أسباب عظمة المسلمين في الصدر الأول ؟

أصبحنا اليوم في العالمين العربي والإسلامي في حيرة من أمرنا بعد ما آل إليه الحال ! والكثير يتساءلون ما هي أسباب العظمة الإسلامية و عز المسلمين في الصدر الأول للإسلام ؟ وما منشأ تفوقهم على الأمم وامتداد الدولة الإسلامية على معظم الأجزاء المعمورة في ذلك الوقت ؟ كيف كنا سادة العالم لمدة ثمانية قرون متواصلة ؟
بالمصادفة عثرت على مقال كتب قبل أكثر من تسعين عاماً يكشف لنا فيه أحد علماء الأزهر الشريف أسباب العظمة التي نالها أسلافنا لعلنا نعيد النظر فيها وندرس الأسباب التي ساقها الشيخ عبد الباقي سرور نعيم رئيس تحرير صحيفة الفتح في عددها الأول الصادر يوم 10 يونية 1926 الموافق الخميس 29 ذي القعدة سنة 1344هـ تحت عنوان ” في الصدر الأول ” ما نبحث له عن إجابة اليوم دون جدوى ؟! حيث كتب يقول :
إن أهم الأسباب التي كانت منشأ العظمة الإسلامية هو تحديد الغرض الذي جعله صاحب الشريعة غاية واضحة وهو إعلاء كلمة الله وإعزاز دينه . ويأتي بعد هذا السبب غرس فكرة الاستشهاد في سبيل الله في نفوس الأمة حتى أصبح كل فرد مهيئاً أن يبيع نفسه في سبيل الله على هذين السببين قامت العظمة الإسلامية في الصدر الأول : غرض محدود واضح ، وتضحية حلت من النفوس محل حب الحياة. كان لكل فرد مثل أعلى يطلبه ويجعله غاية أمله ويسعى في الوصول إليه وهو إعلاء كلمة الإسلام ، كذلك كان المثل الأعلى للجماعات إعلاء شأن الملة ، وكذلك كان المثل الأعلى للدولة . فالفرد والأمة والدولة كل أولئك كان يؤمن بأن له غرضاً يهديه للعمل هو إعلاء شأن الإسلام .

 

ملك هذا الغرض عليهم إحساسهم واستولى على مشاعرهم ونزل من نفوسهم في منازل العقيدة فقادهم إلى مقامات الشرف ومكانات الرفعة. لم يكن مثلهم الأعلى أمرًا خيالياً أو أملاً وهمياً أو فكرة حائرة ، بل كان عملاً من الأعمال التي أعدتهم الثقافة الإسلامية لمباشرته في كل وقت وتناوله في كل حين . غرض عملي يفهمه كل فرد ويسعى لنيله والحصول عليه ، والثقافة الإسلامية من وراء ذلك تهيئ له العقائد وتعد له الإحساسات وتعمل على تنميته وبلوغه أقصى ما قدر له حتى أينع وأثمر وآتى أكله كل حين بإذن ربه.

 

أما فكرة الاستشهاد فقد نزلت من المسلمين في الصدر الأول في منازل العقيدة وأصبحوا يتهالكون على نيلها ، والسعادة عندهم كل السعادة أن يحصل الفرد عليها كي ما يتمتع بأهنأ معيشة في الدار الآخرة.يأتي بعد هذين السببين سبب ثالث هو عمل الثقافة الإسلامية على تكوين زعماء ذوي ميول سامية يتمثلون الغرض الإسلامي تمام التمثّل ، ثم يندفعون بكل ما أوتوا من عقل وتدبير وقوة ونجدة في سبيل تحقيق ما تمثلوه ، همُّهم محصور في تحقيق مبتغاهم وما مبتغاهم سوى إعلاء شأن الإسلام وتوسيع ممتلكاته وضم ممالك جديدة إليه والحرص على سد كل ثغرة أو تصدع يحدث في بنيانه. ولقد كان لهؤلاء الزعماء أثر واضح في تنمية ممتلكات الدولة الإسلامية ومد ظلها وتوسيع رقعتها كما امتازوا بأنهم كانوا بناة مجد يقدمون المصلحة العامة على المصلحة الفردية الخاصة فما طمع أحد منهم بأن يستقل بمملكة أو ينفرد بقطر بل جعل كل منهم جهوده وحياته ومساعيه ملكاً لإمام المسلمين يموت للإسلام على أن يبنوا المجد الإسلامي دون أن يفكروا في بناء مجدهم الشخصي.كان الفرد يجاهد في سبيل الله وكان الزعيم يقود الجماعات في سبيل الله وكانت التربية الإسلامية تعمل على إعلاء كلمة الله وكانت النفوس موضوعة على الأكف للاستشهاد في سبيل الله، فكنت ترى الأمة الإسلامية تتحرك حركة نظامية تملكها فكرة واحد هي نصر الإسلام وإعلاء شأنه. عقل ناضج ووجدان طاهر وإدراك مصفى وغرض محدود وعمل لا ينقطع وانقياد للشرع لا يعتريه عصيان ولا تمرد آمنوا وعملوا الصالحات، وما الصالحات إلا توجيه الحياة بأسرها لإعلاء كلمة الدين، فمكَّن الله لهم في الأرض وأسبغ عليهم نعمة الأمن ونشر لهم سلطانهم في الخافقين وحقق لهم وعدهم إذ يقول : ” وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ” النور : 55 .
” هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ” الصف : 9 .
ويأتي بعد هذه الأسباب الثلاثة سبب رابع هو جعل الجهاد لنشر الإسلام وإعلاء شأنه لا للسلب والنهب، فكان الجيش يبيع نفسه لا لتحقيق مطمع ذاتي أو الاعتداء على الغير أو أخذ ماله ونهب داره واقتناء ممتلكاته، بل لتحقيق غرض سام ومقصد شريف آمَن به واختلط بلحمه ودمه. ومن الأسباب التي أدت إلى عظمة الإسلام تدقيق النظر في صحيفة الوجود ودرس الطبيعة البشرية، وجعل سياستهم دائرة على العمل لا على النظريات الخيالية، فكانوا ” رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ” الفتح : 29 . وقال: « وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ » الشورى : 38 . وقال تعالى ” لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ ” الحشر : 8 , 9 . وقال تعالى : ” لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ” التوبة : 117 .
وجميع الأوامر القرآنية تحث على العمل وتدعو إليه ، فيها التعاون والجهاد والعمل للغلبة في الأرض والتمكين فيها. ولا نجد فيها أمرًا واحدًا يدعو إلى التصورات النظرية والأوهام الخيالية. كذلك لا نجد فيها أمراً واحداً يأمر بالخنوع أويحسِّن الذلة، أو يحبب إلى النفس المهانة. علم المسلمون ذلك حق العلم ثم حققوا علمهم بالعمل فأبرزوا الأوامر إلى عالَم الوجود و بلغوا بها غايتها، فكانت أوامر الله ممتثلة وموجودة يعمل بها كل مسلم و تهتم بها كل الجماعة والدولة كما تهتم بها الأفراد.وفي الواقع إن الأوامر العملية التي تدعو إلى التمكين في الأرض وسيادة الكون وتسيير دفة الدنيا كانت موجهة إلى الأمة. وكان يشعر كل فرد في صدر الأمة بمسؤوليته في تحقيق مبدأ سيادة الكون فاندفعوا لتحقيق هذا الغرض بعد أن ملك هذا الشعور عليهم أمر نفوسهم فحقق الله لهم ما جعلوه نصب أعينهم وهو التمكين في الأرض وسيادتها .
