الدوامة – عن استراتيجيات التفاوض والمفاوضات بين صاحب الحق والعدو

التاريخ يعيد نفسه بغباء

يمكن القول ان التاريخ في الفترة الحالية يعيد نفسه بصورة غبية نعم غبية، حيث يعمد الناس الى الاساليب نفسها في معالجة ما يجد عليهم من قضايا، وهذا يكون نتيجة اما التعود وإدمان الحال من باب الواقعية الاذلالية لا الواقعية الطامحة الى التحليل والدراسة والنقد والتغيير، بل الواقعية من حيث تقبل الواقع مهما كان سيئا ومحاولة تحسينه وتزويقه.

ومن ثم انشاء كيان ترويجي لإقناع الرافضين لهذا الواقع وفي معظم الاحيان ارغامهم عليه، وان شبوا عن الطوق وغردوا خارج سرب شرعنة الذل اعتبروا متشددين او متطرفين او …..، اكمل باقي المصطلحات المرادفة التي جاءت في ثنايا تفكيرك عندما قرأت كلمة تشدد.

تفسير النصيحة

العيش في برج عاجي

من الامور التي ندمنها في بلداننا في العقود الاخيرة هو التفاوض، وهو مرحلة تأتي دوما بعد تجزئة المجزئ وإنهاك مقدراته وتوزيعه وخلق الف كيان متناحر فيه لا يمكن ان تتفق حتى على شكل الطاولة التي ستجلس اليها، ومن باب ان الخبر ليس كالمعاينة، فان المرء لا يجد بد من الالقاء بنصيحة عابرة هكذا كقفزة مجنونة في الفضاء، ذلك ان النصيحة او التوجيه في هذه الفترة الموحلة لا يمكن ان يخرج عن تفسيرين اثنين لدى الناس وتحديدا الباحثين عن الشهرة والزاحفين بذل وراء اضواء الكاميرات ومنابر القنوات، وهذان الامران اما ان تتهم بالعيش في برج عاجي لا يوافق واقع الناس دون ان نصل الى تعريف عربي وإسلامي محدد وواضح للواقعية، ذلك ان الواقعية تختلف حسب من يطرحها ومن يحتاجها، ومن يراها سلاح للحاجة، والى الان فان الواقعية عندنا تمثل نوعا من الخداع المتعمد وشبه الذكي للناس دون ان نفسر تلك الواقعية او نراجعها ولو لمرة واحدة في حياتنا.

المثالية في الطرح

والأمر الثاني الذي يمكن ان تتهم به هو العكس من البرج العاجي والترفع عن مخالطة الناس، ألا وهو المثالية في الطرح مع مخالطة الناس وهذا امر يعود الى الواقعية غير المفسرة التي يتذرع بها من يعيثون في اوطاننا وأخلاقنا ومقدراتنا فسادا باسم الواقعية ونيل الممكن وموائمة الواقع ويعتبر الطرح المثالي عندنا نوعا من الترف حتى وان كان نصا قطعيا فمثلا الذريعة التي بيعت من اجلها الاوطان وتم تسهيل التطبيع مع المحتل الصهيوني كانت ان الاخت العربية الكبرى قد عقدت اتفاقات كامب ديفيد مع المحتل واتخذ ذلك سببا ان تدخل باقي الدول العربية والإسلامية في هذا التطبيع ان علانية او بالتسلل لواذا بين المبررات وقاعات المؤتمرات ورمي ذلك على الصدفة غير المقصودة وقياسا على رأي هؤلاء فانه ان وجدت قوما يعاقرون الخمر ولم تستطع نهيهم فعليك ان تستسلم للواقع وتشاركهم وإلا فتهمة التطرف والمثالية والبرج العاجي موجودة.

كان لا بد من التقدمة السابقة لفهم وان سريع للعقلية التي يتعامل بها من يظنون انهم من يملكون زمام الشعوب ولا يمكن البت في امر إلا بوجودهم او من خلالهم وبعضهم يظن ان الفلك لا يسر الاب امره في زمن كثر فيه القادة ونضب معين الجند وصارت الاهداف العليا لأمة ما مختزلة في الطموحات الشخصية لفلان او علان.

