إنَّكَ لن تَجْنِ من الشوكِ العنب!!

إذا وُجِدَ المضمون انصاع الشكل، وما نفكر به هو حتمًا ما نصل إليه. قد تطول المسافة بين ما نفكر به وبين وصولنا إليه، وربما تكون أقرب مما نتخيل. الفيصل في ذلك ليس بأيدينا، ولكن بأيدينا تعديل تفكيرنا ليكون مصيرنا أفضل. ترشَّح الكاتب الياباني يوكيو ميشيما (1925 – 1970) لجائزة نوبل للآداب ثلاث مرات، كان كاتبًا فذًا ومتفردًا في أسلوبه وطريقة سرده. كان التفكير السلبي السوداوي يغلب على كتابات ميشيما ؛ فكتب عن القنوط والحيرة الذي سيطرت على اليابانيين إثر الحرب العالمية الثانية. في روايته (اعترافات قناع) جسَّد ميشيما سيرته الذاتية، ونظَّرَ للانتحار كسبيل للشرف والنبل، وفي روايته (خيول هاربة) كان البطل مستعدًا للموت دفاعًا عن أفكاره، وقد لقي حتفه بنهاية الرواية ثمنًا لذلك، كما أن مجموعة من الساموراي بلغ عددهم ثمانين رجلًا قد أجهزوا على أنفسهم في انتحارٍ جماعي في ذات الرواية.

في إحدى روايات ميشيما اختار البطل الانتحار سبيلاً للخلاص من مُنغِّصات الحياة التي لا تنتهي، وفي روايته (شعور وطني) قام البطل بالانتحار بطريقة سيوكو العنيفة والمعروفة كذلك هاراكيري؛ وهي طريقة لغسل العار والتكفير عن الجرم كما أنَّ الجنود يستخدمونها تفاديًا للوقوع في الأسر. كانت هذه الأفكار تسيطر على يوكيو ميشيما نفسه؛ فانطبعت نسخًا متكررة منها في كتاباته على مدار سني عمره الأدبي. فماذا كانت نواتج هذه الأفكار التي كتب عنها ميشيما؟ بالطبع كما تقول يا صديقي؛ لقد كانت نهاية ميشيما هي الانتحار، نهاية حتمية لأننا ما نفكر فيه. ويأتي السؤال الآخر حول ميشيما: كيف كان انتحاره؟ ولن يفاجئك الجواب، لقد كان نسخة طبق الأصل من انتحار بطل مسرحيته الذي أجهز على نفسه مستخدمًا طريقة سيوكو!!

الأفكار التي نعتنقها بذور ستنمو لا محالة، وتختلف الفترة الزمنية اللازمة لنمو هذه الأفكار، لكن إنبات الفكرة وظهور ثمارها عملية غير عكسية. ينقلنا ذلك لأهمية مراجعة أفكارنا أولاً بأول، والوقوف على الأفكار المعطوبة واستبعادها فورًا، ربما يكون ذلك مؤلمًا وربما يكون صعبًا، إلا أننا بذلك نتفادى مضاعفات أكثر إيلامًا وأشد خطورة. سيطرة الفكرة على الشخص تؤدي لاستبدادها؛ فتقود هذه الفكرة كل مشاعره حتى لا تدع له فرصة لاستبدالها أو العدول عنها. هل تتخيل مدى سيطرة الفكرة السلبية على الإنسان؟ ربما لديك فكرة عن ذلك، لكن الوقوف على حجم هذه الكارثة يمكن معرفته من خلال ملابسات انتحار الكاتب النمساوي الأصل شتيفان تسفايغ (1881 – 1942)؛ فعلى الرغم من حصوله منذ فترة وجيزة على الجنسية البريطانية التي يحلم بها الكثير من الشباب، ومنهم من يرمي بنفسه في مركبٍ متهالك ليحظى بفرصة للعيش في بلدٍ أوروبي يؤمن مستقبلاً كريمًا لنفسه وأهله، إلا أنَّ تسفايغ آثر الانتحار على أن يبقى على قيد الحياة بعدما عاث النازيون في الأرض فسادًا. قد يكون ذلك غير كافيًا للتدليل على خطورة الفكرة السلبية، وليصبح هذا الدليل مناسبًا يتعين عليك معرفة أنَّ تسفايغ سطَّر بيده 192 رسالة لأصدقائه يشرح لهم فيها أسباب انتحاره، هل تتصور ذلك؟! ولقوة عربدة فكرة الانتحار في رأس تسفايغ لم يقوَ على الهروب منها، وبعد كتابته لهذا الكم الهائل من الرسائل أمسك بسلاحه وأطلق النار على نفسه. للفكرة السلبية في الرأس دَّويٌ كدَّويِ النحل، تقطعُ على المرء كلَّ سبيلٍ للتفكير الإيجابي، وتدفعُه قهرًا لتنفيذ ما فيه هلاكه وهلاك من حوله.

تهاجم البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية المرضى ذوي المناعة الضعيفة، بينما تقف أجهزة المناعة القوية حائطَ صدٍ قوي يردع هذه البكتريا. لاحِظ أن البكتريا لم تتغير، ولكن المناعة هي التي تختلف من شخصٍ لآخر. البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية هي نفسها الأفكار السلبية، والنفس القوية تنسف الأفكار السلبية ولا تسمح لها بالتواجد في محيطها، ولعدم تواجدها في محيط النفس القوية؛ فالأفكار السلبية ترجع القهقرى أمام النفس القوية معلنةً اندحارها.

تتكبد الدول مبالغ طائلة سنويًا في محاولات مستميتة للسيطرة على عدوى المستشفيات؛ ويرجع ذلك لمهاجمة البكتريا المقاومة للمضادات الحيوية (مثل الزوائف الزنجارية، والإيشيرشيا كولاي، والمكورات العنقودية الذهبية) للمرضى الذين خضعوا لعمليات جراحية، والمرضى الذين يُحجزون في المستشفيات لفترات طويلة، والمرضى ذوي المناعة الضعيفة، وكذلك الأطفال.

يوجد عامل مشترك بين هولاء المرضى يتمثل في وجود ثغرة تسمح بمهاجمتهم، تتمثل هذه الثغرة في القطع الجراحي، ويمكن إضافة ضعف المناعة لهذا الجرح مما يضاعف من تفاقم المشكلة. وبالمثل فإن الأفكار السلبية تتمكن من الفرد إذا ما قام بإمدادها بما يضاعف سيطرها عليه، فإن شاء الإنسان سمح لهذه الأفكار بهدم كل ما هو جميل، وإن شاء تحرر منها لينتصر لنفسه ولمجتمعه. إرادة الإنسان هي جهاز المناعة الذي يطرد الميكروبات ويفتك بها، كلما كانت مناعة الشخص قوية كلما استطاع مجابهة سيل الأفكار السلبية التي تتدفق عليه من آنٍ لآخر. لا يوجد على سطح الأرض إنسان ضعيف، وإنما يوجد عدد لا حصر له من الناس يجهلون مواطن قوتهم ومواهبهم التي متى تمسكوا بأهدابها؛ أذهلوا العالم وأسهموا في تقدم البشرية جمعاء، فضلاً عن تغيير حياتهم للأفضل.

بطبيعة الحال نتعرض جميعًا لبعض الأفكار السلبية، وأحيانًا تتدفق علينا سيول من هذه الأفكار القاتلة، ويظل هناك غشاء دقيق بمثابة غشاء الخلية يسمح بمرور بعضها دون الآخر. الغشاء الذي يقوم بهذه المهمة يحتاج منا إلى الحفاظ عليه باستمرار ليقاوم الأفكار القاتلة، ويساعدنا على تنفيذ الأفكار النيرة التي تقود حياتنا لما فيه الخير والرخاء لنا وللآخرين. قد لا تجد من يربت على كتفك ويرفع من معنوياتك في ظل الإيقاع السريع للحياة، وقد لا تجد إطراءً -تستحقه عن جدارة- من مديرك أو زملائك في العمل، وقد لا تجد الاهتمام الكافي من شريك الحياة، وقد لا تصل لأهدافك التي تخطط لها ليل نهار في حين أنَّ البعض قد تسلَّق لها على جناح الواسطة أو المحسوبية، قد تدفعك كلُّ هذه الأسباب وغيرها للتفكير بسوداوية، ولربما ترى أنَّك مُحِقٌ في توجهِك السلبي. كلُّ هذا يُدمي القلب ولا شك في ذلك، وبرغم كلِّ ما قد تطرحه من أسباب تروِّج بها لاستسلامك؛ فبإمكانك نحت نجاحك في صخور العقبات الصلدة المُجحِفة. عندها ستدرك مدى قوتك، وسيعلم الجميع أنك أقوى من الظروف والمحن، وستثبت لنفسك أولاً أنَّك تمتلك من القوة والجلد فوق ما كنت تتخيله.

الأفكار الخيِّرة صنعت أناسًا عظماء، شملوا الدنيا بجوانب مضيئة من الإيجابية. الأفكار الشريرة دمرت أصحابها قبل غيرهم، وطاردتهم لعنتها بعد مماتهم. أحيانًا تعقد مقارنةً بين الجلادين وضحاياهم، وقد تقطِّبُ وجهك وأنت تصرخُ في استنكار: مات كلُّ هولاء الأبرياء، وعاش الجلاد يضحك وهم يتعذبون!! لما يحدث ذلك؟! وأين الإيجابية التي تطالبني بالسعي خلفها وأنا أرى الظلم بعيني؟! أقول لك وبثقة: حبالُ الظلمِ تشنُقُ صانعيها، فلا تيأس. اعلم يقينًا أنه مهما استبد الظلم فله أمد وسينقضي، ثم يعتدل الميزان وتستقيم الأمور، هذه سنة الحياة. كان نيكولاي يوجوف الملقب بالقزم رئيس الشرطة السرية في عهد ستالين، وبلغ به غروره أن كان يعدم ألف شخص يوميًا رميًا بالرصاص عام 1937 وهو يقول: قد أكون قصير القامة لكن يدايّ قويتان؛ إنهما يدا ستالين! وأُطلِقَ عليه الإرهابي الأكبر. بعد عامٍ واحد بدأ ستالين بتصفية أعدائه، واتهم يوجوف بالخيانة؛ فأُعْدِمَ رميًا بالرصاص بالإضافة لذلك مُحِىَ من الصور الرسمية. هذا مصير كلِّ من يتفانى في خدمة جلادِه؛ ليكون لمن خلفه آيةً.

لا تقنط ولا تكتئب وحارب الأفكار السيئة، وإن قامت القيامة وفي يدكَ فسيلةً فاغرسها، كن إيجابيًا ما دمت تتنفس، وثق في أن الأفكار سبيلك لحياةٍ أفضل؛ فاختر الأفكار الإيجابية وانبذ الأفكار السلبية. وإن كان أحدهم لم يصل للقمة بفكرةٍ سلبية؛ فيجدر بك انتهاج سبيل العظماء وتبني الأفكار الإيجابية؛ لتحجز لنفسك مكانًا بين هؤلاء العظماء.

فيديو إنَّكَ لن تَجْنِ من الشوكِ العنب!!

 

 

أضف تعليقك هنا

محمد الشبراوي

محمد الشبراوي

كيميائي مصري، مهتم باللغة العربية.