يمقدور ، لكن أن يحمل أقل منه فهذا ما ليس مقبولا لأنه قادر على الأكثر ، فلا تكليف بأقل من المقدور ولا بأكثر منه ، بل به بالضبط.

لذلك ينبغي التركيز على المصطلحات بدقة كي لا نقع في مطبات تغليط المسلمين وغيرهم في حقيقة التشريع عادة أواستثناء.

أضف تعليقك هنا

سعد الدين شراير

الأستاذ سعد الدين شراير