خلال تجربة الاسر كان هناك اطلاع معين على الية التفاوض مع العدو والطرف المقابل في معادلة اثبات الوجود وكذلك كوني اسكن وطنا محتلا وفيه جزء من ابنائه يرون التفاوض نهجا وطريقا للتحرير فانه يمكن الحديث عن ثلاث مراحل من التفاوض والذي غالبا لا يعطي شيئا إلا فتات وغريب ان جيران هذا البلد المحتل والكثيرين ممن يقولون ان فلسطين قضيتهم الام ويرفضون نهج التفاوض والحديث من اجل الحديث ويرون ان الحقوق تنتزع ولا تستجدى قد دخلوا نفق التفاوض القاتل؟

مراحل التفاوض

الإقناع بجدوى التفاوض

وأول هذه المراحل التي يمكن القول انها تقريبا المرحلة الاهم في عملية التفاوض نجاح العدو في اقناع اصحاب الحق ان حقهم غير قابل للعودة بغير التفاوض، وهذا تحدي يمكن تسميته عدم الايمان المطلق بان المناضل على حق في نضاله وكفاحه وجهاده وان تعنته في الوصول الى حقه يعتبر مثالية وتنظير لا يراعي مصالح الناس. وهنا يدخل اصحاب الكلام المنمق ويقومون بتصنيف الناس بين متطرف ومعتدل وراديكالي اصولي لا يمكن قبوله، وبالتالي يبدأ التفاوض بضرورة القضاء عليه، هذا الاقتناع بان الحقوق يمكن ان تنال بالتفاوض يجعل المقاوم والمناضل يدخل دوامة الكلام الدبلوماسي المنمق والمنافق احيانا كثيرة، حيث يضطر الى شكر قاتل ابناء شعبه على الاستضافة للتفاوض وبالتالي لا بد ان يلوذ من كان يظن انه في مفاصلة تامة مع الباطل بدولة صديقة لا تترك الفرصة دون اهتبالها فتجعله تبعا لها وتحرف مسار التفاوض باتجاه مصالحها الخاصة ومهادناتها وحربها حتى في امورها الداخلية وهكذا يتشعب التفاوض المطالب بالحقوق الى تصنيفات واستثناءات وشروط ويقع الشعب الذي يعاني في اخر سلم الاولويات ان كان له هناك متسع.

ان الاقتناع بفشل اسلوب الانتزاع للحصول على الحق بعد عقود وأعوام من المعاناة يجعل الذين يتصدرون المشهد تماما كعوام الناس في مسالة الايمان بالله تعالى ” وما يؤمن اكثرهم بالله إلا وهم مشركون ” نعم هكذا كما يقولون على بساط احمدي ان من يجنح للتفاوض واستجداء الحقوق غير مؤمن بقضيته ولا بحقه المطلق في العيش الكريم والحر وكل تبريرات التابعين لا يحتج به وان علت مراتبهم وبالغت اقلامهم فمن لا يؤمن بحقه الكامل غير المشروط ولا المنقوص في الكرامة والحرية فهو مريض باحث عن الشهرة من خلال معاناة شعبه وأمته.

مرحلة “النعم لا”

والمرحلة الثانية من مراحل التفاوض المذل هي مرحلة “النعم لا”، وهي مرحلة صهيونية الاصل والمنشأ في الاساس حيث كان المحتل ونحن في السجون وبعد ان يقنع البعض بصعوبة واستحالة نيل الحقوق بالمواجهة والإضراب والاستنفار، يدخل المسالة في المرحلة المتحدث عنها فلا بد اولا من جلسة تعارف تشمل ايضا التصنيف والإقصاء ففلان متطرف يجب ان يخرج من وفد التفاوض وفلان حرفي وانفعالي لا يلزم لأنه سيوتر الاجواء وفلان تحريضي لا يمكن قبول حضوره وهو بوجهين وجه موادع مع العدو ووجه مسعر حرب مع قومه، وهكذا يذهب الوقت سدى ومجاملات ونقاشات جانبية تعتبر الاهم من ناحية العدو، وهكذا يمضي الوقت وتبرد اجواء المواجهة ويتململ الجمع ويكسب العدو فرصة سانحة ليفعل ما يشاء ومن ثم عندما تبدأ مرحلة الاجابات تكون كالأتي نعم ليس لدينا مانع ولكن نحتاج وقت للفحص مع الجهات العليا وكل مسالة على الاغلب كانت الاجابة وهنا اقول الاجابة فقط تأتي بعد عدة شهور وغالبا ما تكون سلبية مطلقة او ايجابية بصورة منقوصة فمثلا اذا اردت ان تخرج احدهم من العزل الانفرادي عبر التفاوض فهذا يعني ان الجلسة التي ستعقد اليوم سيأتي رد عليها بعد شهر او اكثر وتكون الاجابة ان المراد اخراجه سيمدد له نصف عام اخر وبعدها يدرسون المسالة وهذا يعني انه سيعاني ما يقارب العام قبل ان يبت في امره وهذا على سبيل المثال لا الحصر.

