عَلى ضِفَّةِ النَّهْرِ الغارقِ بِنَجْمَةِ الجليلِ، أَنْهَكَهُ المَلَلُ والانتظار. تُوْقِظُ الذَّاكرةُ مَطْلْعَ دهشَتي؛ تُولَدُ مِنْ رُوْحِ الكَوْنِ نارٌ للخُلودِ، تُشْعِلُ وَطْأَةَ النَّفْسِ، تُحاكِي الرَّغبةَ، تَمتطِي سَرْجَ الأُفُولِ، تَستوقِفُ شهوةَ الجُمُوحِ، تُمَسِّدُ جُرْعَةَ الشَّوْفِ علَى الجَسَدِ القُفُولِ.. وَتمشِي.
رَاوَدَني الوَحْيُ:
رَاوَدَني الوَحْيُ بعدَمَا أَطبقَ النُّزُولُ عليَّ، كُنْتُ وَضيئَاً كنَجمٍ هاربٍ، مُرْهَقَ الحِسِّ، طافِحَ التَّرحالِ، مَرشوشاً باللاَّزوردِ، سائِحاً، هائِماً، تائِهاً، فارِدَاً طقسَ السَّكينةِ والسُّكون؛ لَوْنُ بَوْحِي يَعلُو كَفَافَ دَمعِي، يَذِرُ كُهُوفَ الذَّاكرَة.
جلستُ عَلَى حافَّةِ البَوْحِ مَوشوماً بالحُزْنِ المُفعَمِ بالحَنينِ، فالحَنينُ شَغَفٌ وافتتانٌ كاختلاطِ عاطِفَةِ الحِسِّيِّ بالصُّوفِيِّ فوقَ ظَمَإِ الهاويَة. لا شيءَ يُحرِّكُ المَخْفِيَّ فِيَّ، سِوَى خيالٍ سابحٍ يُصغي إِلى الضُّوءِ فيْ غابةِ الرُّؤْيا، والضُّوءُ إِغواءٌ يُملي عليكَ الكشفَ فيْ وطنِ الغِياب؛ تَلَمَّسْتُ العطرَ العائِدَ مِنْ كفَّيها كعَوَزٍ فائِحٍ يَزدانُ بِوَلَعِ الانخطافِ، أَو كعُزوفٍ غامضٍ يتسكَّعُ أَروقةَ القِطَافِ، يُرَوِّضُ الوَجَعَ الحالِمَ كَوَمْضٍ عالقٍ فِي الرِّيحِ، كبُعدِ الرُّجوعِ يَتحايلُ عَلى نارِهِ الحَرُون.
قُلتُ: النَّهرُ جِسْرُ الخَلاصِ ورَجْعُ صَدَىً مُسْتثار، وللإثارةِ أَكثرُ مِنْ طقسٍ مُرْجَئٍ وَحَبْرٍ أَقَلُّ؛ هيِّئْ ليْ إذاً يا خَيَالُ خَلْوَةً تأْخُذُني إِلى ما ليسَ ليْ مِنْ أَراغنَ فِي الغَمام.
مِنْ هُنا، هَذا الأَزرقُ الـمُنسابُ كالفجرِ المُصَفَّى، يُقايضُ الدَّهشةَ بالذُّهول؛ وَمِنْ هُناكَ يَنوسُ المَلمسُ اللَّحميُّ كَفَيْضِ فراشةٍ نَشْوَى تتخطَّرُ بسِحرِها الأُنثويِّ، يَحملانِ خَوارِقَ التَّوْقِ، مَأْخوذَينِ بسِرِّ النَّوارسِ، مَأْسورَينِ بالذُّرْوَةِ، فَالعَتْمَةُ سَوَّتْ نَشْرَها فيْ فَلَكِ العشقِ وَغابَتْ مِثلَما الأُفْقُ يَغيـبُ.
نار العشق:
مقتولاً بنارِ العشقِ، مأْهولاً بالقصيدةِ، مَسكوناً بالماء، يَأْخُذُني الأَزرقُ الكَونيُّ، تَكْمُرُني طَوايا الغَيبِ.. تَـشْـطُـرُنِـي إِلى ظِلَّيْنِ؛ صَارَ الدِّفءُ يَطْمُسُني بأَمطارِ الفجيعَةِ؛ انْكَبَبْتُ هانِئَاً فوقَ مَطاوي الجَسَدِ لأَخْرَجَ مِنْ ذاتِي وأَنْصَهِرَ؛ مَا أَوْجَعَ المَسَّ… وَشوشَتني رُعُوْشَةُ الطُّيوفِ، وَراحَتْ عميقاً عميقاً فيْ ذَائِقةِ العُبورِ.
وكما يَضْبِطُ الإِيقاعُ حركاتِ المَعاني، يَستقيمُ النُّوْرُ السَّاخنُ فَوْقَ الجَسَدِ، دَائِخاً، سَائِخاً، مَشُوباً بالقَلَق! خَامةُ الحُزنِ تَنِزُّ رَدْحاً مِنَ الصَّبوِ الَّذِي اهترَأَ، يَهيلُ فوقَ مرايَا لمْ تطأْهَا رياحُ الضَّجَر، كَلاجئٍ عَلى شُرْفَةِ لائِلٍ حَمَلَتْهُ إِليهَا تجَاعيدُ السِّــــنين.
يَتَفسَّخُ الخيالُ عَلى مَهبطٍ زائِحٍ فيْ محطِّ الأَزمنَة، يَتَقشَّفُ حُلْمِيَ المطمورُ مِنْ ضَنَكٍ خُرافيٍّ وَمِنْ غَبَسِ اليَباب؛ حُضورٌ طائِشٌ يَندَسُّ فيْ غَبَشِ الفَراغِ، يَدلُقُ الرُّوْحَ الخَلاءَ عَلى السَّتْرِ الرَّهيفِ.. وَينــــــــــــأَى.
تُغْلِقُ النَّوافذُ أَهدابَهَا دونَ اكتمالٍ أو نُقصان، تُعَرِّشُ ياسمينةٌ حَرَّى فيأْتلفُ الجَسَد، تفيضُ شاغِفَةً عاريَة إِلَّا مِنَ الحُبِّ، فكلانا نشوانُ مجنونٌ سكران، تَعلو رغوةُ الهَيَمَان، تَكِنُّ فيْ صمتٍ تواشيحُ التَّمنُّعِ فِي اشتهاء؛ هَسيسٌ مِنَ النَّوحِ يَحبِسُ ضَوْعَةَ النُّزوعِ، يَعُجُّ بأَكداسِ الطِّلَى، يَجُسُّ تعاويذَ الغِوايةِ ويَنْضُو سُحْنَةَ الوجهِ المُغَشَّى بالضَّباب؛ وتسأَلُ وأَنتَ المَمْسُوْسُ بالإِشراقِ والأَشواقِ دونَ مخاتلةٍ أَو مواربةٍ، أَو سَواء: مَنْ أَنا فيْ هذهِ الجَلَبَة يا “إِيْرُوْسَ” الوسيم؟ تَشِفُّ تَرِفُّ تَهِفُّ، تَنْقَى، تَفْنَى وتَبْقَى، لكنَّ أَحداً لا يُرَتِّقُ عِبْءَ الجواب. فماذا أَقولُ يا صاحبي بَعْدَمَا حَشَرْنَا إِزارَ أَحلامِنَا فيْ شواغِلِنَا وَرَشقنَا جوعَنَا الرَّابضَ فوقَ اللَّهَب، ماذا أَقولُ وقد تَراءَتْ لنا حَيْرَةُ اللاَّرجوعِ عِندَ الإِيَاب، ماذا أَقولُ وقدْ لذَّتْ لنا الآلامُ.. كأَنَّنا مَرَقْنَا بِهَا ذاتَ شَوْقٍ ولمْ نَلْتَفِتْ.
فيديو تجلِّياتُ الأَزرقِ الكَوْنيِّ