اليوتوبيا في ضوء جدل العلاقة بين الممكن واللا ممكن

إن فكرة اليوتوبيا أو (المدن الفاضلة) هي فكرة قديمة حديثة في آن معاً، حيث أنها تظهر على الساحة الفكرية كلما وجدت الشروط والمقومات المناسبة لوجودها, وانتفت عنها الموانع والمعوقات، ثم تغيب كلما اختفت البواعث والدواعي لظهورها وغاب المناخ الملائم لها.

 

أولاً :معنى اليوتوبيا:

إن مصطلح يوتوبيا (UTOPIA) حاله كحال الكثير من المفاهيم والمصطلحات الأخرى، يعاني من إشكالية التعدد الدلالي، فكلمة يوتوبيا كلمة يونانية مركبة مؤلفة من مقطعين : OU ويعني لا و (TOPOS) ويعني مكان، وبالتالي يصبح المعنى الحرفي لكلمة يوتوبيا هو:) اللا مكان)، وأما أول من صاغ هذا المصطلح بصورته الحالية (UTOPIA)، فهو المفكر الانجليزي “توماس مور” (1478-1535م) وجعله عنواناً لكتابه الشهير (يوتوبيا) والذي أصبح لدى البعض مرادفاً لمفهوم المدينة الفاضلة، رغم أن اليوتوبيات كفكر فلسفي أو خيال أدبي ظهر منذ الحضارة اليونانية.

 

إذاً هناك من يرى ارتباطاً بين مصطلح (Utopia) الإنكليزي، ومصطلحات الإغريقيين القدماء: مصطلح أوتوبوس (Ou-topos) ومعناه اللامكان، ومصطلح إيوتوبوس (eu-topos) والذي معناه مكان الخير والفضيلة.

 

وأما اليوتوبيا في علم الاجتماع، فهي تعني: أفكار متعالية تتجاوز نطاقَ الوجود المادّيّ للمكان، وتحتوي على أهداف ونوازع العصر غير المحقَّقة، ويكون لها تأثير تحويليّ على النِّظام الاجتماعيّ القائم.

 

وبما أن كل فكرة هي بنت عصرها وربيبة زمانها بمعنى أنها تكون نابعة من المشكلات و التحديات التي تواجه مجتمعاً ما في زمان ومكان معينين, فاليوتوبيا إذاً بهذا المعنى هي بمثابة استجابة لتحديات زمانها, وهي نابعة من صميم مشكلات عصرها.

 

وهذا ينطبق على فكرة اليوتوبيات التي ظهرت على مسرح التاريخ في مختلف مراحله( القديم و الوسيط و الحديث)، ولقد كان القاسم المشترك بينها جميعاً بأنها تبدو بمثابة احتجاج ضد ما في الواقع من نقص و عيوب من جهة, وتطلع إلى غدٍ مشرق يقترب من الكمال في شتى مناحي الحياة من جهة أخرى.

أما ما يميز كل يوتوبيا عن الأخرى, فهو أنها تأتي كل واحدة منها مرتبطة بظروف زمانية و مكانية مختلفة عن نظيراتها, وهذا ما يجعلنا أمام يوتوبيات متباينة تعكس كل واحدة منها مدى التطور الفكري للمجتمع الذي نتجت بين ظهرانيه، ممثلةً بشخص المفكر الذي أبدعها كما أنها تبرز لنا أيضاً المشكلات والأزمات التي يعانيها ذلك المجتمع.

 

إذاً لكل يوتوبيا ظروفها الخاصة والتي تجعل كل منها شاهده على عصرها،  وإن اشتركت جميعها بسمات مشتركة عامة، تتجلى في نقد الواقع، وتسمو فوق الحاضر, وتحلم بمستقبل واعد و تنشد الكمال.

 

ثانياً أعلام اليوتوبيا:

لقد حاول الكثير من المفكرين والفلاسفة على مر العصور بناء اليوتوبيات، باعتبارها النموذج الأمثل الذي يجب أن تسعى الإنسانية إلى تحقيقه، ويمكن نذكر من أعلام اليوتوبيا الآتي :الفيلسوف اليوناني “أفلاطون” (428 ق.م ـــــــ347 ق.م) في كتابه الجمهورية أو(محاورة الجمهورية)، والقديس “سانت أوغسطين” (354 ــــــــ 430 م) في كتابه (مدينة الله)، والفارابي(870ــــ950م) من خلال كتابه ( آراء أهل المدينة الفاضلة)، المفكر الانجليزي “توماس مور” (1478-1535م) بكتابه (يتوبيا)، و”سان سيمون”    و”فرنسيس بيكون”(1561-1626م)، في كتابه (أطلانطس الجديدة)، ثم الفيلسوف الإيطالي توماس كامبانيلا(1568-1639 م)، في كتابه (مدينة الشمس)…إلخ.

