وقفة مع الفقه

على مدار قرون متصلة اجتهد الفقهاء والأئمة فى أمور الفقه الإسلامى بنواحيه المختلفة من عبادات إلى معاملات، من حاكم إلى محكوم، من سلم إلى حرب، فأنتجوا لنا تراثا فقهيا عريضا وسع الأمة الإسلامية فى عصورها المختلفة.

ولكن هل يعد هذا الفقه صالحا للاستخدام الآن؟

منذ بدء الدولة الإسلامية فى فترة الخلافة الراشدة وحتى نهاية الخلافة العثمانية مرورا بكل الخلافات والحكومات والممالك التى شهدها العالم الإسلامى على اتساع رقعته الجغرافيه وامتداده الزمنى الكبير، شهد المجتمع الإسلامى تغيرات واسعة متباينة، ولاحق الفقهاء هذه المتغيرات باجتهاداتهم الفقهية، فما تركوا شيئا حتى فصًلوه، ولا مستجدا إلا درسوه وأصًلوه، فظل الإسلام بحق دستور الأمة الحى ومنهاجها الواضح الصريح.

ولكن على الرغم من تباينات المذاهب والآراء الفقهية تلك واتساعها الواضح إلا أننا نستطيع أن نجمعها فى سلة واحدة، وهى سلة التمكين، فهل يصلح فقه التمكين لزمن الاستضعاف؟؟

والمتتبع لتاريخ الدولة الإسلامية منذ قيامها وحتى انتهاء الخلافة يلحظ بوضوح أنها كانت دولة تمكين، وأنها حتى فى أشد عصورها ضعفا وانحلالا وتمزقا كان الإسلام وحاكميته وعباداته ومعاملاته من المسلمات التى لم تمس، وبالتالى فإن كل المذاهب والاجتهادات الفقهية – رغم تباينها واختلافها الشديد – خرجت كلها من رحم التمكين لتوجه أفراداً يعيشون فى دولة التمكين بكل مفرداتها، حتى وان اعترى تلك المفردات ضعف وعوار.

كان فقه الفقهاء ينبنى على وجود حاكم مسلم، وقاض مسلم، وديانة مقدسة، وشريعة مفعلة، وحقوق محفوظة، وثوابت راسخة يتبدل الكل حولها ولا تتبدل.

وحتى فى المحن الكبيرة التى سجلها التاريخ لم تخرج الدولة ولا الفقهاء ولا المذاهب عن هذا السياق على الإطلاق.

محنة الإمام أبى حنيقة:

فمثلا محنة الإمام أبى حنيقة التى ثبت فيها حتى الموت لم تعْدُ كونها خلافا بينه وبين الخليفة لرفض الإمام تولى منصب القضاء وإصرار الخليفة على توليته إياه، ذلك الخلاف الذى رآه الخليفة سياسيا يتحدى سلطاته ورآه الإمام فقهيا يقتضى الثبات حفظا لمنصب القضاء.

ولم تكن محنة الإمام احمد ابن حنبل إلا خلافا بينه وبين الخلفاء فى مسألة خلق القرآن، ذلك الخلاف الذى رآه الخلفاء سياسيا فكريا يتحدى السلطة والتنوير ورآه الإمام فقهيا عقديا يقتضى الثبات حفظا لثوابت الدين.
وفى كلا المحنتين لم يزد العذاب عن كونه سجنا وجلدا (وما أفظعه) ولم يزد الثبات عن كونه صبرا (وما أعظمه).

لم يتعرض الإمامان ولا غيرهما للمطاردة مثلا بسبب الحرص على صلاة الفجر جماعة، ولا الاعتكاف فى العشر الأواخر أو الجلوس فى المسجد قليلا بعد الصلاة، لم يعتقلا بسبب إطلاق اللحية أو ارتداء الساعة فى اليد اليمنى بدلا من اليسرى، لم يطلق النار عليهما لأنها يهتفان فى الشارع تضامنا مع طائفة من المسلمين يقصفون بالطيران فى بلد ما أو مطالبين بفك حصار عن طائفة أخرى، لم يصنفا إرهابيين لأنهما يطالبان بتحكيم الشريعة (على كل ما لنا فى تلك الكلمة من مآخذ).

وحتى عندما عذبا، لم يتجاوز عذابهما الجلد كما ذكرنا (على فظاعته وقسوته)، لم يتعرض لهما أحد بالصفع والركل وحلق الشعر وسب الدين، لم ينتهك أحد عرضهما ليل نهار وهما مقيدان على مقعد معد خصيصا لذلك!، لم يتعرضا للصعق بالكهرباء فى أماكن حساسة، لم يؤت بزوجتيهما ويجردا من ملابسهما وينتهكا أمامهما، لم يتحرش أحد ببناتهما فى الطرقات ويغتصبهن فى غياهب السجن أو حتى داخل مدرعة فى الشارع!، لم يضطر أحدهما إلى حلق لحيته ولم تضطر زوجته إلى خلع نقابها كى لا يفترسهما العامة فى الطرقات!!!

فقه التمكين:

أنتج السابقون فقه التمكين لأنهم عاشوا وماتوا فى زمن التمكين، ولو عاش أحدهم فى زمننا (زمن الاستضعاف) لأنتج لنا فقها مغايرا تماما ليس فقط فى المعاملات وإنما قد يكون فى العبادات أيضا.

فعلينا أن نعى أن من يلزم نفسه بفقه التمكين فى زمن الاستضعاف كمن يضع فى يديه قيدا وفى عنقه طوقا وفى قدميه أثقالا ثم يثب إلى ساحة المعركة ليقاتل!.

فإلى أن يمن الله علينا بفقهاء محدثين ينتجوا كما أنتج الأولون، استفت قلبك واستشر عقلك واسأل الله الرشاد.

فيديو وقفة مع الفقه

 

أضف تعليقك هنا

محمد لطفى محمد

محمد لطفي محمد