شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (15 / 16 )

ما أسباب تأخر أوربا الماضي ونهضتها الحاضرة ؟!

أفنجعل هذا التأخر الذي كان عليه الأوربيون في القرون الوسطى مدة ألف سنة – ناشئًا عن النصرانية التي كانت دينهم الذي يعَضّون عليه بالنواجذ ؟ نعم ، إن الأمم البروتستانية منهم تجعل مصدر هذا التأخر الكنيسة البابوية لا النصرانية من حيث هي . وتزعم أن نهضة أوربا لم تبدأ إلا بخروج ( لوثير ، وكلفين ) على الكنيسة الرومانية .

وأما فولتير ومَن في حزبه من أقطاب الملاحدة فلا يفرقون كثيرًا بين الكاثوليك والبروتستانت ، وعندهم أن جميع هذه العقائد واحدة وأنها عائقة عن العلم والرقي ؛ ولهذا قال فولتير تلك الكلمة عندما ذُكر لديه لوثير وكلفين ، قال : ( كلاهما لا يصلح أن يكون حذاءً لمحمد ) ! يريد أن محمدًا صلى الله عليه وسلم بلغ من الإصلاح ما لم يبلغا أدناه ، مع اعتقاد الكثيرين أن مذهبهما كان فجر أنوار أوربا .

والحق الذي لا نرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسؤولة عن جهالة الإفرنج المسيحيين مدة ألف سنة في القرون الوسطى بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوربا .

وهؤلاء اليابانيون هم وثنيون . ومنهم مَن هم على مذهب بوذا . ومنهم من يقال : لهم طاويون ، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس . ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة ، ولم تكن لهم هذه المدنية الباهرة ولا هذه القوة والمكانة بين الأمم . ثم نهض اليابان من نحو ستين سنة وترقوا وعزوا وغلظ أمرهم ، وعلا قدرهم ، وصاروا إلى ما صاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين . فلا كانت الوثنية إذًا سبب تأخرهم الماضي ، ولا هي سبب تقدمهم الحاضر ، وقد تقاوت اليابان والروسية وتحاربتا فتغلبت اليابان على الروسية . مع أن اليابانيين في العدد هم نصف الروس ، ولكن مما لا شك فيه أن اليابانيين أرقى من الروس ، والحال أن الروسية عريقة في النصرانية ، واليابان عريقة في الوثنية . فليترك إذًا بعض الناس جعْل الأديان هي المعيار للتأخر والتقدم   .

أفنقول من أجل هذا المثال : إن الإنجيل هو الذي أخَّر الروسية عن درجة اليابان ، وإن عبادة الإلهة ابنة الشمس هي التي جذبت بضبع اليابان حتى سبقت الروسية ؟

إن لهذه الحوادث أسبابًا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى ، فإذا تراكمت هذه العوامل في خير أو شر تغلبت على تأثير الأديان والعقائد ، وأصبحت فضائل أقوم الأديان عاجزة بإزاء شرها ، كما أصبحت معايب أسخفها غير مؤثرة في جانب خيرها .

ولسنا هنا في صدد أسباب تقدم اليابان السريع حتى نبين أن اعتقاد عامتهم ( وجود حصان مقدس يركبه الإله فلان ) – لم يقف حائلاً دون تقدمهم المبني على ما رُكب في فطرتهم من الحماسة ، وما أوتوا من الذكاء ، وما أورثهم نظام الإقطاع القديم من التنافس في المجد والقوة وعندنا أمثلة كثيرة لا تكاد تُحصى في هذا الباب اجتزأنا منها بما ذكرناه . ولم نكن لنتعرض لهذا المقام لولا حملات القسوس والمبشرين وكثير من الأوربيين على الإسلام ، وزعمهم أنه هو عنوان التأخر ، وأنه رمز الجمود ، وتحدثهم بذلك في الأندية والمجامع ، ونشرهم هذه الافتراءات في المجلات والجرائد ، وقولهم : إن الشجرة تعرف من ثمارها ، وإن حالة العالم الإسلامي الحاضرة هي نتيجة جمود

الإسلام ، وتحجر القرآن ! { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً }  ( الكهف : 5 ) .

وحسبك أن المسيو ( سان ) المقيم الإفرنسي السامي في المغرب ينشر في العدد الأخير من ( مجلة الإحياء ) الإفرنسية مقالة يتكلم فيها عن يقظة المغرب بعد     ( ليل الإسلام ) ! هكذا تعبيره .

فإن كان تأخر إحدى الممالك الإسلامية حقبة من الدهر يجب أن يقال : فيه      ( ليل الإسلام ) فكم كان ليل النصرانية طويلاً عندما بقيت أوربة المسيحية زهاء ألف سنة وهي في حالة الهمجية أو ما يقرب من الهمجية ؟! لماذا – أيها الناس – تُدخلون الأديان فيما هي براءة منه ؟ ولماذا تقحمونها في موضوع يكذبكم فيه التاريخ بأماثيله الجمة ؟!

إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعْلها هي معيار الترقي والتردّي ليس من النَّصَفَة في شيء . حث القرآن على العلم باعث للمسلمين على سبْق الأمم في الرقي : والعالم الإسلامي يمكنه النهوض والرقي واللحاق بالأمم العزيزة الغالبة إذا أراد ذلك المسلمون ووطنوا أنفسهم فيه . ولا يزيدهم الإسلام إلا بصيرة فيه وعزمًا . ولن يجدوا لأنفسهم حافزًا على العلم والفن خيرًا من القرآن الذي فيه : { هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ } ( الزمر : 9 ) ، والذي فيه : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العِلْمِ } ( البقرة : 247 ) والذي فيه : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ } ( آل عمران : 7 ) والذي فيه : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا العِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ } ( آل عمران : 18 ) والذي فيه : { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ } ( العنكبوت : 49 ) والذي فيه : { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ } ( المجادلة : 11 ) والذي فيه : { وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } ( البقرة : 129 ) وفيه : { يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } ( البقرة : 269 ) وفيه : { فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُّلْكاً عَظِيماً } ( النساء : 54 ) وغير ذلك من الآيات الكريمة ، فيه ما هو خاص بالأمة العربية : { هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } ( الجمعة : 2 ) .

وقد زعم بعضهم ومن جملتهم ( سيكار ) هذا الذي بالمغرب الذي ألّف في الطعن على الإسلام ، والذي يكتب في مجلة (مراكش الكاثوليكية)- أن المراد بلفظة  ( العلم ) في القرآن هو العلم الديني ، ولم يكن المقصود به العلم مطلقًا لنستظهر به على قضية تعظيم القرآن للعلم وإيجابه للتعليم . وقد أتى سيكار من المغالطة في هذا الباب ما لا يستحق أن يرد عليه لما فيه من المكابرة في المحسوس . وكل من تأمل في مواقع هذه الآيات المتعلقة بالعلم وبالحكمة وغيرها مما يحث على السير في الأرض والنظر والتفكير يعلم أن المراد هنا بالعلم هو العلم على إطلاقه متناولاً كل شيء ، وأن المراد بالحكمة هي الحكمة العلمية المعروفة عند الناس ، وهي غير الآيات المنزلة والكتاب كما يدل عليه العطف ، وهو يقتضي المغايرة . ويعزز ذلك الحديث النبوي الشهير : ( اطلبوا العلم ولو في الصين ) فلو كان المراد بالعلم هو العلم الديني – كما زعم سيكار – ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث على طلبه ولو في الصين ؛ إذ أهل الصين وثنيون ، لا يجعلهم النبي مرجعًا للعلم الديني كما لا يخفى .

وفي بعض الآيات من القرائن اللفظية والمعنوية ما يقتضي أن المراد بالعلم علم الكون ؛ لأنه في سياق الخلق والتكوين وهي في القرآن أضعاف الآيات في العبادات العملية كالصلاة والصيام ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ العُلَمَاءُ } ( فاطر : 27-28 ) ؛ أي العلماء بما ذكر في الآية من الماء والنبات والجبال وسائر المواليد المختلفة الألوان وما فيها من أسرار الخلق ؛ لا العلماء بالصلاة والصيام والقيام .

وقد كنا ظننا هذا الرجل على شيء من حب الحقيقة ، فلما أنكر المدنية الإسلامية رددنا عليه في ( المنار ) وجادلناه بالتي هي أحسن ، وعظَّمنا من قدر المدنية المسيحية ووقرنا منها ورددنا على القائلين من الأوربيين بأن النصرانية كانت وقفًا لسير المدنية وسببًا لسقوط اليونان والرومان إلى غير ذلك . فكان من سيكار هذا أن نشر سلسلة مقالات تتضمن من الطعن على الإسلام ما لو جئنا نرده لم نستغنِ عن إيراد شُبه واعتراضات تتعلق بالدين المسيحي ، مما نأبى أن نتعرض له ؛ لأنه ليس من العدل ولا من الكياسة ولا من حسن الذوق – أن نغيظ ( إخواننا ) المسيحيين من أجل رجل اسمه سيكار أو غيره من هذه الطبقة من الدعاة والمبشرين . هذا زائدًا إلى ما رأيناه في كلامه من الخلط والخبط والمغالطة التي من قبيل قوله : إن العلم المقصود في القرآن ليس هو العلم المعروف عند الناس بمفهومه المطلق وإنما هو العلم الديني فقط ؛ لأن القرآن لا يهمه شيء من علوم الدنيا ! فمكابر كهذا لا يستحق الجواب .

ثم علمنا أن المسيو سيكار هذا هو من مستخدمي فرنسا في الرباط بإدارة الأمور الإسلامية ، وأنه هو والمسيو لويس برينو مدير التعليم الإسلامي هناك ، والقومندان ماركو مدير قلم المراقبة على الجرائد والمطبوعات ، والقومندان مارتي مستشار العدلية الإسلامية ، ورهطًا آخرين – هم الذين لعبوا الدور الأهم في قضية العمل لتنصير البربر . وما كان استخدام فرنسة لهم في مهمات كلها عائد للإسلام إلا على نية نقض كل ما يقدرون عليه من بناء الإسلام بالمغرب ، وستذوق فرنسة – ولو بعد حين – وبال ما عملته وتعمله من التعرض للدين الإسلامي الذي تعهدت في معاهداتها باحترامه .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (15 / 16 )

 

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان