ما الّذي يعنيه الكوچيتو الدّيكارتي، بقلم: زين إسماعيل الشرقاوي

ما الّذي يعنيه الكوچيتو الدّيكارتي، أو «أنا أُفكّر، إذن، أنا موجود»

عاشَ ديكارت (René Descartes) في مرحلة، حيث كانت تفتقر الفلسفة – نوعًا ما – إلى صياغةِ منهجٍ دقيقٍ ومُثمرٍ في عمليّة البحث في المفاهيم والأفكار، أقصد القرن السّابع عشر، وقد اقتنع ديكارت بهذا في مرحلة مُبكّرة من حياته، كما فعل فرانسيس بيكون من قبل، حيث حدا هذا ببيكون إلى تطويرِ وإكمال منهج جديدٍ في البحث الفلسفيّ تقريبًا، فكان أوّل إنجازٍ عظيمٍ له، ومنهجًا استقرائيًّا (Inductive) إلى حدٍّ كبير. إذ إنّ بيكون تصوَّر هذا المنهج الجديد، منطقًا استقرائيًّا جديدًا، يحلّ محلّ منطق أرسطو الصّوريّ (Formal) القديم؛ أيْ الّذي يهتمّ بصورة الفكر، وليس مادّته، ويعتمد على مناهجَ استنباطيّة (Deductive) قياسيّة، وقَدّم بيكون منهجه في كتابه «الأورجانون الجديد-The new Organon».

أمّا ديكارت، فلم يكُن أُحاديّ النّظرة في منهجه الجديد الّذي صاغه؛ أيْ لمْ يثِق ثقةً تامّة بالملاحظات التّجريبيّة كما فعلَ بيكون إلى حدٍّ ما، عن طريق قوائم المُقارنة الّتي كان يقيمها هذا الأخير في منهجه، ولم يغفل ديكارت أيضًا، الاستنباط الرّياضيّ في منهجه، فضلًا عن أنّه كان رياضيًّا بارعًا. فإنْ كان بيكون مُحقًّا فيما أكّده؛ أيْ بأهمّيّة الملاحظات التّجريبيّة، إلاّ أنّه كان مُخطئًا عندما تجاهل أهميّة الاستنباط الرّياضيّ.



منهج ديكارت الجديد في الفلسفة

لذلك، أدرك ديكارت في فترة مُعيّنة من حياته، احتياجه إلى منهجٍ جديدٍ، واحتياج الفلسفة إلى ذلك، أيضًا، ومرام هذا المنهج، كما بدأه بيكون، صَوْن الفيلسوف من افتراض فروضٍ مُتهوّرة أو مُتسرّعة، ليس هناك ما يُبرّرها، إمّا نتيجة لافتراضٍ بدون نقد ما كان مقبولًا في الماضي، أو مِن صُنعِ تخميناتٍ غير دقيقة، ومُتسرّعة من جانب الفيلسوف نفسه؛ هذا ما يرومه المنهج من ناحيةٍ سلبيّة. أمّا من النّاحية الإيجابيّة، أن يكون هذا المنهج منطقيًّا (Logique)، كما كانت الفلسفة الإسكولائيّة (Scholastique) القروسطيّة، لكن يختلف عنها بكونه ليس منطقًا صوريًّا، ومُنتِجًا لاكتشافاتٍ جديدة في مجالات بحث النّاس. ولمّا كان ديكارت رياضيًّا ماهِرًا، دَرَسَ الهندسات جيّدًا، فخَلَص إلى أنّه من المُمكن صياغة منهج يكون مشابهًا للّذي تستخدمه الهندسة.

قواعد ديكارت الأربعة في الفلسفة

وفي كتابه «مقال عن المنهج-Discourse On Method»، أوجَزَ ديكارت أربع قواعد لهذا المنهج، كالآتي:

