شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (2/16)

ما هي أسباب ارتقاء المسلمين في الماضي ؟

إن أسباب الارتقاء كانت عائدة في مجملها إلى الديانة الإسلامية التي كانت ظهرت جديدًا في الجزيرة العربية فدان بها قبائل العرب ، وتحولوا بهدايتها من الفُرقة إلى الوحدة ، ومن الجاهلية إلى المدنية ، ومن القسوة إلى الرحمة ، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الأحد ، وتبدلوا بأرواحهم الأولى أرواحًا جديدة ، صيرتهم إلى ما صاروا إليه من عز ومنعة ، ومجد وعرفان وثروة ، وفتحوا نصف كرة الأرض في نصف قرن ، ولولا الخلاف الذي عاد فدب بينهم منذ أواخر خلافة عثمان وفي خلافة علي ( رضي الله عنه ) لكانوا أكملوا فتح العالم ولم يقف في وجههم واقف .

على أن تلك الفتوحات التي فتحوها في نصف قرن أو ثلثي قرن برغم الحروب التي تسببت بها مشاقّة معاوية لعلي والحروب التي وقعت بين بني أمية وابن الزبير – قد أدهشت عقول العقلاء والمؤرخين والمفكرين ، وحيرت الفاتحين الكبار ، وأذهلت نابليون بونابرت أعظمهم ، وله تصريح في ذلك .

فالقرآن أنشأ إذًا العرب نشأة مستأنفة وأخرجهم من جزيرتهم والسيف في إحدى اليدين والكتاب في الأخرى يفتحون ويَسُودون ويتمكنون في الأرض . ولا عبرة بما يقال في شأن العرب قبل الإسلام ، وما يُروَى من فتوحات لهم ، وما ينوه به من أخلاق عظام في الجاهلية ، فهذه قد كانت ولا تزال آثارها ظاهرة ، ولا يكفي مدنية العرب القديمة وأنها من أقدم مدنيات العالم ، ومما يرجح أن الكتابة قد بدأت عندهم ، ولكن دائرة تلك المدنية كانت محدودة مقصورة على الجزيرة وما جاورها . وقد أتى على العرب حين الدهر سادهم الغرباء في أرضهم ، وأذلهم الأجانب في عقر دارهم ، كالفرس في اليمن وعُمَان وفي الحيرة ، وكالحبشة في اليمن ، وكالروم في أطراف الحجاز ومشارف الشام . والحقيقة أنهم لم يستقلوا استقلالاً حقيقيًّا إلا بالإسلام ، ولم تعرفهم الأمم البعيدة وتخنع لهم وتتحدث بصولتهم ، ولم يقعدوا من التاريخ المقعد الذي أحلهم في الصف الأول من الأمم الفاتحة إلا بمحمد صلى الله عليه وسلم .

فالسبب الذي به نهضوا وفتحوا ، وسادوا وشادوا ، وبلغوا هذه المبالغ كلها من المجد والرقي يجب علينا أن نبحث عنه وننشده ، ونُحفي المسألة ونمعن في النشدان :

هل هو باقٍ في العرب وهم قد تأخروا برغم وجوده وتأخر معهم تلاميذهم الذين هم سائر المسلمين ؟ أم قد ارتفع هذا السبب من بينهم ، ولم يبق من الإيمان إلا اسمه ، ومن الإسلام إلا رسمه ، ومع القرآن إلا الترنم به من دون العمل بأوامره ونواهيه ، إلى غير ذلك مما كان في صدر الملة ؟

فَقْدُ المسلمين السبب الذي سار به سلفهم .

إذا فحصنا عن ذلك وجدنا أن السبب الذي به استقام هذا الأمر قد أصبح مفقودًا بلا نزاع وإن كان بقي منه شيء فكباقي الوشم في ظاهر اليد . فلو كان الله تعالى وعد المؤمنين بالعزة بمجرد الاسم دون الفعل لكان يحق لنا أن نقول : أين عزة المؤمنين ؟ من قوله تعالى : { وَلِلَّهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } ( المنافقون : 8 ) ولو كان الله قد قال : { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ المُؤْمِنِينَ } ( الروم : 47 )

بمعنى أنه ينصرهم بدون أدنى مزيّة فيهم سوى أنهم يعلنون كونهم مسلمين ، لكان ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح بالنصر . ولكن النصوص التي في القرآن هي غير هذا ، فالله غير مُخلف وعده والقرآن لم يتغير ، وإنما المسلمون هم الذين تغيروا ، والله تعالى أنذر بهذا فقال : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ } ( الرعد : 11 ) فلما كان المسلمون قد غيروا ما بأنفسهم – كان من العجب أن لا يغير الله ما بهم ، وأن لا يبدلهم الذل والضِّعة من ذلك العز وتلك الرفعة ، بل كان ذلك منافيًا للعدل الإلهي . والله عز وجل هو العدل المحض .

كيف ترى في أمة ينصرها الله بدون عمل ويفيض عليها الخيرات التي كان يفيضها على آبائها ، وهي قد قعدت عن جميع العزائم التي قد كان يقوم بها آباؤها ؟ ! وذلك يكون مخالفًا للحكمة الإلهية ، والله هو العزيز الحكيم . ما قولك في عزة بدون استحقاق ، وفي غلة بدون حرث ولا زرع ، وفي فوز بدون سعي ولا كسب ، وفي تأييد بدون أدنى سبب يوجب التأييد ؟ لا جرم أن هذا مما يغري الناس بالكسل ، ويحُول بينهم وبين العمل ، بل مما يخالف النواميس التي أقام الله الكون عليها ، ومما يستوي به الحق والباطل ، والضار والنافع ، وحاشا لله أن يفعل ذلك . ولو أيد الله مخلوقًا بدون عمل لأيَّد من

دون عمل محمدًا رسوله ولم يُحوجه إلى القتال والنزال والنضال ، واتباع سنن الكون الطبيعية للوصول إلى الغاية . وتصوَّرْ أمة لله عندها مائة وهي تؤدي من المائة خمسة فقط أتعد نفسها قد أدت ما عليها وتطمع في أن يكافئها الله كما كان يكافئ أجدادها الذين كانوا يؤدون المائة مائة ، وإن قصروا عن المائة أدوا بالأقل تسعين أو ثمانين ؟ كلا . هذا مخالف لما وعد الله على رسله ومخالف للعقل والمنطق ، وليس هذا هو الشرط الذي شرطه الله على المؤمنين ، وليس هذا هو البيع الذي يستبشر به المؤمنون .

قال الله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقاًّ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ } ( التوبة : 111 ) فأين حالة المسلمين اليوم من هذا الوصف الذي في كتاب الله ؟ وأين حالتهم من سلفهم الذين كانوا يتهافتون على الموت لإحراز الشهادة وكثيرًا ما كانوا ينشدون الموت ولا يجدونه ؟ وكان فارسهم يكر وهو يقول : إني لأشم ريح الجنة ، ثم لا يزال يكر ويخوض غمرات الحرب حتى إذا استشهد قال : هذا يوم الفرح ، وإذا فاتته الشهادة برغم حرصه عليها عاد إلى قومه حزينًا .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (2/16)

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان