بين “الظن” والـ “عن عن”

“وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ” صدق الله العظيم

“خليك فى مجالك، وسيب الدين لأهله”

“الهندسة للمهندسين، والطب للأطباء، والسباكة للسباكين، إنما الدين بقى لكل من هب ودب!”

“نوع مصادرك، أنت بحاجة إلى دراسة الأمر من أكثر من عشرين مصدرا مختلفا قبل التكلم فيه!”

“أنصحك بقراءة زاد المعاد، ثم أتبعه بتفسير الظلال وابن كثير والصحيحين و…”

كثيرا ما تقال تلك العبارات وما شابهها لكل من يدلى بدلوه فى أمر من أمور المسلمين له علاقة بالإسلام سواء كان الأمر فقها أو فكرا أو اسقاطا لأحداث ومواقف. وقد يقولها قائلها ذاماً مستهزءاً، وقد يقولها مخلصا ناصحا، وقد يقولها محبا مشفقا، ولكن مرجعهم جميعا فيما قالوا إلى تلك الآية الكريمة التى ذكرت فى مقدمة الكلام.

والآية الكريمة واضحة المعنى لنا جميعا، فهى تبين أن المؤمنين لا يجب (ولا يستطيعون) أن يقوموا لأمر الفقه جميعا ويتركوا باقى الأعمال، وإنما يناط الأمر بطائفة منهم تتخصص فى هذا ثم تقوم بدورها فى نشر هذا الفقه فى باقى المسلمين إذا رجعوا إليهم.

ولنا وقفة بسيطة فى قوله تعالى “إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ”. فالرجوع هنا قد يحمل أحد وجهين، الوجه الأول أن يكون الفعل عائدا على الطائفة المتفقهة، بمعنى أنهم بعد تفقههم فى الدين يرجعوا إلى قوموهم ويقوموا بنشر ما علموه وفقهوه بينهم، فيحلوا الحلال ويحرموا الحرام ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويوجهوا الدفة بأنفسهم. أما الوجه الثانى فأن يكون الفعل عائدا على قومهم (عامة المسلمين)، بمعنى أن يتوجه العامة إلى هؤلاء المتفقهين لسؤالهم عن أمور الدين فيقوم الفقهاء بالرد على التساؤلات وتكون الدفة هنا بأيدى العامة ويكتفى الخاصة بتصويبها. والعقل والمنطق وطبيعة الحياة تقتضى أن يحمل الأمر كلا الوجهين معا، فيوجه الفقهاء الدفة بأنفسهم أحيانا ويصوبوا توجيه العامة لها أحيانا أخرى ، وهو ما نراه واقعا بالفعل.

وشاهدنا هنا عن الوجه الثانى، وهو أن يتوجه العامة بالتساؤلات للخاصة.

والعامة هم عامة المسلمين الذين لا يملكون دقائق العلم الشرعى ومفرداته من حفظ وإسناد وحديث وتفسير وتاريخ وغيره، فلا يستطيعون الفصل القاطع فى أمور الدين، ولكنهم مع هذا يملكون من العقيدة والفطرة وخبرة السير بالإسلام فى حياتهم وواقعهم والإصطدام مع الوقائع والخطوب ومن بعض عقلٍ ما يمكنهم (ويعطيهم الحق فى الواقع) من التفضيل والظن دون الفصل كما ذكرنا، فهم لهذا “أهل الظن”.
والخاصة هم من تفرغوا للتفقه فى أمور الدين، فقرأو التراث وحفظوا الحديث بسنده والروايات بتسلسلها والتفاسير باختلافها والتاريخ بأوجهه، فمنهم من تخصص فى أحد هذا ومنهم من جمع بعضه أو حتى كله، وجميعهم لا يتكلم بلسانه ولا بهواه، وإنما بما حفظ ونقل عن فلانٍ عن فلانٍ عن فلانْ، وبما فضل أو أضعف فلانٌ عن فلانٍ عن فلانْ، فهم لهذا أهل النقل والتأصيل أو “أهل الـ عن عن”.

وما بين “الظن” والـ “عن عن” تقع الإشكاليةُ كلُها!!.

وللإشكالية ثلاثة أوجه: الوجه الأول: طبيعة التساؤلات، الوجه الثانى: كيف تصاغ التساؤلات، الوجه الثالث: ماذا بعد أخذ الجواب

فإذا ما أطلت الإشكالية من أى وجه من تلك الوجوه حدثت القطيعة بين أهل “الظن” وأهل الـ “عن عن”، وإذا ما حدثت القطيعة بينهما زال الوشاج الذى يشدهما معا، فانطلق كل منهما فى طريقه بغير ضابط ولا رابط، فيوغل أهل الظن فى التحرر الذى قد يفضى إلى الشطط، ويوغل أهل الـ “عن عن” فى التكلس الذى يفضى قطعا إلى الموت.

الوجه الأول: طبيعة التساؤلات

وحين نتفكر قليلا فى نوعية وطبيعة التساؤلات التى يتوجه بها العامة (أهل الظن) إلى الخاصة (أهل الـ عن عن) فإن أول ما تتبادر إلى الذهن هى التساؤلات التقليدية مثل أحكام الصلاة والزكاة والصوم والحج وخلافها وكل ما يستتبعها من طهارة وحيض ونفاس بالإضافة إلى أحكام الزواج والطلاق والمواريث وما إلى ذلك.

ولكن كل هذا على كثرته لا يشكل إلا بابا واحدا فقط من أبواب الإسلام وهو فقه العبادات والشعائر، وقد يتطرق بنا الأمر قليلا إلى بعض فقه المعاملات من أحكام البيع والشراء وما إلى ذلك أيضا. غير أن الإسلام نفسه أكبر من ذلك بكثير، فالمعاملات نفسها – على سبيل المثال – تمتد لتشمل كل علاقات المسلم مع الغير، مسلما كان هذا الغير أو غير مسلم، فردا كان أو جماعة، رئيسا كان أو مرؤوسا، مسالما كان أو محاربا، وهكذا.

وكما أوضحنا فى أهل الظن، فإن ظنهم هذا لا ينبع من نقل قديمٍ وتراث وإنما من التفاعل الحى مع الحياة، وبالتالى فكل ما تحمله الحياة من أوجه ودروب يحتمل الظن، وكل ما يحتمل الظن يصلح ليكون مجالا للتساؤل، وهنا تبدأ الإشكالية فى الظهور!.
فمن الجائز أن تكون مادة التساؤل سلوك إجتماعى، أو مسار سياسى، أو توجه اقتصادى، ومن الجائز أن تكون مقارنات فلسفية أو مقابلات منطقية، ومن الجائز أيضا أن تكون أحداثا تاريخية بإسقاطاتها المختلفة، بل ومن الجائز أيضا أن تكون مادة التساؤل من صلب العقيدة نفسها عن الله وصفاته وقدراته، بل وأحقيته بالعبادة أيضا!!.

وبما أن أهل الـ “عن عن” من الخلق وليسوا بدعا من الخلق فتسرى عليهم ما تسرى على سائر الخلق من سنن التغير والتذبذب، فيتحركون من الضعف إلى القوة ومن القوة إلى الضعف حسبما يتحرك العصر كله، ولا أدرى حقا هل بتحركهم يتحرك العصر أم بتحرك العصر يتحركون، ولكن يكفى أن نعلم أنهم ينتقلون من حال إلى حال.

وفى أوقات ضعفهم يركنون إلى الكسل والخمول ولا تكون لديهم الرغبة ولا المقدرة على التفكر والتدبر والبحث وبذل الجهد، فيلجأون إلى غلق أبواب التساؤلات بابا وراء باب بأقفال القداسة والتحريم، ويردون طارقيها بردود التسفيه والتشكيك، وقد يسموهم بوسوم الشطط والإلحاد وإثارة الفتن، ولا يبقون إلا على أبواب تقليدية عتيقة، لا تأتيهم منها إلا أسئلة معلبة محفوظة فيصدرون لها أجوبة معلبة محفوظة أيضا، وهنا تحدث القطيعة!.

الوجه الثانى: كيف تصاغ التساؤلات

وحين نتفكر قليلا أيضا فى صياغة التساؤلات تتبادر إلى الذهن بتلقائية تلك الصورة المباشرة للسؤال بالكلمات الاستفهامية المعروفة (ما، من، متى، كيف، هل، …) إلى آخره من كلمات التساؤل الصريح، يوجهها العامى بشكل مباشر إلى الفقيه، سواء فى مجلس علم بأحد المساجد أو فى ندوة علمية أو مجلس خاص، أو بشكل غير مباشر عبر الهاتف أو البريد لبرامج الفتوى الإذاعية أو التليفزيونية أو الصحفية، وهكذا.

وتلك الصورة التقليدية من صور التساؤل لا غبار عليها ولا ينتج عنها – غالبا – أى إشكالية على الإطلاق، فهى تساؤل يوجهه من لا يملك الجواب إلى من يظن أنه يملكه، فيسرى السؤال من الأول إلى الثانى ويعود الجواب فى ذات الطريق من الثانى إلى الأول بسلاسة كإنتقال التيار الكهربى بين سلكين متصلين ببعضهما البعض.

ولكن تلك الصورة المثالية يكسرها أمران، الأول هو طبيعة أهل الظن والثانى هو ما ذكرناه فى الوجه الأول من طبيعة التساؤلات نفسها.
فمما قلناه سابقا فى تعريف أهل الظن، فهم يملكون من الخبرة والقدرة ما يعطيهم الحق فى التفضيل والظن – دون الفصل – فيما يواجهون من الأمور، ويترتب على هذا أنهم فى البدء يجيبون بأنفسهم على أنفسهم بأجوبة ظنية تتماشى مع ميولهم وأهوائهم ورغباتهم، ثم يتوجهون إلى أهل الفقه بالتساؤل بعد ذلك. فلا يكون التساؤل هنا ممن لا يملك الجواب إلى من يملكه – كما فى الصورة التقليدية – وإنما يكون ممن يملك جوابا إلى من يملك جوابا آخر، ويلقى العامى تساؤله ليس بقصد طلب الجواب وإنما بقصد اختبار جوابه الذى أعده مسبقا لهذا التساؤل، ويتلقى الفقيه التساؤل وهو يعلم أن هذا التساؤل قد يقصد به اختباره أكثر مما يقصد به طلب العلم منه، فتفسد لذلك علاقة التكامل فيما بين السائل والفقيه وتتحول إلى علاقة أشبه بعلاقة الأنداد والمتنافسين.

أما بخصوص طبيعة التساؤلات نفسها فالأمر أكثر خطورة وأبعد أثرا. فمما ذكرنا من طبيعة التساؤلات نعلم أن التساؤلات قد تطال كل شيئ بدءاً بالعبادات والشعائر مرورا بالمعاملات على اتساعها وشمولها وصولاً إلى صلب العقيدة نفسها انتهاءاً بالله ذاته (جل وعلا)، وهذا التنوع المطلق فى طبيعة التساؤلات يفتح أبوابا جديدة لصياغة التساؤلات تبتعد تماما عما نعرفه وذكرناه من صيغ التساؤل التقليدية، وبل وقد يكون من الأنسب ألا يطلق عليها تساؤلات من الأساس!.

فقد تأتى الصياغة على هيئة تساؤل كما ذكرنا، وقد تأتى على هيئة عقد مقارنة بين وجهات نظر وآراء مختلفة فى قضية ما (سياسية، اجتماعية، اخلاقية، عقدية، …) مع تفضيل بعضها على بعض، وقد تأتى على هيئة رفض واستنكار رؤية قائمة بالفعل، وقد تأتى على هيئة اقتراح وطرح رؤية جديدة مغايرة لما هو موجود!.

وتلك الصياغات الجديدة – والتى خرجت بالفعل من شكل التساؤل التقليدى – لا يمكن طرحها عبر قنوات التساؤل التقليدية، فهى بالأساس ليست موجهة لفقيه بعينه أو حتى لهيئة فقهية بذاتها، بل وقد تكون لا تستهدف الفقه ورجاله من الأساس، ولهذا فتلك الصياغات قد تقدم ككتابات قائمة بذاتها فى وسائل مقروءة كالمقالات والنشرات والكتب، أو إلقاءات فى وسائل مسموعة كمناقشات وندوات وبرامج مسموعة ومرئية.

وهنا تكون الدفة كاملة بيد العامة لا بيد الفقيه، ويصبح لزاما على الفقيه – كى يقوم بدوره – أن يلاحق بنفسه تلك الصياغات المختلفة أو حتى يطاردها إن دعت الحاجة، وأن يتعامل مع كل منها على أنها تساؤل موجه إليه شخصيا، ويصوغ رده على هذا التساؤل على شكل نقد أوتنقيح أوتصويب، وهنا يصل فساد علاقة التكامل بين أهل “الظن” وأهل الـ “عن عن” إلى حده الأقصى، وتتحول العلاقة كليا ليس فقط إلى صورة الأنداد وإنما إلى صورة الأضداد، فتقوى الإشكالية وتقوى القطيعة!!.
الوجه الثالث: ماذا بعد أخذ الجواب

ونصل بهذا الوجه إلى فطام الإشكالية وتجسد القطيعة، فبعد أن يفرض السؤال نفسه على العامى أو بالأحرى تفرضه ملابسات الحياة (كما فى الوجه الأول)، وبعد أن يصوغ العامى سؤاله سواءً بصيغة تقليدية أو غير تقليدية (كما فى الوجه الثانى)، وبعد أن يرد الفقيه بجوابه على هذا التساؤل، كيف ينتهى الأمر؟

فى الواقع، فإن علاقة الجواب بالسؤال لا تخرج عن ثلاثة احتمالات.