فمستغرب ممن يعرفون طبيعة العدو سواء كان محتلا او مستبدا او حتى من متفرعنا من جلدتهم كيف يلجئون الى نهج طالما حاربوه ونظروا ضده؟ وجعلوا من يسلكه خارجا عن كل دين وعرف ؟ وعليه فان العارف والعالم لا تغتفر زلاته المتعمدة والمقصودة وان بحجة رعاية مصالح الشعب والمحافظة عليها وان جاؤوا بألف فقيه وفقيه ليؤصلوا لهم خيانتهم الفكرية والعقدية قبل الواقعية فالناس وان اشتد بهم البلاء يقنعون بضنك الكفاح من اجل الحرية والكرامة وان تأففوا وضجروا واظهروا مللا ولا يمكن التذرع بآراء عوام الناس وقتما يشاء السياسي المفاوض ودرئها وقتما لا تلزمه والناس تبع لكل مبادر قادر على التغيير وإنما ابدت الشعوب ضجرا ومللا من القادة الحاليين في مجتمعاتنا، لأنهم يحولون القضايا العامة المطلقة الى نزاع نفوذ واثبات وجود، ويفتحون بغبائهم وحمقهم للعدو على اختلاف انواعه ان يفعل ما يشاء كيفما يشاء، وتغول الاستيطان في الارض المحتلة ويردفه دليل اخر مثل اقتتال بعض فصائل الثورة السورية في حين النظام يتقدم وأدوات الدول المتدخلة ومليشياتها تفعل ما تشاء، فهل اوقفت المفاوضات الاستيطان ام هل اوقفت تغول النظام العلوي وزبانيته؟ لك الحق في الاجابة.

مرحلة الترويج للحل التفاوضيأهم مرحلة بعملية التفاوض هي نجاح العدو في اقناع اصحاب الحق بأن حقهم غير قابل للعودة بغير التفاوض

والمرحلة الثالثة من عملية التفاوض هي اخطر المراحل وهي مرحلة الترويج للحل التفاوضي وهذا يقتضي تمكينا على الارض للفريق المفاوض ومن ثم جعله يمسك بزمام الامور وهذا يعني اقصاء الفريق الرافض وإذلاله وإخفائه وتجريمه.

والمذكور انفا ليس تنبؤا بل واقع عشناه وسيعيشه كل من يدخل دوامة التفاوض، وتشمل عملية الترويج ادوات تمكينية يمكن الاطلاع عليها في كتاب عقيدة الصدمة صعود رأسمالية الكوارث وإغداق المنح، وربط القطاع العام الناشئ بالدول المانحة والمواقف السياسية، ومن ثم يتحول الشعب الى متسولين مع بقايا كرامة وتذوب القضية الام ويصبح التفاوض نفسه حول القضايا اليومية والأزمات المعيشية المتتابعة والمتفاقمة في الكيان الناتج عن عملية التفاوض فبعد ان كنت تقاتل عن مبدأ وكرامة وحرية ستجد نفسك بعد عقود تتحدث عن اجزاء ذرية من جزء واحد من اجزاء القضية الام وهكذا حتى تذوي جذوة النضال والكفاح وتعود الى اسوا مما كانت الامور عليه قبل ان تنتفض وأنت خلال ذلك تسمي ما يحدث بالواقعية والدهاء.

قديما قالت العرب ان الذكي من اعتبر بغيره والغبي من اعتبر بنفسه، فان من يدخل دوامة التفاوض وتجزيء قضيته الام بعد ما حدث في المنطقة منذ قرن من التفاوض فانه غبي، ولن يعتبر بنفسه، بل متعام ودافن لرأسه في رمال الذل ولن يفيق إلا بعد الخسران المبين.

فيديو جدوى المفاوضات

أضف تعليقك هنا

مروان محمد ابو فارة

مهتم بالحالة الفكرية للأمة
أبلغ من العمر 35 عاما
أمضيت في سجون المحتل الصهيوني عشرة أعوام
أحمل شهادة البكالوريوس في المهن الصحية تخصص تمريض
من فلسطين المحتلة