  1. «لا أقبل شيئًا على أنّه حقّ، ما لم أعرف بوضوحٍ أنّه كذلك؛ أي يجب أن أتجنّب التّسرّع، وعدم التّشبّث بالأفكار السّابقة، وأن لا أُدْخل في أحكامي إلاّ ما يتمثّل لعقلي في وضوحٍ وتميُّز، يزول معهما كلّ شكّ.»
  2. «أنْ أقسمَ كلّ واحدة من المشكلات الّتي أبحثها إلى أجزاءٍ كثيرةٍ بقدْر المُستطاع، وبمقدار ما يبدو ضروريًّا لحلّها على أحسن الوجوه.»
  3. «أن أُرتّب أفكاري، فأبدأ بالأمور الأكثر بساطةً، وأيسرها معرفةً، حتّى أصل شيئًا فشيئًا، أو بالتّدريج، إلى معرفةٍ أكثر تعقيدًا، مُفترِضًا ترتيبًا، حتّى لو كان خياليًّا، بين الأمور الّتي لا يسبق البعض منها البعض الآخر.»
  4. «أن أعملَ في جميعِ الأحوال من الإحصاءات الكاملة، والمراجعات الشّاملة، ما يجعلني على ثقةٍ من أنّني لم أغفل شيئًا.»

ما أهمية قواعد ديكارت الأربع؟

وعندما نُلقي نظرة على هذه القواعد العقليّة، نرى أنّها تُشير إلى الإجراءات الّتي تُتّبع في حلّ أيّ مشكلةٍ أصليّة في الهندسة. ولدى ديكارت، إنّ قبول أيّ شيءٍ على أنّه حقّ، يعني أنّ القضيّة لا بدّ أن تكونَ واضحة، كَكُلّ واحدٍ، ومُتميّزة في تفصيلاتها، وعلاقاتها؛ وهذه هي قاعدة «الوضوح والتّميّز» عند ديكارت. ومن هُنا، كان المصدر الأوّل للمعرفة عند ديكارت، هو «الحدس-Intuition»، وليس الإحساس، إنّ الحدس وحده هو الّذي يفهم القضايا الواضحة والمُتميّزة عن طريق العقل؛ لأنّ ما تُدركه الحواسّ لا يُمكن أن يكون واضحًا ومُتميّزًا، كما يُدرك الحدس بديهيّات الهندسة. وهذا ما سيكون موضع انتقادٍ من قِبَل لايبنتز (Leibnitz)، إذ يقول هذا الأخير: إنّ الحدس لا يُمكن أن يكون أوّل درجةٍ من درجات المعرفة، إذ إنّ الحدس عند لايبنتز لا يُمثّل أرقى درجات أساليب الإدراك، الّتي لا تتحقّق إلاّ حين تكون المعرفة واضحة، ومُميّزة، ومُطابقة، وكاملة. كما إنّ الكوجيتّو الدّيكارتيّ، قد بُنِيَ على قاعدة الوضوح والتّميّز الّتي أوردناها قبل قليل؛ أي على الحدس.

الكوچيتّو الدّيكارتيّ:

بعدما صاغَ ديكارت هذا المنهج، كخطوة أوّليّة وأساسيّة، سعى إلى اكتشاف الطّريقة الّتي نعرف بها الأشياء الموجودة بِيقين، فبدأ بالشّكّ في كلّ شيءٍ يُمكن الشّكّ فيه، حتّى يصل إلى ما هو على يقينٍ منهُ بصورة مُطلقة؛ إذ إنّ الشّكّ في شيءٍ ما، يَفترض مُسبّقًا، أنّ هذا الشّيء موجود بالفعل، وإلاّ لَما كان للشّكّ معنًى؛ وهذا هو شكّ ديكارت المنهجيّ، الّذي يعني نوعًا من الإجراء الخالص، الّذي يقود إلى التّأكّد من وجودِ شيءٍ ما، وليس شكًّا مذهبيًّا يجعل من ديكارت شخصًا شاكًّا.

هل الحواس محل ثقة ديكارت؟

وخلال ذلك، وَجَدَ ديكارت أنّ الحواسّ استمرّت في خداعه، ولذا، من الأفضل ألاّ نثق بالحواسّ، إذ تذكّر ديكارت أنّه في ليلةٍ ما، حلم أنّه كان يرتدي عباءته، ويجلس قُرب النّار، بينما في الحقيقة، كان نائمًا في فراشه، فما الّذي يمنعه من افتراض أنّه يحلم الآن؟ وقد لا يكون أيضًا في المكان الّذي يفترض نفسه فيه في الواقع. أمّا الأبحاث الرّياضيّة البديهيّة، فيبدو أنّها صادقة، إذ إنّنا في الأحلام، كما في اليقظة، نجد باستمرارٍ أنّ اثنين مُضافًا إليها ثلاثة، تُساوي خمسة. لكن، حتّى في هذا، قد نكون كاذبين، فرُبّما أنّ شيطانًا شرّيرًا – كما يُحبّذ ديكارت أن يقول – يخدعنا ويوهمنا بذلك. وبالتّالي، وجد ديكارت من ناحيةٍ نظريّة، أنّه يُمكننا الشّكّ في شهادةِ حواسّنا، وذاكرتنا، وأفكارنا، ووجود العالم الخارجيّ، من الأساس، وحتّى في صدق الرّياضيّات، أيضًا.