وضعوا القرآن أمامهم واعتبروه هادياً ومرشداً فنفذوا جميع أوامره وهي أوامر عملية ينتهي العمل بها إلى التمكين في الأرض وسيادتها . بالعقيدة آمنوا به ، وما كان خاصاً بالعبادة قاموا به وما كان للغلبة في الأرض عملوا به. لم يقتصروا على بعض وصايا الكتاب وتعاليمه دون البعض الآخر، بل عملوا بالكل ونفذوا الجميع، وامتثلوا التعاليم من أولها إلى آخرها فكان لهم مجتمع مؤمن إيماناً صحيحاً صادقًا متخلق بمكارم الأخلاق على أكمل وجوهها، وعامل على نيل السعادة في الدنيا والغلبة فيها بجميع الطرق: إيمان وعبادة وملك، ثروة ونظام وإدارة، جيوش وسياسة وقوة، مدنية في دين ، و عز في رحمة، وشوكة يصحبها السلام في الأرض، وتحف من حولها السكينة في الدنيا، رضي الله عنهم ورضوا عنه ، أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.
ومن الأسباب التي أدت إلى عظمة الإسلام شعور كل مسلم بأن عليه واجباً نحو الوحدة الإسلامية، شعوراً يهدي للعمل ويؤدي إلى تحقيق المقصد. ما كانت الوحدة أمراً خيالياً يكتفي المؤمن منه بجعله يمر في ذهنه ساعة من نهار أو عند حلول نكبة بالعالَم الإسلامي أو عند ظهور صيحة تدعو للوحدة. بل كانت شعوراً يؤثر في نفس صاحبه، ويسير به نحو العمل. كانت ملكة تصدر عنها الأعمال. كانت خُلُقاً ينشأ عنه الفعل بدون شعور ولا روية. كانت أمراً مثمراً وشأناً منتجاً، كانت مصدر اشتراك العالم الإسلامي في الدفاع عن حدوده، وسبب تطوع الآلاف المؤلفة من أقصى المشرق للذود عن حوزة الإسلام بأقصى المغرب، شعور واحد، وكلمة مجتمعة، قلب واحد وغاية متحدة. ذلك سر العظمة الإسلامية في الصدر الأول.
ومن الأسباب التي أدت إلى عظمة المسلمين استماعهم لرأي الحكماء منهم. كان يسمعون، يبنون الرجال ولا يهدمونهم ، فكانت الخطط التي توضع لعظمة الأمة تنتقل من يد عظيم ليد عظيم، وكلهم بانٍ وكلهم مشيد، لا يهدم الثاني ما بناه الأولُ ، ولا يرغب المتأخر في مقاومة خطة المتقدم، لأن للجميع غاية واحدة، هي إعلاء كلمة الإسلام، فكل عامل لها هو إمام، وكل بانٍ فيها فهو قدوة، وأسوة حسنة. ذلك سر من أسرار العظمة الإسلامية يوم دانت لهم الأرض وهيمنوا على معظم البسيطة.
ومن الأسباب التي أدت إلى عظمة المسلمين في صدر الملة اهتمام أولي الحل والعقد منهم بعد السماح بتجزئة المملكة الإسلامية والإسراع إلى سد كل ثلمة تحدث في بناء العظمة الإسلامية فما قامت فتنة إلا سارعوا إلى إطفائها، ولا هجم عدو إلى الحدود الإسلامية إلا وطاروا إليه ليردّوه عنها. كان العمل للبناء محكماً ومستديماً. وكان العمل على سد الفتوق وإصلاح المتهدم سريعاً ومتقناً، وما دخل في أيديهم شيء إلا استماتوا في الدفاع عنه، فكانت ممتلكاتهم لا يطمع فيها العدو ولا يقرب منها المغير. ومن الأسباب التي نشأت عنها العظمة الإسلامية السهر على حفظ المملكة وجعل هذا السهر من أفضل القربات التي يرجى ثوابها في الدار الآخرة. وإن نظرة واحدة في تاريخ المسلمين تنبئ بأن الرغبة في رضوان الله كانت منشأ جلائل الأعمال التي نهضت بالمملكة الإسلامية.
كل ذلك يدل على أن إلى التربية الإسلامية يرجع كل الأثر في إبلاغ الدولة الإسلامية أعلى مراتب المجد وأسمى مكانات العزة. فعسى أن يوفق الله الأمة الإسلامية إلى إعادة النظر في موقفها الحالي ودرس أسباب العظمة التي نالها أسلافهم وعمل بما فيه. والأمة مخاطبة في لسان الشارع بأن تقوم بأوامر الكتاب ما كان منها متعلقاً بالعبادات والعقائد، وما كان منها متعلقاً بشؤون الاجتماع ووجوه التمكين في الأرض وإلا فهي آثمة واعتبرت مخالفة لأوامر الكتاب الكريم. فعظمة المسلمين كأمة معقودة بإحياء العمل بكتاب الله. هداهم الله وسدد خطاهم، إنه على ما يشاء قدير.
بعد ما قرأت المقال وجدت كاتبه و كأنه ينظر لواقعنا البائس اليوم و يتطوع ليجيب لنا عن الأسئلة الحائرة ؟ لماذا صرنا إلى هذا الذل والهوان والخنوع ؟
لأننا حولنا القرآن إلى مجرد تراتيل و أصوات وهم امتثلوا أوامر الله فعمل بها كل مسلم و جماعة ودولة فصاغت أولوياتهم وسيطرت على أحاسيسهم وملكت مشاعرهم وأصبح معيار السعادة الحقيقية هو إعلاء كلمة الله وعز الإسلام ولم يسعوا لبناء مجد شخصي ولا لبناء امبراطورية وملك دنيوي ومن صدق الله ؛ صدقه الله .

فيديو أسباب عظمة المسلمين في الصدر الأول ؟

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان