قصة السيدة: دولت عبد الفتاح

دولت سيدة فائقة الجمال، غامضة القسمات بالرغم من بساطتها وعدم تكلفها، ربما يستحيل تحديد عمرها الحقيقي أو ملامح شخصيتها بمجرد التخمين.. هي تنحدر من أصول عريقة لعائلة تنتسب للطبقة المتوسطة، كان أباها حلواني شهير يشار له بالبنان لما له من خبرة في صنع وتشكيل أفضل أصناف الحلوى.. نجح الرجل في فرض إسم عائلته العريق “عائلة المصري” على كل من حوله بتباسطه وحبه للحياة ولمن حوله، فكما كانت له الريادة في عمله ومنتجاته، كان له أيضاً السبق في صناعة القرار ورسم خارطة العلاقات الاجتماعية بين مجاملات ومناسبات أو ملمات وخلافات بين أهالي منطقته، لما لا..؟ وقد عُرف عنه منذ نشأته حكمة ورصانة وقدرة هائلة على فض أي نزاع..

البنت الوحيدة

دولت هي البنت الوحيدة، والأكبر بين أخواتها من البنين.. نجح المصري وزوجته في تربية أبنائهم وأحسنوا تنشأتهم.. لكن مع الأسف أي منهم لم يرث صنعة الأب أو إحترفها ليملك أسرارها.. فالأول تخرج من المدرسة الحربية وهو الأن من القيادات المرموقة في الجيش، والثاني رجل قانون إحترف السياسة، وحالياً يعمل نائباً في البرلمان، والثالث تخرج من مدرسة الهندسة وأصبح من مشاهير البناء والتشييد ويمتلك أحد أكبر شركات البناء والعقارات.. أما دولت، فربما غبنها الزمان وقسى عليها كما لم يفعل مع غيرها من النساء، فمع محاولاتها المشروعة لإيجاد حياة هانئة لنفسها، تجدها أيضاً كرست الجزء الأكبر من حياتها لخدمة أبيها ومساعدة أخوتها بعد وفاة الأم، ومع إنشغال والدها أصبحت هي الراعي والملجأ والملاذ لأبيها ولإخوتها الذين مازالت تعتبرهم صغاراً يحتاجون للرعاية، حتى بعد أن إستقل كل منهم بحياته وأصبح قادراً على تشكيل عالمه الخاص..!

عبر سنوات عمرها عانت دولت عاطفياً، ومرت بمراحل أقل ما توصف بأنها عصيبة، فكان في حياة أمها أن تزوجت مبكراً من ضابط شاب، نجح في إقناع أبيها بأنه سيكون الإبن البار وسيحافظ عليها كالجوهرة الثمينة، وكان الزفاف رائعاً وملهماً، ومغايراً لما إعتاده الناس حينها من تقاليد وعادات.. وحسب العروسان أنهما بصدد مستقبل مشرق، وحياة رغدة يحفها الهناء والسعادة من كل جانب.. وكان كذلك، كاد أن يتحقق لهما الحلم، لولا تدخل القدر فتعترض الزوج الشاب مكائد خسيسة، أتت لشديد الدهشة من قبل بعض الأصدقاء والزملاء والأقارب، فأودت بكل ما تبقى له من كرامة، ولم يلبث أن مات بحسرته.. ومنذ هذا الحين وهبت دولت نفسها لرعاية إخوتها والزود عن مطالبهم.. لكنها كأي أنثى، كانت تحلم بأن يأتي يوماً من يعوضها عما خلفه لديها الزمان من مآسي وحسرات..