 

ولما كان الحلم هو الطموح الإنساني نحو تجاوز مشكلات وعقبات الواقع المعاش، والقيام بقفزة تجاوزية إلى المستقبل، دون المرور بتفاصيل وجزئيات الحلول العملية لأزمات اللحظة الراهنة. فإن ذلك هو ماحدا بمنظري اليوتوبيات لأن يطلقوا منظومة من الأحكام القيمية ويكفون أنفسهم عناء توصيف الواقع لأن ما ينشدونه في يوتوبياتهم يتضمن في تضاعيفه ما يعانون منه في الحاضر، ولذلك تظهر لديهم أحكام الوجوب وتغيب عنهم أحكام الوجود.

 

ثالثاً:الحلم بين اليوتوبيا والديستوبيا:

عندما نرى كثير من المفكرين والحالمين، يتنبؤون باليوتوبيا لمجتمعاتهم، فذلك لأنهم يعوضون بالخيال ما عجزوا عن تحقيقه على أرض الواقع؛ وعلى الطرف النقيض؛ نرى أناساً (أكثر تشائماً) يتوقعون للعالم ديستوبيات (أو مدناً راذلة) في المقابل وعلى العكس من اليوتوبيات أو ( المدن الفاضلة).

إن الديستوبيا ( Dystopia) أو كما يمكن ترجمتها بــ ( المدينة الفاسدة)، هي: عبارة عن مجتمع خيالي يكون الناس به غير سعداء ومرعوبين ولا يتم معاملتهم بطريقة عادلة أو إنسانية.

 

كما أن الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة يحكي عن مجتمع فاسد أو مخيف أوغير مرغوب فيه بطريقة ما, ويعني باليونانية المكان الخبيث أو الواقع المرير, والذي ينذر بنهاية العالم. وعلى مر السنين أجاد الكتاب والأدباء في كتابة أدب الديستوبيا ومن الأمثلة على ذلك نذكر الآتي:

رواية (1984) لــ جورج أورويل

رواية (العرق القادم) لــــ إدوارد بولوير ليتون

رواية ( آلة الزمن ) لــــ هربرت جورج ويلز

رواية (فهرنهايت 451) لــــ راي برادبوي

رواية (الرجل الهارب ) لـــ ستيفن كينغ

رواية (البرتقالة الآلية ( لــ أنتوني بيرجس….إلخ.

 

ولأن طرح الفكرة يستدعي نقيضها ويولد من رحمها، فكان ظهور مصطلح المدينة الفاضلة (Utopia)  والذي هو مجتمع مثالي تعم به مبادئ المساواة والعدالة، كان له دور كبير في اشتقاق وظهور مصطلح أدب المدينة الفاسدة (Dystopia)، بوصفه النقيض للمدينة الفاضلة (Utopia)، فإذا كانت اليوتوبيا هي: المجتمع المثالي، فالديستوبيا هي: على النقيض من ذلك تماماً، فهي تمثل(المجتمع الفاسد)، وهي تعني أيضاً عالم مرعب وغير مرغوب به مغرق في السوداوية،  وأحداثها غالباً تقع في المستقبل وهي تتفق في هذه الناحية مع اليوتوبيا.

 

وربما كانت الديستوبيا تسعى إلى تصوير مدى فضاعة وجود “الشر” وعواقبه، ولربما تقصد من وراء ذلك محاربة الشر، من خلال إظهار مدى قبحه واستنكار النفس البشرية له ونفورها منه، وبالمقابل اليوتوبيا تنشد الكمال الإنساني بصورة مفرطة بالمثالية الحالمة، ولربما تسعى بذلك لبيان مدى جمال “الخير” وإقبال النفس البشرية عليه واستحسانها له، ولهذا فإن اليوتوبيا ليست بالضرورة أن يكون المقصود منها الهروب من الواقع، نحو أفكار مثاليه حالمه غير موجوده وغير واقعية، فقد تكون اليوتوبيا في حد ذاتها بمنتهى الواقعيه، بل أن اليوتوبيا  ربما تريد تغيير واقع ما برسم حلم، وتدعوا لتحقيقه على أرض الواقع.

 

رابعاً: حجر الزاوية في بناء اليوتوبيا:

تقوم اليوتوبيا على فكرة جوهرية تعتبر بمثابة حجر الزاوية لها، وخلاصة هذه الفكرة تتلخص بالشكل الآتي: هي محاولة لخلق مجتمع مثالي تختفي فيه الشرور ويتفانى فيه أفراده لتحقيق أهداف مثالية هي الخير والفضيلة والتي تعني غالباً المساواة وذوبان الذات الفردية، وكأن ذلك هو المعنى المحدد والوحيد والمعنى المطلق رغم اختلاف معايير الفضيلة والخير بين مجتمعٍ وآخر.

 

وتشير دلالة مصطلح يوتوبيا (Utopia) إلى العديد من المفاهيم والمعاني المتعلقة بأحكام القيمة المطلقة والنسبية، ويشير المعنى العام إلى اليوتوبيا باعتبارها الحالة الصحيحة التي (ينبغي) أن يكون عليها الوضع السائد حالياً.

 

واليوتوبيا بمعنى من المعاني هي: “وجود اللامكان بقلب المكان الحقيقي” هذا ما قاله: المفكر الفرنسي “ميشيل فوكو” وكأنه يعني اليوتوبيا النابعة من هواجس واهتمامات كاتبها، لذلك فالفهم الأفضل والأعمق لليوتوبيا لا يستقيم إلا من خلال فهم النسق التاريخي والذي ظهرت فيه اليوتوبيا والفكر السائد والظروف المحيطة.

ويبين لنا “كارل مانهايم” مدى أهمية اليوتوبيا بقوله: “إن اختفاء اليوتوبيا سيؤدي إلى حالة من الثبات والجمود، لا يصبح فيها الإنسان نفسه أكثر من شيء، عندها سنواجه أعظم التناقضات التي يمكن أن نتخيلها… بعد تطور طويل، معذب، لكنه بطولي، وعندما يبلغ الوعي أعلى مراحله، ويصبح أكثر فأكثر من إبداع الإنسان، فإن التخلي عن اليوتوبيا يعني أن الإنسان سيفقد إرادته في تشكيل التاريخ، ومن ثم قدرته على فهمه”.

 

والإنسان كما يعرفه الفيلسوف الألماني “مارتن هيدجر” هو كائن الأبعاد الثلاثة، فالإنسان يدرك الحاضر ويتخيل المستقبل ويتذكر الماضي، إذاً من الخصائص المميزة للإنسان هي امتلاكه القدرة على التخيل والحلم وبناء تصورات مستقبلية في ذهنه، غير خاضعة لأي ضوابط، سوى الرغبة الجامحة في الخروج من الواقع وتخيل واقع آخر يستجيب لإرادته ومتكيف مع طموحاته، ولاشك بأن الإبداع التخيلي قد ساهم في تقدم العلم والمعرفة وارتقاء البشرية، وذلك لأن الخيال المبدع هو الذي يحفز صاحبه على ترجمة تصوراته إلى وقائع ملموسة.

 

خامساً: التحولات في الفكر اليوتوبي:

 وأما في عصرنا الراهن ونتيجة للتطور المعرفي والتغير في منظومة القيم والتي لم تعد تقتصر على قيم( الحق والخير والجمال)، وإنما أضيف لها القيم المادية،  ولذلك بدأت تنحسر المفاهيم المثالية شيئاً فشيئاً، وأخذت تحل محلها مفاهيم ديناميكية جديدة تتسم بالواقعية  ومغرقة في المادية، ونتيجةً لهذا المتغيرات بدأ يظهر تحولاً في الفكر اليوتوبي، فأصبحت اليوتوبيا تهدف لإصلاح ما هو موجود في ضوء الممكن، بخلاف ما كانت عليه اليوتوبيا من سعيها  لخلق واقع جديد ذو قيم مبالغ في مثاليتها لأقص مدى وكانت تنشد اللاممكن.

 

إذاً لقد أصبحت اليوتوبيات أقل جنوحاً في الخيال وأقل إغراقاً بالمثاليات، فلم تعد تبحث عن حلول جذرية، بل اكتفت باصلاح ما هو قائم، فعصرنا عصر المادة وعصر السوق عصر البراغماتية، وأصبحت الغلبة للواقعيين والعملين، وأما الحالمون من أصحاب الرؤى الفكرية المثالية، فلقد أصبحوا لا يتخطون بأحلامهم حدود الممكن. ومرةً أخرى نؤكد على أن هذا التحول في الفكر اليوتيوبي ما هو في حقيقة الأمر سوى صدى للتحولات في القيم والتغيرات في الثقافات المجتمعية، والمفكر في نهاية المطاف هو ابن زمانه ومرآة عصره.

 

إن (اليوتوبيات) أو المدن الفاضلة، مفاهيم تظهر على سطح الواقع الفكري، كلما ازداد ضغط الواقع واضحى التغيير صعباً، وقد وجدت مدن وجمهوريات فاضلة على امتداد التاريخ القديم والوسيط والحديث. حيث لجأ مفكرون إلى إبداع مدن فاضلة ومجتمعات طوباوية علهم يجدون فيها لأنفسهم ولأمثالهم ملجأ أو متنفساً من ضغط الواقع الاجتماعي المعاش. ولذلك لن تتوقف اليوتوبيا عن الظهور على مسرح الحياة، طالما أن (الحلم) كامن ومتجذر في أعماق أعماق النفس البشرية.

وخلاصة القول: إن اليوتوبيا التي دعا إليها الفلاسفة ـــ قديماً وحديثاًـــــ لم يكن يقصد من ورائها سلوكاً فردياَ يخاصم من خلاله الفيلسوف الواقع ويقطع صلاته مع الحاضر، وهي أيضاً ليست حلماً بالاممكن لتحقيق الممكن، وإنما هي مشروع فكري رصين أخذ طابع الحلم بسبب غياب عناصر تحققه.

فيديو اليوتوبيا في ضوء جدل العلاقة بين الممكن واللا ممكن

أضف تعليقك هنا

د. زياد عبد الكريم النجم

زياد عبد الكريم النجم