الأيديولوجية القطبية وفقه الدماء

هناك مناطق تضيق فيها عيون المصفاة وتكثر فيها الخانات السود،إنها تلك المتعلقة بالحياة السياسية والحياة الجنسية 

تنتمي هاتين العبارتين محدودتين الكلمات متراميتان أطراف المعاني إلي الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو فبوصف بليغ إستطاع فوكو أن يصف حال النقاش الجدلي الذي يمكن أن يطرح في أي من هاتين المنطقتين وأحب أن أضيف في وطننا العربي وعالمنا الإسلامي منطقة ثالثة وهي الحياة الدينية .

هناك مثل عربي يقول ” لا يفل الحديد إلا الحديد ” وبالنسبة لحالتنا هذا فإن الأسلوب الأمثل بجانب المواجهة الأمنية هي محاربة الفكر بالفكر ، فمع تزايد موجات العنف التي ضربت الوطن العربي في أعقاب إنتفاضات الربيع العربي وإنتشرت حول العالم فإستهدفت عدة مدن أوروبية يبدو أنه لامناص من المواجهة الفكرية إلي جانب المواجهة الأمنية ، الأمر الذي يستدعي وجوب معرفة القواعد التنظيرية للبناء العقلي لجماعات الإسلام السياسي .

*محورة التنظيرات حول الذات الإلهية

نظَّر أبو الأعلي المودودي  للحاكمية وهي تطبيق شرع الله وأنه ” إن الحكم إلا لله ” وأن الله وحده مالك الأرض وماعليها وهو ما يجعل الأيديولوجية التي شكلها للجماعات الإسلامية تتمركز حول الذات الإلهية ، وكان الخوارج هم من أدخلوا هذا المفهوم حين رفضوا التحكيم بين أبوموسي الأشعري وعمرو بن العاص وقالوا “لم حكم الرجال إن الحكم إلا لله” ، والحاكمية بمفهومها عند المودودي تعني أن كافة القوانين الوضعية تتهاوي لإفتقادها قاعدة إرتكاز شرعية ، وإستعرض في مؤلفه “تدوين الدستور الإسلامي ” تسع مسائل علي رأسهم الحاكمية مما يسهل وضعها في قالب دستوري يتماشي مع الأنظمة السياسية الحديثة ، وإستكمل أن نظام الحكم الإسلامي ينبغي أن يكون إستنادا إلي حكومة كالتي كانت موجودة في العهد النبوي وعهد الخلفاء الراشدين ، كما ان مطبق حاكمية الله وليس حاملها هو الخليفة ، وقد قسم المودودي ثنائية الصراع في العالم إلي مجتمع الكفار الجاهلي ، ومجتمع المؤمنين من المسلمين أو كما ذكرها البعض بثنائية دار الإسلام ودار الحرب . وبالإنتقال غرباً من باكستان إلي وادي النيل تأثر سيد قطب بهذه الأفكار ونَظَّر لها في سجون النظام الناصري ووظفها كسلاح عقائدي ومعرفي ضد نظام عبد الناصر الإشتراكي ، وهو ماأسس أيديولوجية ذات طابع راديكالي ، وسعت من دائرة تكفير الآخر من خلال بالإستشهادات ببعض العلماء القدامي أمثال  بن تيمية الذي ذكر في “مجموعة الفتاوي” :أن هؤلاء الممتنعين عن هذه الواجبات ليسوا بغاة،إنما هم كفرة خارجون عن الإسلام وشتان مابين الأمرين،ومابين الأمرين،وقال:-وهؤلاء عند المحققين من العلماء وليسوا بمنزلة البغاة الخارجين علي الإمام أو الخارجين عن طاعته،كأهل الشام مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه،فإن هرلاء خارجون عن طاعة إمام معين،أو خارجون عليه إزالة ولايته،أما المذكورون فهم خارجون عن الإسلام بمنزلة مانعي الزكاة وبمنزلة الخوارج الذين قاتلهم علي بن أبي طالب  ويدلل علي كفرهم بالآية 65 من سورة النساء”

* حفريات من عهد الراشدين

في تاريخ الطبري وفيما قيل نقلاً عن (عمر ابن الخطاب) أنه قال في شأن حادثة السقيفة”فلا يغرن امرأً أن يقول:أن بيعة ابي بكر كانت فَلتهَ(أبن هشام وهو من الانصار)…وأنه كان خبرنا حين توفي الله نبيه (ص)أن عليّا والزبير ومن معهما(بنو هاشم)تخلفوا عنا في بيت فاطمة،وتخلفت عنا الأنصار بأسرها وإجتمعع المهاجرون بأبي بكر فقلت لأبي بكر:إنطلق بنا إلي إخواننا من الأنصار….”

وفي موضع آخر مما قيل نقلاً عن عمر”…قال(أي أبي بكر):يامعشر الأنصار،فإنكم لاتذكرون منكم فضلاً إلا وأنتم له اهل،وان العرب لاتعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش،وهم أوسط العرب داراً ونسباً،ولكن قد رضيت لكم احد هذين الرجلين،فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ……”

وفي موضع آخر وفي رواية اخري”جاء رجل يسعي فقال هاتيك الأنصار قد إجتمعت في ظُلة بني ساعدة يبايعون رجلا منهم،يقولون منا أمير ومن قريش أمير،……فتكلم ابو بكر فلم يترك شيئا نزل في الأنصار ولا ذكره رسول الله(ص) من شأنهم إلا وذكره.وقال لقد علمتم أن رسول الله قال:لو سلكت الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً لسلكتُ وادي الأنصار،ولقد علمت ياسعد أن رسول الله قال وأنت قاعد:قريش ولاة هذا الأمر فبر الناس إتباعهم تبع لبرهم،وفاجرهم تبع لفاجرهم.فقال سعد:صدقت،فنحن الوزراء وأنتم الأمراء.

وفي رواية أخري”يقول ابو سفيان لعلي:مابال هذا الأمر في أقل حي من قريش!والله لئن شئت لأملئنها عليه خيلاً ورجالاً!قال:فقال(علي):يأبا سفيان،طالما عاديت الإسلام وأهله فلم تضره بذاك شيئاً! إنا وجدنا أبا بكر لها أهلاً.

ويُذَكرني في هذا الصدد إعلان السلطان سليم الأول نفسه خليفة للمسلمين ونجاحه في إضفاء الشرعية علي الإستعمار العثماني للوطن العربي بعد إنتصاره علي طومان باي بمرسوم ميلان الذي أصدره الإمبراطور قسطنطين ، فقد ذهبت بعض آراء المؤرخين إلي أن المرسوم الإمبراطوري الذي في العام 313ق.م أن الهدف من هذا الإعلان سياسي بحت بحيث أن الأوضاع التي كانت تمر بها الإمبراطورية آنذاك كانت تحتاج إلي إستمالة المسيحيين إلي جانبه بعد أن رأي قسطنطين أتباع هؤلاء الدين يتحدون الحكومة المركزية،يموتون تمسكا عن عقيدتهم دون خوف،وأن صهر كافة كافة أتباع الإمبراطورية في بوتقة دينية واللعب علي الجانب العقدي هو الحل الأمثل في التخلص من تلك الإنقسامات ، وهو ما تنفيه آراء الكنيسة ورجال الدين.

وبإستعراض ماجاء في روايات الطبري نجد أن النظام السياسي للدولة في لم يكن يعرف فكرة الرئيس المنتخب إلا من خلال ما جاء في الآية الكريمة {وأمرهم شوري بينهم} وهو ما كان محمد(ص) يدربهم عليه في أمور عديدة،ولكن فعلياً كان محمد هو الإمام والمشرع والسياسي والقائد بحكم ما منحه الله من الصفات النبوية والحكمة الإلهية،وهو مالانختلف عليه، ولكن روايات الطبري تشير إلي إنقسامات ضربت كفتي ميزان القوي في العاصمة وهما المهاجرين والأنصار والأفجع كان في إعتزال بنو هاشم وهم من المهاجرين  للإجتماع،والتي يمكن أن أصفها بنزعات قبلية كانت في سبيلها للتغلغل وإستعادة مكانها التقليدي من جديد بعد موت الرسول.

وإذا وصفنا بالمصطلحات الحديثة هذه الحادثة بالإنقسامات السياسية،وإذا حللنا الأمور تحليلا سياسيا بحتاً نجد أن أبو بكر وعمر قد أدركا قواعد اللعبة السياسية،نظراً لأنهما من قدامي صحابة الرسول المعلم والسياسي الأول،وحسموا الصراعات السياسية بحنكة بالغة وهو ما قاله أبو يكر حين ذهب إلي السقيفة وحسم الأمور بحديث رسول الله بخصوص أن الأنصار اهل علم في تشبيهه للأنصار بالحكمة في سلك وديان الصحراء المحفوفة بالمخاطر،ولكنه قال أن قريش ولاة هذا الأمر،فإنقلبت صياغة العبارة التي إتفق عليها الأنصار من “منا أمير ومن قريش أمير” إلي صياغة سعد إبن عبادة “نحن الوزراء وأنتم الأمراء”.وفي شأن موازين القوي التي رفضتها النزعة الإيمانية في نفس (عليّ)، ما قاله أبو سفيان ان الأمر ذهب إلي أقل حي من أحياء قريش وأنه لو أراد لملأ المدينة علي أبو بكر خيلا ورجالا وهو مارفضه علي إتقاءا للفتنة.

أي أن الأمر لم يكن دينياً بحتاً،وهذا لا يعني خلو نفس أبا بكر وعمر من الرغبة في حفظ وحدة الصف الإسلامي وحفاظاً علي الدين بعد وفاة الرسول لمواجهة التهديدات المستقبلية،ولكن حين يتعلق الأمر بشئون الدولة والحكم فإن النزعة السياسية للأمور تكون من العوامل الأساسية في تشكيل مجريات الأمور.

إشكاليات مزمنة بين العقيدة والتاريخ*

من خلال ماتقدم يتضح لنا بعد إستكشاف أكثر المناطق حساسية في التاريخ العربي، أن هناك إشكاليتين رئيسيتين وهما:-

تكمن الإشكالية الأولي في الصعوبة في الفصل بين البعد الأيديويلوجي العقائدي والبعد التاريخي لظاهرة الإسلام السياسي.فتتعقد الأمور وتتشابك بعد الدمج بين الأيديولوجية القطبية والعقيدة السلفية فكان مفهوم الجاهلية قالب سَهَل إحتواء مفهوم الولاء والبراء نظراً لإلتقائهما في نقطة النظرة الثنائية للصراع البشري.الأمر الذي شَكَل سلفية حهادية أكثر تسيساً من الوهابية وأقل تفقهاً منها،وعدم إعمال العقل بأي شكل من الأشكال وذلك من خلال تأويل النصوص القرآنية وترقية تلك التأويلات إلي مايوازي نصوص الذكر الحكيم من حيث الثبوت والقطعية.واضفاء ختم القدسية الاعظم بجعل تلك التنظيرات تتمحور حول الذات الإلهية.ومن خلال السرد المنظم الموجه لسيرة الصحابة والتابعين،وبإستغلال قلة الوعي الثقافي بكافة نواحيه نتيجة لقرون عاناها العالم العربي والاسلامي من استعمار عثماني تلاه استعمار اوروبي شكلت تلك التنظيرات مع الوقت حصنا عتيدا يصعب اختراقه نظرا لما يحتويه من قدسية وجلال في مجتمعاتنا الشرقية المحافظة.

أما الإشكالية الثانية تكمن الإلتباس المصطلحي والمفاهيمي،فهل نجدد أم نطور الخطاب…؟ والحقيقة أن الخطاب الديني في حاجة إلي التجديد ولكن الفصل بين البعد التاريخي والبعد العقائدي للخطاب الديني امر بالغ الصعوبة،خاصة حين يتعلق الأمر بعلوم الدين التي يشكل القرآن الكريم والمعقول المنطقي من الروايات المنسوبة للرسول(ص)ركني البناء فيها،ومع معرفة أن الخطاب هو من وسائط التمثيل والتعبير عن مضمون المفهوم من النص القرآني والسيرة النبوية المفسرة له وفقاً لظروف عصرها، خاصة في ظل الإفتقار اللغوي الذي يعانيه العالم العربي والإسلامي،وعدم وجود عقلية التي لا تستطييع ان تطور وتعالج المشكلات في المنتوج الإجتهادي والتأويلي  القديم ،فما بالك أن تنتج جديد مُؤَهل أن يحل محل القديم،إذا نحن بحاجة إلي عقليات قادرة علي التطوير والمعالجة وصولاً إلي مرحلة الإنتاج الفعلي وإستبدال مفاهيم بالية جديدة..

والإشكالية الكبري التي تعود لقرون خلت حين وجهت ضربات قضت علي إعمال العقل والرأي في المواجهات التي خاضها علماء الكلام في حقل العبادات وقوضت كل محاولات العلماء أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده لإعمال العقل في الدين..

فيديو الأيديولوجية القطبية وفقه الدماء

 

 

أضف تعليقك هنا