الجامعات ومجتمع المعرفة

يشهدُ العالمُ المعاصر العديد من التغيرات والمستجدات على الساحة المعرفية والثقافية والاقتصادية والتكنولوجية .. تأثرت بها العديد من المفهومات المستقرّةِ في أذهان الناس، مما أدى إلى قصور في بعض الأنظمة التعليمية عن ملاحقة كل ما هو جديد على الصعيد المعرفي، وعدم امتلاكها فلسفة تربوية توجه العمل التعليمي نحو غرس اتجاهات إيجابية نحو العلم والقيم العلمية؛ باعتبارها مدخلاً ضرورياً لامتلاك المقومات والخصائص اللازمة لبناء مجتمع معرفة قادر على توليد المعرفة ونشرها وتوظيفها؛ وكذلك مواجهة تحديات الثورة العلمية والتكنولوجية وعصر اقتصاد المعرفة؛ فضلاً عن عدم اهتمامها بالبحث العلمي بوصفه أحد المداخل الأساسية في بناء مجتمع المعرفة.

تطور المعرفة:

هذا في الوقت الذي شهد فيه القرن العشرون تطوراً في المعرفة – كماً ونوعاً –  جعله بالقياس إلى القرون السابقة عصر المعرفـة. ولا أدل على ذلك من أعداد الدوريات في شتى ضروب المعرفـة، والكم الهائل من الكتب والمطبوعات والنظريات العلمية، وما رافـق ذلك من اكتشافات وابتكارات واختراعات، وتطبيقات للعلم أحدثت تغييراً في كيف المعرفـة الإنسانيـة وأنماطـها (جلال، 1993)، ” وإذا كانت جامعاتنا مقصرة في متابعة إنتاج المعرفة المتجددة، لأسباب تتصل بالسياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية، التي لم ترتقِ بعد إلى مستوى التطورات العلمية على صعيد المعرفة وثورة الاتصالات والتكنولوجيا، فإن ذلك لا يعني أن تبقى أنظمة التعليم تقتصر في تكوينها الذهني أو برمجة عقلية المتعلم على ترسيخ عادات المعلوم والمتواتر في الفترة الزمنية الحالية، أو الركون إلى تعليم معارف قد تجاوزها التطورُ العلمي، ولهذا يجب على أنظمة التعليم أن تتحمَّلَ مسؤوليةَ تعليم الطلاب؛ كيف يعلمون أنفسهم ” التعلُّم الذاتي ” من خلال الاطلاع على البحوث والدراسات في المجلات العربية والأجنبية، وما هو موجود على شبكة الانترنت، لأنها تمثل – في الأغلب – مصادر التجديد في المعرفة الإنسانية ” (عمار، 1996).

وتجدر الإشارة إلى أن التغير في أنماط المعرفة يحتم على المجتمع ومؤسساته التطور والتغير لمواجهة التحول نحو مجتمع المعرفة، ومواكبة ما استجد في العالم، ومن هنا يقع على عاتق الجامعات المسؤولية الكبرى في إعداد جيل يتنج المعرفة، ويكتسبها، ويحللها، وينقدها، ثم يستفيد منها بنشرها وتوظيفها في بناء مجتمع المعرفة من حيث توليد ونشر وتوظيف معرفة منتجة، إضافة إلى الاهتمام بتقنية الاتصال والمعلومات، وبناء اقتصاد المعرفة.

مكانة الجامعة:

ونظراً للمكانة المتميزة التي تعطيها الدول المتقدمة للجامعة فقد ” أخذت الدراسات والبحوث في قضايا التعليم العالي مكاناً بارزاً، وأصبحت مجالاً من مجالات النشاط البحثي. وقد استطاع هذا المجال في الدول الصناعية أن يتسم بخصائصَ فارقةٍ في موضوعاته واهتماماته عن كثير من مجالات التربية الأخرى؛ لعل من أهمها؛ دور الجامعة في توليد المعرفة ونشرها وتطويرها وتجديدها، ومن ثم توظيفها في المجالات المختلفة؛ فضلاً عن إنتاج المتخصصين والباحثين والعلماء، وذلك في إطار التنافس في السوق العالمية بين تلك الدول. وقد برزت خطورة هذا الدور حين أصبح إنتاج المعلومة والمعرفة وتكنولوجيا الاتصال من أهم مفردات التجارة الدولية، ولهذا فقد أصبح التنافسُ في ميدان إنتاج المعرفة أشدَّ من التنافس في ميدان إنتاج السلع المادية؛ وأصبح من المألوف تقسيم العالم إلى دول كثيفة الإنتاج للمعلومات، وأخرى ضعيفة، بل أصبح مثل هذا التقسيم وارداً في التفرقة بين الدول الصناعية ذاتها؛ مع ملاحظة أن الجامعات هي التي قادت الثورةَ المعرفيةَ وأحدثت التنميةَ الشاملةَ في المجتمعات البشرية المتقدمة (عمار، 1996). ومما يستحق المصارحة عند تشخيص واقع الجامعات العربية لإشارة إلى حالة الجمود التي تسود الجامعات على المستويات كافة؛ ويعني الباحث بالجمود هنا أن المتحقق في جامعاتنا العربية أدنى وأقل من الرصيد المتوفر لديها من الإمكانات والطاقات البشرية والحضارية، بل والمادية، وإن مجموعةً من هذه الإمكانات والطاقات موجودةٌ بالقوة وفي حاجة إلى أن تتحول إلى محركات بالفعل كما يقول أرسطو.

تنمية التفكير العلمي:

انطلاقاً مما سبق يصبح من الضَّروري أن تقومَ الجامعات بتنمية التفكير العلمي والمهارات اللازمة لدى طلبتها حتى تُمكنَهم من التعامل الإيجابي مع ما يستجد من التطورات العلمية والاستفادة منها. ” فالعالم يتغير بسرعة، والنظام العالمي يتحول تحولات كيفية غير مسبوقة في المجالات جميعها، مما يتطلب التفكير في كيفية تطوير المؤسسة الجامعية لمواكبة هذه التغيرات من أجل بناء مجتمع المعرفة “(جلال،1993)، حيث تتعاظم مسؤولياتها في الاستجابة لتحديات هذه التطورات ومواكبة التقدم العلمي في العالم، والعمل على تطويره واستيعاب تطبيقاته وإجراء الأبحاث والدراسات في مختلف ميادين المعرفة (المجيدل،2006). فلا معنى لتعليم جامعي لا يواكب التغيراتِ المعرفيةَ، ولا معنى كذلك لمجتمع لا يتفاعل مع التغيرات، ولا يسهم في إحداثها وتطويرها. فنظام التعليم الجامعي ينبغي أن يكون أكثر تنوعاً في موضوعاته بما يتناسب والغايات الاجتماعية للمعرفة في المجتمع؛ وهذا يعني أن البحث في معرفة دور الجامعات في بناء مجتمع المعرفة له مبرراته في ظل ما يُطرح على الساحة التربوية العربية والعالمية من سياسات تتصل بضرورة تطوير المؤسسة الجامعية وتحديثها؛ حتى تصبح مخرجاتها قادرةً على الإبداع والابتكار ومواكبة المستجدات العلمية والتكنولوجية، وبالتالي قادرة على الإسهام في بناء مجتمع المعرفة.

فيديو الجامعات ومجتمع المعرفة

أضف تعليقك هنا

د. بشار جيدوري

الدكتور بشار جيدوري