الخطبة

وتمر السنوات ويتقدم لخطبة دولت أحد زملاء زوجها، ويصرح لها بأنه كان يكتم إعجابه بها إحتراماً لزوجها رفيق عمره، لكنه طوال الوقت ظل مفتوناً ومتيماً بها.. كان شاباً رائعاً، ناجح في عمله وطموح إلى ابعد الحدود.. لكنه إتسم بالعناد والغموض والتفرد في الرأي، فسرعان ما خسر كثيرين ممن هم حوله، وكان أن إنتهت حياته قتيلاً في حادث مُدبر قبل أن تحسم دولت أمرها من هذا الزواج.. ثم يتقدم لخطبتها شاب أخر من أصدقاء أخيها، ضابط أيضاً، هادئ الطباع ويميل للإنطواء.. نجح أخيها في إقناعها وإقناع الأب العجوز بأن الرجل هو الأنسب لتلك المرحلة لما يتميز به من الهدوء والإستكانة.. وإنه سيحافظ على تماسك الأسرة مع تقدم سن الأب وحاجته للرعاية.. وتقبل دولت بالزواج وتكرار التجربة على عهدة أخيها.. ويتوفى الأب بعد إتمام الزواج بفترة وجيزة، وينتقل الزوج ليعيش بصورة أكثر رسمية في بيت الأسرة مع دولت وأخواتها، ويصبح له حق التدخل في كبار الأمور وصغائرها نتيجة لمساحة الثقة غير المسبوقة التي منحها إياه الإخوة المنصرفين كل لحال سبيله، حتى أنهم تركوا له حق التصرف في ممتلكات أبيهم وأعماله كافة، والتي كانت في الأساس مصدر الرزق الثابت والمريح لكل منهم.. لكن عبئ الإدارة كان أمراً خانقاً، فكان زوج أختهم هو الحل المثالي والمضمون…

وكأي زوجة مخلصة، تتفانى دولت في رعاية زوجها وأخواتها والسهر على مصالحهم، بينما تتغير تدريجياً سلوكياتهم نحوها، فيقابل جزيل عطائها بجحود واستهانة، حتى صار كل منهم لا ينظر إلا لما يخصه هو دون غيره.. ولم يعد بينهم هذا الوفاق الذي جمعهم يوماً في بيت الأسرة تحت مظلة التعاون والمساواة والمسئولية التي صنعها الأب بكده وعرقه وطموحه أملاً في أن يظل هذا البيت متماسكاً أبد الدهر..

وكان أن شعرت دولت بحياة تدب داخل أحشائها.. كيف يكون هذا..؟ وبعد أن بلغت من العمر ما قد يستحيل معه هذا المخاض.. لكنها تنتشي بالسعادة كأي إمرأة مقبلة على إحتضان وليدها، ويطمئنها الطبيب على أن بنيانها قوي وقادر على الاحتمال.. ويسهر على رعايتها ومتابعتها بين دهشة الزوج والإخوة التي ظلت تتراوح بين سعادة بإمتداد حروف النسب، وبين توجس من تبعات ما سيكون..!
ويخرج للحياة الإبن.. هذا الصبي المدهش، تتجلى على وجهه قسمات الذكاء والفطنة والقوة.. بالغ العنفوان في حركاته وردود أفعاله.. تسعد دولت بوليدها الذي كان عِوضاً لها عن كل تضحياتها، وتكتنفه بالرعاية والعطف والاهتمام.. وتدقق كثيراً في علاقته بأبيه وأخواله الذين صرفتهم الدنيا عن مشاركته لعبه ولهوه وطموحاته صبياً ثم شاباً يافعاً، مما ترك أثراً سلبياً لديه تجاههم وأصبح يتجنب مجرد مخالطتهم.. وهكذا تحاول دولت أن تجعلها علاقة متزنة، فهي أول من لمست أوجه الاختلاف بين طبيعة إبنها وتطلعاته، وبين نمطية زوجها وأخواتها في التعاطي مع الأمور كافة..

لكن الأقدار لا تمهل دولت أن تحتوي ما صار من خلافات، ويبدأ الأب والأخوال في تضيق الخناق على طموحات الإبن، بل وتعنيفه والسخرية من أفكاره وسلوكه.. فكان أن ضاقت حلقة الوصل بينهم وصار الإنفجار حتمي.. وأصبحت دولت بين شقي الرحى.. هي لا تريد أن ينهار البيت، ولا تريد أن يموت إبنها كمداً..! ويتدخل الأقارب والجيران، بالطبع كل حسب رغباته وشهواته.. وتضيع الحقائق وتسمو الفتن داخل البيت الذي كان يوماً هادئاً.. ويصير الأمر بيد دولت وحدها.. كان عليها أن تقرر الانفصال عن زوجها كي تحقن دماء كادت أن تراق داخل هذا البيت.. ويحدث الانفصال، ويخرج الأب من حياة الأسرة.. ويعود زمام الأمور لدولت وأخواتها الذين ضاعت منهم بوصلة السيطرة على ما لديهم من ممتلكات وأصول.. فإستأجروا من يدير أعمالهم مقابل ثمن باهظ دفعوه صاغرين نتيجة لعدم دراية أي منهم بما تركه لهم أباهم الذي رحل ولم يكن يتوقع أن تصل الأمور بالبيت إلى هذا المآل..

تبعات ما كان..!

يجلس الإخوة مع دولت في غرفة ضيقة، ويتشاورون جميعاً فيما يجب أن يكون، لم يُدعَ الإبن لتلك الجلسة لأنهم يعلمون عنه طباعه النافرة من نمطيتهم وسلبيتهم.. حتى دولت آثرت ألا تعرضه لأي تجريح قد يسوقونه، وقررت هي وحدها أن تتحمل تبعات ما كان..!
ويقول لها الأخ الأكبر: الأن وقد فشلت زيجتك الأخيرة، وأراك لم تحسني تنشئة إبنك.. فماذا تظنينا فاعلين؟
وتجيب دولت: فشل زيجتي ليس عيباً في، لكنه كان إختياركم.. وإبني لا أظنكم تفهمون تطلعاته، فإتركوه وشأنه..
فيبادرها: ليس لدينا رفاهية الحوار، فما فشل عليكي إصلاحه.. ربما كان زواج جديد هو الحل، وهناك من تقدم لخطبتك ونحن جميعاً نثق فيه لأنه مثلنا وعلى مذهبنا..!
تقول دولت في حسرة: مثلكم.. ومرة أخرى..! ألم يكفيكم ما حدث..؟ لكن حسناً، لن أكون أنا صاحبة ضربة المعول الأولي في هدم هذا البيت.. سأنصاع لرغباتكم، لكن على وعد مكتوب منكم بأن ترفعوا أيديكم عن ولدي وأن تتركوه وشأنه..
يجيبها أخاها الأوسط محترف السياسة، وماذا عن الأملاك..؟ نخشى أن يبددها إبنك، فلابد أن تتنازلي لنا عن الجزء الهام منها بما يضمن أرصدتنا في المستقبل..! تبتسم دولت ولا ترد، وكانت إبتسامتها كفيلة بفضح نوايا الإخوة جميعهم بشأن ماهية الزواج المزمع.. فتقول على مضض: حسناً سأفعل كل ما ترون، فأنا لست مستعدة للجدال، فقد أرهقتني حسابات السنين ولم أعد أحتمل الشقاق.. وأنتم في النهاية إخوتي، ولا أظنكم تخونونني أبد الدهر..!

العريس الجديد

ويأتي العريس الجديد.. تجلس دولت في غرفتها في إنتظار دعوتها لمقابلته.. لم تتزين أو تبدل ثياب الحداد التي أقسمت على إرتدائها منذ وفاة والدها.. ويأتي أخيها الأصغر لدعوتها لحجرة الضيوف.. تدخل في تؤدة وثبات، وإذا بوجهه العريس المنتظر تعلوه إبتسامة عريضة بلا سبب مقنع، وكأنه يريد أن يطمئنها لشئ ما ليس أصيلاً يحدث في تلك الغرفة.. يهنئها أخيها الأكبر قائلاً: هذا هو السيد/ عبد الفتاح زوجك الجديد.. هو صديقنا ومحل ثقتنا، وسيكون أميناً عليكي وعلى البيت وكل شئ.. ولا شروط لديه إلا شرط واحد فقط أجمعنا كلنا على القبول به وتلبيته..
قالت بشموخ وتحدي: وما هو..؟
فيرد أخاها متلعثماً وهو يتهرب من نظرتها القاسية: يريد أن تغيري إسمك من دولت المصري ليصبح دولت عبد الفتاح..!

النهاية..!

فيديو دولت عبد الفتاح

أضف تعليقك هنا