اجتهادات تفسيرية (2)

{ إن عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلومآ جهولآ } سورة الأحزاب الآية 72.
وهنا يتبادر إلى الذهن عدة تساؤلات هامة وهي :
– ما هي تلك الأمانة التي تتحدث عنها الآية؟
– كيف يمكن أن تكون للملائكة المقدرة على الاختيار أو الرفض، وهي التي فطرت على الطاعة؟
– كيف اختار الإنسان لنفسه حمل تلك الأمانة التي لم تعرض عليه، والتي رفضت من السموات والأرض والجبال، ثم من هو ذلك الإنسان؟
– وأخيراً. هل يجوز أن ينعت الإنسان من قبل ربه بالظلم والجهل على حمل تلك الأمانة التي رفضها من هم أقوى وأشد بأسآ من الإنسان؟

إجابة السؤال الأول:

إن الإجابة عن السؤال الأول الخاص بمعنى الأمانة، نجد أنه يجب أن نأخذ المعنى من مجمل كامل الآيات لسورة الأحزاب دون الاجتزاء من سياقها العام.

إن الآيات جاءت تتحدث عن العديد من الأمور الهامة واللازمة من أجل الحفاظ على نعيم الحياة والعيش في معية الله وكذلك إيثار الآخرة بجنتها الخالدة، فقد جاءت الآيات تتحدث عن التقوى والطاعة والتوكل على الله وإتباع القسط والحق
والعهود والمواثيق القوية التي قطعها الأنبياء على أنفسهم لتكون شاهدة عليهم أمام خالقهم إن لم يؤدوها كاملة وافية خالصة لوجهه كما أمر بها. وكذلك استطرد الحديث بعد ذلك عن بيان مدى خطورة النفاق في المجتمع وتوضيح أن النفاق أشد خطرآ وبأسآ من الكفر.
وبيان عليه يتضح أن الأمانة المقصودة هي أمانة التكليف بما تشمله الكلمة من معاني خاصة بالعبادات والفرائض والطاعات وإتباع السنه والسير على هدى الأخلاق القويمة والسلوك المنزه.

إجابة السؤال الثاني:

ونأتي إلى السؤال الثاني وهو المتعلق بمقدرة الملائكة على الاختيار. وهنا يمكن القول والتأويل أن التخيير في تلك الآية للملائكة جاء على سبيل الاستعارة التمثيلية كما جاء في شرح الدكتور محمد هداية لتلك الآية. أي أن الله سبحانه جل وعلى لم يخير الملائكة ولم يعرض عليها كما أنها لم ترفض، وإنما أتى بذلك من أجل تقريب المعنى من خلال الاستعارة التمثيلية.
وعلى فرض التصور أن الله خير الملائكة، فإن إبائها عن حمل تلك الأمانة لم يكن رفضآ واستكبارآ وإنما هو إمتناعآ واستصغارآ وكرهآ لتحمل ذلك العبأ الثقيل الذي تعلم عنه الملائكة تماماً أن قدرتها وإدراكها وإمكاناتها لم تكن مهيأة لتحمل ذلك الثقل وأنها لم تكن مسخرة له. لذلك فهي خشيت على نفسها وأشفقت من أجل إيثار الابتعاد وتجنب المحاسبة.

إجابة السؤال الثالث:

أما عن السؤال الثالث والخاص باختيار الإنسان. فهناك يمكن القول والتأويل أنه إذا كان الله قد أعطى للملائكة التي لم تكن خليفته بينما أنعم بتلك الخلافة للإنسان، إذا كان الله على فرض أنه خير الملائكة فهل لا يعطي ذلك التخيير للإنسان، وذلك التخيير لابد وأن يكون عن علم واضح وجلي، حتى يستقيم المعنى بوجود العدل الإلهي. بمعنى أن الله أعلم الإنسان أنه ميزه بنعمة العقل والتدبر والتفكير، ووضح له أنه سخر له كل ما السموات والأرض من أجل خدمته وطوعه بعد ربه بالطبع. وأن كل مخلوق خلق لما يسر له.
وبناء عليه أصبح الإنسان قادراً على إدراك أنه يملك كل مقومات النجاح وأنه مهيأ من أجل الفوز والغلبة في ذلك الاختيار ، لمعرفته وعلمه ويقينه بعطية الله إياه. وكيف لا يكون الأمر كذلك، وقد قال الله في محكم كتابه في سورة البقرة { وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين (31) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم (32) }.
يظهر جليآ بينآ من سياق هذا أن الله قد أعطى للإنسان العلم أولاً حتى تكن له القدرة على الاختيار، وذلك لأن الله قد كتب على نفسه العدل ونفى عنه الظلم والتجبر.

أما الجزء الخاص من ذات التساؤل وهو من ذلك الإنسان الذي تقصده الآية؟ فيمكن القول أن بعض كتب التفسير قد ارجحت أنه أبانا آدم عليه السلام، إلا إنني أميل إلى تفسير ذلك التساؤل من خلال الإشارة إلى الآية 172 من سورة الأعراف { وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين }. وأعني هنا أن المقصود بالإنسان كما جاء في رأي الدكتور زغلول النجار هو الإنسان على مطلق العموم ؛ أي أنه آدم خلق بل وخلق معه أصلابه جميعاً مجتمعين من ظهره، وذلك حتى يتحمل كل إنسان نتيجة اختياره دون آباه الأول.

أما عن الجزء الأخير من ذات التساؤل والذي يتعلق بنعت الله للإنسان بالظلم والجهل، فنقول أنه إذا كان القرآن يفسر بعضه بعضا وهو أولى به كما قال الإمام ابن كثير، فعلى ذلك فإنه يمكن القول أن ذلك النعت لا نستطيع أن نفسره منفصلآ ومجتزء” السياق عن الآية التالية للآية سالفة الذكر وهي الآية الأخيرة في تلك السورة، والتي يقول فيها الله سبحانه وتعالى { ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورآ رحيمآ } سورة الأحزاب الآية 73. ونعني من ذلك أن الله الذي خص الإنسان بنعمة العقل والإدراك وجعل الكون بأسره مسخرآ لخدمته ومنحه القدرة والإمكانية من أجل إستغلال كل تلك النعم لكي يظفر بالرضا والأمان والسعادة في الدنيا وحسن الجزاء والثواب في الآخرة، فإذا لم يستغل ذلك الإنسان كل تلك الإمكانات يكون قد ظلم نفسه وجهل قدراته. لذا أستحق عن جدية أن ينعت بالظلم والجهل.
والله تعالى أعلى وأعلم

فيديو اجتهادات تفسيرية (2)

أضف تعليقك هنا

د.فاتن سعيد

دكتورة في الفلسفة اليونانية