الأول:

أن يتماشى جواب الفقيه مع ظن السائل، وفى هذه الحالة يحدث التوافق الكلى بينهما، وتصبح الحياة هى الدين والدين هو الحياة، وينسجم الجميع فى سلام ووئام. وتلك حالة تظهر بشكل كبير فى أمور فقه العبادات والشعائر حيث جواب الفقيه لا يؤثر تقريبا على حياة السائل ولا علاقاته المتداخلة مع الغير، فلن يضر السائل مثلا أن تكون صلاة الظهر أربع ركعات أو تكون خمسة، ولن يضره أن يمسح ظاهر الخف أو باطنه، أو ينحر قبل صلاة العيد أو بعدها، وهكذا.

الثانى:

أن لا يتماشى جواب الفقيه مع ظن السائل، وفى هذه الحالة يختفى التوافق بينهما، ويعتبر السائل أن أمامه جوابين، أحدهما هو جواب الفقيه والآخر هو جوابه الظنى الذى أعده بنفسه لهذا التساؤل، ويكون الخيار بيد السائل لتبنى أى الجوابين، فيتبنى جواب الفقيه أحيانا (وبالأخص فى أمور العبادات والشعائر)، ويتبنى رأيه الظنى أحيانا أخرى (وبالأخص فى أمور المعاملات والفكر).

الثالث:

أن يتعارض جواب الفقيه مع ظن السائل، وفى هذه الحالة ليس فقط يختفى التوافق وإنما يظهر العداء بين الطرفين. ويبرز هذا الاحتمال جليا فى أمور المعاملات والفكر والرأى (سياسة، اقتصاد، منطق، …)، ويتبنى السائل رأيه الظنى بكل قوة، ويعادى رأى الفقيه ويحاربه سواءً بشكل صريح معلن أو بشكل ضمنى غير معلن.

ومن إجمالى الاحتمالات الثلاثة يتضح أن الكرة بأكملها بملعب السائل لا بملعب الفقيه، وأن القرار بشكله النهائى بيد السائل، فإما يإخذ برأى الفقيه وإما يتركه وإما يعاديه ويحاربه.

وهذه النتيجة منطقية جداً حتى وإن أنكرها الكثيرون (أو بالأحرى ادعوا انكارها)، فالسائل يستخرج جوابه من بطون الحياة ونوازلها فى حين يستخرج الفقيه جوابه من بطون الكتب وحواشيها، وبطون الحياة حية متجددة متفاعلة أما بطون الكتب فقد تكون جامدة عفى عليها الزمن وأكلتها قرضة التغيير والتحديث.

تبقى فقط نقطة واحدة وهى التعريف الذى أطلقناه على الطرفين والذى عنونا به هذا المقال، أهل “الظن” وأهل الـ “عن عن”. هذا التعريف يحمل حسا دعابيا وروحا فكاهية لا تخفى على أحد، وقد قصدنا ذلك لكسر حدة الموضوع محل الدراسة ومحاولة عدم استعداء طائفة كبيرة ممن قد ينفرون من الكلام كله ويناصبوه العداء من مجرد قراءة العنوان، بل إن بعضهم كان سيكتفى بقراءة العنوان فقط ثم ينصرف بعد ذلك مباشرة للنقد وكيل الاتهامات الجاهزة (إثارة الفتنة، تحقير الشعائر، …).

والآن وبعد أن بينا ما أردنا تبيانه، نستطيع أن نغير هذا العنوان الفكاهى إلى عناوين أخرى كثيرة تعبر بشكل مباشر عن جدية الموضوع وخطورته وأهليته للدراسة والمناقشة، فما “أهل الظن وأهل الـ عن عن” فى الواقع إلا “أهل العقل وأهل النقل”، أو “أهل الابتداع وأهل الاتباع”، أو “أهل الدراية وأهل الرواية”.

والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.

فيديو بين “الظن” والـ “عن عن”

أضف تعليقك هنا

محمد لطفى محمد

محمد لطفي محمد