أنا أفكر، إذن، أنا موجود

وبالنّهاية، وصل ديكارت إلى ما لا يُمكن الشّكّ فيه، وهو واقعة وجوده الخاصّ؛ أيْ الكوچيتّو الدّيكارتيّ: «أنا أُفكّر، إذن، أنا موجود-Cogito Ergo Sum»، فمُحاولة ديكارت في أن يشكّ بأنّه موجود، تفترض – أوّلًا – أن يُسلّم تسليمًا، بأنّه يشكّ بالفعل، فهكذا، يضمن أنّه موجود بالفعل، من خلال كونه يشكّ. لكن، يجب ألاّ نفهم أنّ كوچيتّو ديكارت، مُجرّد قياس أُضمِرت مُقدّمته الكُبرى، على غرار المنطق الأرسطيّ، كالتّالي: كُلّ مُفكّر موجود، وأنا أُفكّر، إذن، أنا موجود. إذ يُوضّح ديكارت أنّ الكوچيتّو قائِمٌ على حركة بسيطةٍ للتّفكير، تُعرف بالحدس المُباشر؛ إذ إنّ القول «أنا أفكّر» أو «أنا أشكّ»، يتضمّن مُباشرةً بشكلٍ حدسيّ «أنا موجود»؛ إذ مَنْ هو هذا الّذي يُفكّر ويشكّ، إنْ أزلنا «أنا موجود»؟



ما عسايَ أن أكون؟

ثُمّ يسأل ديكارت، مُسترسلًا: ما عسايَ أن أكون؟ فيُجيب: أنا شيءٌ يفكّر، أعني شيئًا يشكّ، ويفهم، ويتصوّر، ويُنكر، ويريد، ويشعر، ويرفض، ويتخيّل، والشّيء الّذي يفعل كلّ ذلك، لا بدّ – إذن – أن يكونَ نَفسًا (Âme-Soul)؛ أي جوهرًا روحيًّا، يكون التّفكير صفتها الأساسيّة. فلا وجود للأفكار بدون مفكّر، ولا يُمكن لصفةٍ مثل التّفكير أن توجد، إذا لم يكُن هناك جوهر يُلازمها، أو تُحمَل عليه صفة التّفكير.

وهُنا، لا بُدّ أن نعرف مفهوم ديكارت عن الجوهر، إذ يقول ديكارت التّالي: «عندما نتصوّر الجوهر، نتصوّر موجودًا غير مُحتاجٍ في وجوده إلى شيءٍ آخرَ غير نفسه؛ [أي واجب الوجود في التّعبير القروسطيّ والإسلاميّ]، وليس هناك في الحقيقة جوهر له مثل هذه الصّفة غير اللّه. لذلك، حقّ الفلاسفة الإسكولائيّين، أن يقولوا إنّ إطلاق لفظ الجوهر على اللّه والمخلوقات، لا يكون على سبيل الاشتراك والتّواطؤ. ولكن، لمّا كان من طبيعةِ الأشياء المخلوقة، أن لا تُوجَد إلاّ مُضافةً إلى غيرها، فكان من الضّروريّ تمييزها عن الأشياء الأخرى الّتي لا يحتاج وجودها إلاّ إلى مشيئة اللّه [وتتّصف بهذا، حسب ديكارت، النّفس؛ أي الجوهر الرّوحيّ فينا]، ونحنُ إنّما نُسمّي هذه الأخيرة «جواهر»، ونُسمّي الأولى صفات، أو محمولات، أو أعراضًا.»

وهكذا، يكون ديكارت قد أثبت يقين وجوده الخاصّ، عن طريق عدم إمكان الشّكّ بهذا الوجود، لأنّ الشّكّ فيه، يعني تأكيده وتقريره؛ وهذا الشّيء، هو الّذي لا يُمكن الشّكّ فيه. ولكن، يبقى هذا البرهان مقصورًا على قضايا قليلة جدًّا، يُمكن البرهنة عليها عن طريق حقيقة ديكارت، أنّ الشّكّ فيها، هو تأكيدها وتقريرها.

أضف تعليقك هنا