شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (16/16)

كلمة لطلاب النهضة القومية دون الدينية !

يقول بعض الناس   : ما لنا وللرجوع إلى القرآن في ابتعاث هِمَم المسلمين إلى التعليم ؛ فإن النهضة لا ينبغي أن تكون دينية بل وطنية قومية كما هي نهضة أهل أوربة ، ونجيبهم أن المقصود هو النهضة سواء كانت وطنية أم دينية على شرط أن تتوطن بها النفوس على الخبّ في حلبة العلم . ولكننا نخشى إن جردناها من دعوة القرآن أن تفضي بنا إلى الإلحاد والإباحة ، وعبادة الأبدان ، واتباع الشهوات ، مما ضرره يفوت نفعه . فلا بد لنا من تربية علمية سائرة جنبًا إلى جنب مع تربية دينية ، وهل يظن الناس عندنا في المشرق أن نهضة من نهضات أوربة جرت بدون تربية دينية ؟!

أفلم يقل رئيس نُظار ألمانية في الرايستاغ منذ ثلاث سنوات : إن ثقافتنا مبنية على الدين المسيحي . وهذا هو إعلان ألمانية التي هي المثل الأعلى في العلم والصناعة وإتقان الآلات والأدوات ، لا ينازع في ذلك أحد ولا أعداؤها . أفتوجد جامعة في ألمانية أو إنكلترة أو غيرهما من هذه الممالك الراقية بدون أن يكون فيها علم اللاهوت المسيحي ؟

ثم إنهم عندما يقولون في أوربة : ( نهضة وطنية ) ، أو ( نهضة قومية ) أو (جامعة وطنية ) ، أو ( قومية ) – لا يكون مرادهم بالوطن : التراب والماء والشجر والحجر . ولا بالقوم : السلالة التي تتحدّر كلها من دم واحد ، وإنما الوطن والقوم عندهم لفظتان تدلان على وطن وأمة بما فيهما من جغرافية وتاريخ وثقافة وحرث وعقيدة ودين وخلق وعادة مجموعًا ذلك معًا ، وهذا الذي يناضلون عنه ، ويستبسلون كل هذا الاستبسال من أجله . خلاصة الجواب أن المسلمين ينهضون بمثل ما نهض به غيرهم : إن الواجب على المسلمين لينهضوا ويتقدموا ويعرجوا في مصاعد المجد ويترقوا كما ترقى غيرهم من الأمم – هو الجهاد بالمال والنفس الذي أمر به الله في قرآنه مرارًا عديدة وهو ما يسمونه اليوم ( بالتضحية ) . فلن يتم للمسلمين ولا لأمة من الأمم نجاح ولا رقي إلا بالتضحية . وربما كان الشيخ محمد بسيوني عمران أو غيره من السائلين عن رأينا في هذا الموضوع قد ظن أني سأجيبه أن مفتاح الرقي هو قراءة نظريات ( أينشتين ) في النسبية مثلاً ، أو درس أشعة ( رونتيجن ) وميكروبات ( باستور ) ، أو التعويل في اللاسلكي على التموجات الصغيرة دون الكبيرة ، أو درس اختراعات ( أديسون ) ، وأن سبب حادثة المِنطاد الإنكليزي الذي سقط أخيرًا واحترق – هو كونه لم يُنفخ بالهليوم وإنما نُفخ بالهيدروجين ، والحال أن الهيدروجين – وإن كان أخف في الوزن – قابل للاشتعال ، وأنه لا خوف من اشتعال الهليوم ، وإن كان أثقل شيئًا من الهيدروجين ، وما أشبه ذلك . والحقيقة أن هذه الأمور إنما هي فروع لا أصول ، وأنها نتائج لا مقدمات ، وأن ( التضحية ) أو الجهاد بالمال وبالنفس هو العلم الأعلى ، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به – دانت لها سائر العلوم ، ودنت جميع القطوف .

وليس بالضروري أن يكون صاحب الحاجة عالمًا بعملها حتى يكون عالمًا بالاحتياج إليها . قال لي مرة حكيم الشرق السيد جمال الدين الأفغاني : ( إن الوالد الشفيق يكون من أجهل الجهلاء ، فإذا مرض ابنه اختار له أحذق الأطباء ، وعلم أن هناك شيئًا نافعًا هو العلم ، لا يعلم هو شيئًا منه ، ولكنه يعلم – بسائق حرصه على حياة ابنه – أنه ضروري ) . ولم يكن محمد علي عالمًا وربما كان أميًّا ، ولكنه بعث مصر من العدم إلى الوجود في زمن قصير ، وصيَّرها في زمانه من الدول العظام بسائق هذا العلم الأعلى الذي هو الإرادة ، وهو الذي يبعث صاحبه إلى التفتيش عن العلوم ، وحمل الأمة عليها .

فالمسلمون يمكنهم – إذا أرادوا وجردوا العزائم وعملوا بما حرضهم عليه كتابهم – أن يبلغوا مبالغ الأوربيين والأمريكيين واليابانيين من العلم والارتقاء ، وأن يبقوا على إسلامهم كما بقي أولئك على أديانهم ، بل هم أولى بذلك وأحرى ؛ فإن أولئك رجال ونحن رجال ، وإنما الذي ينقصنا الأعمال ، وإنما الذي يضرنا هو

التشاؤم والاستخذاء وانقطاع الآمال . فلننفض غبار اليأس ولنقدم إلى الأمام ، ولنعلم أننا بالِغُو كل أمنية بالعمل والدأب والإقدام ، وتحقيق شروط الإيمان التي في القرآن : { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ }           ( العنكبوت : 69 ) .

فيديو شكيب أرسلان : ما أسباب انحطاط وضعف المسلمين ؟! (16/16)

 

 

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان