شيء عن الدّيالكتيك المادي والتّاريخي، الجزء ١\٣، بقلم: زين إسماعيل الشرقاوي

«شيءٌ عن الدّيالكتيك المادّي والتّاريخيّ» الجزء (1-3)

توطِئة عن الدّيالكتيك \ المادية

حاول الفكر الإنسانيّ، منذ أقدِم عهود الأوّلين، عبر سعيٍ دائمٍ ودؤوب، تفسير الوجود وطبيعته، من خلال تكوين فكرةٍ عامّةٍ عن الكونِ الّذي يحتويه، والمجتمع البشريّ الّذي يعيش فيه، ويتأثّر بمُحدِّداته. وعندما نلقي نظرةً متفحِّصةً على هذه المُحاولات، نرى في الغالِب الأعمّ، أنّها كانت تعكس الظّروف السّائِدة المحيطة بهذه المجتمعات.

ولكن، لم تذهب هذه المُحاولات هباءً، فالمعرفة البشريّة، لم تُبنَ إلاّ عبر أكوامٍ مُتتابعةٍ من الأوهام والأخطاء، من جيلٍ إلى آخر، حتّى أنتجت فكرةً يُعوَّل عليها في تقدُّمِ المجتمع. كما أنّ هناك قَفَزَاتٍ وقطائِعَ إبِستمولوجيّة –بالمعنى الباشلاريّ- قد تحدُث من حينٍ إلى حين؛ حيث لا مجال لفهم ما استَجدَّ من الأفكار والنّظريّات عبر المبادِئ الأوّليّة القديمة؛ وحيث لا إمكان لفهم المجتمع وتسييره، باحتوائِه ضمن بُوْتقة المفاهيم القديمة.

فبدايةً بالفلسفة اليونانيّة القديمة، كانت هناك محاولات مستمرّة للوصول إلى فَهمٍ موضوعيٍّ عن العالم؛ حيث إنّ هذا العالم، بمجموعهِ، يُؤلّف لوحةً، لا يبقى فيها شيءٌ كما كان، فكلّ شيءٍ يتحرّك ويتغيّر، ويتحوّل ويذهب. ولدى حديثنا عن الفلاسفة، نرى أنّ الفيلسوف هيراقليطس (الأغلب أنّه عاشَ من 540-480 ق.م)، كان أوّل مَن عبَّر عن هذه الحقيقة المَنشودة، الّتي تُمثّل جوهر الدّيالكتيك «الّذي هو موضوع حديثنا»، حين قال: «كلُّ شيءٍ موجودٌ، ولكنَّهُ، في الوقت نفسه، غير موجودٍ؛ لأنَّ كلّ شيءٍ يجري، وكلّ شيءٍ في تغيّرٍ مستمرّ، وفي صيرورةٍ وانتهاءٍ دائِمَين». كم يقول أيضًا، في عبارة نَسَبَها إليه أفلاطون: «لا نستطيع أن ننزل إلى النّهر مرّتين، ذاك أنّني عندما أستحمّ للمرّة الثّانية، يكون النّهر قد تغيّر، وأنا أيضًا». وهذا كلّه يشير إلى الدّيالكتيك، ويوضّح جوانبه. فضلًا عن حديثه في مواضعَ أخرى، عن التّناقضات والصّراعات الملازمة للعالم.

قبل الدّيالكتيك كفكرة عامّة، ماذا كان لدينا؟

لمّا كان الدّيالكتيك يُعتبر تطوّرًا في نظرة البشر إلى الحياة وطبيعة العالم، فلا بدّ، إذن، من أنّ فكرةً ما قد سبقته. نَصِف هذه النّظرة العامّة لفهم الكون، بأنّها كانت «ميتافيزيقيّة»، وهي تختلف –ضرورةً- عن النّظرة الدّيالكتيكيّة. حيث عادت هذه النّظرة الميتافيزيقيّة إلى ساحةِ الدّراسات الطّبيعيّة، في القرون الأخيرة السّالفة، خاصّةً في القرن الثّامن عشر، بعد أنْ غابَت عن الفلسفة اليونانيّة القديمة بشكلٍ عامٍّ. وطُبِعَت الفلسفة، مرّةً أُخرى، بطابَع الميتافيزيقيّة، باستثناء بعض الفلاسفة؛ كسبينوزا، وديكارت، وكانط، وغيرهم.

تُخالِف النّظرة الميتافيزيقيّة، جارَتها الدّيالكتيكيّة، الّتي ترى الحركة والجريان والتّدفّق في الأشياء. فتنظر، بدلًا من ذلك، إلى الحوادث والموضوعات والأفكار، باعتبارها ثابتةً، وجامدةً، ومستقلًّا بعضها عن البعض الآخر؛ أي إنّ الكون مجموعة من الأشياء المُتحجّرة والآليّة. إذن، المنهج الميتافيزيقيّ، هو تصوُّرٌ خاصٌّ للعالم، ونظرة خاصّة للحوادث والموضوعات. وعلينا بذلك، أن نُقابل المادّيّة الميتافيزيقيّة (الّتي تُميِّز القرن الثّامن عشر)، بالمادّيّة الدّيالكتيكيّة؛ كما نُقابل المادّيّة ما-قبل الماركسيّة، الّتي اتّصفت بالميكانيكيّة، تَبَعًا لطبيعة العلوم وقتئذٍ، بالمادّيّة الماركسيّة.

ملامح وسمات المنهج الميتافيزيقيّ

(1) مبدأ الهُويَّة «الذّاتيّة»

هو مبدأ أساس، يُعتبر من قوانين المنطق، أو من القوانين العامّة للفكر –القوانين الأوّليّة-؛ وهو من قوانين المنطق الصّوريّ الّذي وضعه أرسطو، والّذي يهتمّ بصورة الفكر الخارجيّة، وليسَ بمادّته. ويعني أنّ كلّ شيءٍ هو-هو، أو أنّ الشّيء هو نفسه، ويُمثّل نفسه فقط.

لكن، في المنهج المتافيزيقيّ، يتّخذ هذا القانون دَلالاتٍ مُعيّنة، حيثُ يمثّل السّمة الأولى لهذا المنهج. نقصد بمبدأ الذّاتيّة، أنّ المنهج الميتافيزيقيّ، من خلال هذا المبدأ، يُفضّل الجمود على الحركةِ، والهُويَّة الثّابتة على التّغيُّر، في مواجهته للأحداث. ويقودنا هذا المبدأ أيضًا، إلى تصوّرٍ كامل عن العالم، حيث يُعتَبر الكون كما لو كان متحجِّرًا، على حدّ تعبير إنجلز، ويَصدُق هذا على الطّبيعة، والمجتمع، والإنسان. ويُعبَّر عن هذا المبدأ، بِجُمَلٍ من قبيل: «لا جديد تحت الشّمس»، أو «النّاس هم دائمًا أنفسهم، عبر العصور والقرون»، فالكون جامِد، وباقٍ هو-هو، ولا يوجد أيّ تغييرٍ منذ الأزل.

(2) عزل الأشياء

بتطبيق السّمة الأولى على الأشياء، وبالتّركيز على أنّ الإنسان هو الإنسان؛ أي الإنسان بصيغته المُجرّدة، وما ليسَ الإنسان، هو بالتّأكيد شيء آخر؛ نُلاحظ بأنّنا نُميِّز، بصرامةٍ، الأشياءَ بعضها عن البعض الآخر، ونصل إلى تحويل العالم إلى مجموعةٍ من الأشياء المُنفصلة والمستقلّة؛ وهذه هي سمة عزل الأشياء. ونَلْحَظُ آثار هذه السّمة لدى تطبيقنا لها على الواقع الطّبيعيّ، حيث نعتبر أنّ شيئًا لا يتّصل بآخر؛ فكلّ شيءٍ معزول ومفصول؛ والإنسان يبقى هو الإنسان، مهما كان نوع الوسط الّذي يعيش فيه، والجماعة الّتي ينتمي إليها، والمجتمع الّذي يحتويه.

(3) تقسيمات أبديّة لا تُعبَر

وهي السّمة الّتي نحصل عليها نتيجةً لتطبيق السِّمَتَين السّابقتين. حيث اعتَبَر هذا المنهج أنّ الأشياء جامدة، وغير متغيّرة، وصنَّفها وبوَّبها تحت تقسيماتٍ صارمة وأبديّة؛ تُنسينا العلاقات بين الأشياء، والشّيء معطًى لمرّة واحدة، وإلى الأبد، وهذه التّقسيمات بين الأشياء موجودة لمرّة واحدة أيضًا، وبصيغة واحدة، وإلى الأبد. كما إنّها مطلقة، ويُتَعذَّرُ عبورها أو تحوُّلها. ولكن، ليس كلّ تقسيمٍ ميتافيزيقيًّا، فيجب أن ننتبه إلى الشّكل الّذي تقيم فيه الميتافيزيقا هذه الفروقات والعلاقات الموجودة بين التّقسيمات؛ حتّى نُميِّز نوع التّقسيم.

(4) تعارُض الأضدّاد

تتمخَّض السّمات الثّلاث السّابقة، عن السّمة الرّابعة للمنهج الميتافيزيقيّ؛ وهي تعارض الأضدّاد. فلمّا كانَ الموتُ هو الموت، والحياةُ هي الحياة، فلا يمكن الجمع بين الضدَّيْن أبدًا في آن. وهكذا، ننظر إلى الأضدّاد منعزلٌ بعضها عن البعض الآخر، وننظر إلى كلِّ واحدٍ بحدّ ذاته؛ لأنّ الأضدّاد تُفني بعضها، وباجتماعها، تفنى جميع الأطراف. فـ(إمّا) أن يكون هناك ديمُقراطيّة، (أو) أن يكون هناك ديكتاتوريّة. وعليك، بدورك، أن تختار.

الخطوط العريضة للدّيالكتيك بإيجاز

(1) هيراقليطس الأفيزيّ (الإفسوسيّ)، وجذور المادّيّة الدّيالكتيكيّة

عاشَ هيراقليطس في مِنطقة إفيزيا، في خِضَمّ أحداثٍ تاريخيّةٍ مُضطّربة جدًّا، كانت تلفُّ اليونان بأكملها. حيث جرت أحداثٌ عديدة بين منتصف القرن السّادس، وحتّى بدايةِ القرن الخامس قبل الميلاد؛ والّتي تمثّلت في الصّراع الطّبقيّ الشَّرِس بين الشّعب، والطّبقة الأرستقراطيّة، والإصلاحات الاجتماعيّة الّتي نجمت عنهُ، والقتال الضّاري الّذي خاضته المدن الأيونيّة، للحفاظ على استقلالها، والنّهاية المأساويّة لهذا القتال. ثمّ الحروب اليونانيّة-الفارسيّة الّتي شهدها هيراقليطس، كلّ ذلك كان له، بالطّبع، التّأثير العميق –حسب رأي بعض الفلاسفة والمُؤرّخين- على نظرة هيراقليطس إلى العالم. لذلك؛ ليس من قبيل الصّدفة أبدًا، أن يستخدمَ هيراقليطس كَلِمَتَيْ «صراع» و«حرب» بالمعنى العاديّ لهما حينًا، وبمعناهما الفلسفيّ الخاصّ حينًا آخر.

وظهرت، بادئ ذي بدء، جذور الفكر الدّيالكتيكيّ، بوضوحٍ، لدى هيراقليطس في عصر ما-قبل السّقراطيّة. وكانَ له باعًا طويلًا في ذلك، فعندما نُلقي الضّوء على أفكار هيراقليطس، وكتاباته المنثورة في الكتب، نَلْحظُ الدّيالكتيك واضحًا أيّما وضوحٍ لديه. وتُفهم نظريّته، أحيانًا، في الوسط الفلسفيّ، على أنّها فلسفة التّغيُّر الدّائِم للأشياء، أو الصّيرورة المُطلقة. حيث نسب إليه أفلاطون عبارة «كلّ شيءٍ يجري-Panta rhei»، دَلالةً على أن لا شيء ثابت ومتحجّر على حاله، دائِمًا وأبدًا. كما ينسب إليه أفلاطون، في محاورة “كراتيل”، أنّهُ قال: «في مكانٍ ما، إنّ كلّ شيءٍ يذهب، ولا شيء يبقى في مكانه. ويُقارِن –هيراقليطس- الأشياء بمجرى الماء، حيث لا يُمكن النّزول مرّتين إلى النّهر نفسه».

إنّ هيراقليطس، يجعل الحياةَ صراعًا دائِمًا، وصراعًا فرديًّا على الأخصّ. وعند الدّخول في سيرة حياة هيراقليطس، يولد انطباعٌ أنَّهُ يُهاجم كلّ العالم المحيط به، ابتداءً من الوجود «كما نقبله» والدّيانة السّائدة، ومرورًا بعظماء النّاس، وقادة الشّعب المعروفين، والنّظام السّياسيّ القائِم، ونمط الحياة الغريزيّ الخالِص وغير العقلانيّ عند أكثريّة النّاس، وانتهاءً إلى المنافقين وشهود الزّور، والمعرفة الزّائِدة عند حكماءَ مشهورين، مثل فيثاغورس، وأكسينوفانس… وهلمُّ جرًّا إلى آخر السّلسلة.

لا يُشار دائِمًا إلى فكرة فلسفة هيراقليطس الأساسيّة، بأنّها فكرة التّغيّر الدّائِم، بل يُشار أحيانًا إلى أنّها كانت مبدأ وَحْدة الأضدّاد، وفكرة الاعتدال والنّسبة والتّوازن بين الأشياء. والاعتدال هو القائِم في التّغيّر المُستمرّ. كما إنّ التفسير التّقليديّ لمذهب هيراقليطس، الّذي هو تفسير أفلاطون وأرسطو، عن الحركة والتّغيّر، قد لَقِيَ نقدًا شديدًا من قِبَل لوسيف، الّذي يعتقد أنّ النّقطة المركزيّة لدى هيراقليطس، هي فكرة التّوازن البنيويّ القائِم بين جنبات الكون.

وبالرّغم من كلّ هذه الانتقادات للفكرة التّقليديّة عن فلسفة هيراقليطس، ورغم الأفهام الأخرى الّتي أعطت مذهب هيراقليطس طابَعًا سكونيًّا، يُخفِّف من المظهر الدّيناميكيّ لفلسفته، يبقى من المُؤكّد أنّ هذا كلّه لا يغيّر من فكرة أنَّ التّغيّر والحركة الشّامِلَين، كانت جَلِيّةً في مذهب هيراقليطس، وإنّ هذه الفكرة من الأساس، لم تَكُن شيئًا كُلّيّ الجِدّة في عصره.

باختصار، أدرك هيراقليطس، بعبقريّة، جوهر الحركة والتّغيّر المستمِرَّيْن، من حيثُ هما الجوهر الأقوى لدى الكائِن. فالسّيل الشّامل، والجريان الدّائِم؛ هما عمليّتا نشوءِ وزوالِ الأشياء في آنٍ معًا؛ عمليّتا تبدُّلٍ مُستمرٍّ بين النّشوء والزّوال. إنّ المستقبل، إذ يقترب، يُصبح حاضرًا، في حين أنّهُ عندما يُصبح الحاضر حاضرًا، يبتعد إلى الوراء في الماضي.

طبيعةُ الأشياء مُتغيّرة، وجوهر الحياةِ نشاطٌ مُستمرّ. الكونُ في صيرورة، والعالم مجموعة من الأشياء الدّاخلة في دوّامة الوجود – هكذا يفهم هيراقليطس العالم. كلّ ما يتحرّك يعيش، وكلّ ما يعيش يتحرّك – فالسّكون والرّاحة، هما من صفّات الأموات، بتعبير هيراقليطس.

(2) الدّيالكتيك في القرون الحديثة السّالفة، إجمالًا

لاحظنا كيف أنَّ هيراقليطس، تحدّث عن حركةٍ دائِمةٍ ومُستمرّة في الوجود، حيث انتقل هذا الفكر عبر العصور، وعُرِّضَ لكثيرٍ من التّبدّلات والتّحولات، إلاّ أنّ فكرة الحركة بقيت ملتصقةٍ فيه. فبعد أن طغت الدّيالكتيكيّة المتافيزيقيّة والميكانيكيّة في القرنين السّابع عشر والثّامن عشر؛ عادت في القرن التّاسع عشر النّظريّة الدّيالكتيكيّة-التّاريخيّة، لِتشُقَّ طريقها من جديدٍ في عالم الفلسفة – تبعًا للتّطوّر الاجتماعيّ الحاصل، ورُقيّ العلوم الطّبيعيّة ومناهجها. فإذا كان ديالكتيك القرن الثّامن عشر ميتافيزيقيًّا؛ ذلك لأنّ دراسة العلوم الطّبيعيّة كانت تشقّ نفس المنهج، حيث تدرس حوادث الطّبيعة بفصلها وعزلها عن بعضها.

وفي القرن التّاسع عشرـ تحدّث هيغل عن الدّيالكتيك في الفكر؛ حيث استخلص من جموع العلوم الطّبيعيّة والتّاريخ على مرّ العصور، أعمَّ قوانين الطّبيعة والفكر الّتي لاحظها. وظهرت ديالكتيكيّته واضحةً، عندما اعتبر –لأوّل مرّة في التّاريخ- أنّ الكون بأسره، بما فيه من طبيعةٍ، وتاريخٍ، وفكرٍ؛ هو نِتاج تطوّرٍ لا ينتهي، وأنّهُ في حركةٍ دائمةٍ ودائِبة، وفي تغيّرٍ وتحوّلٍ أبديَّيْن؛ ومن هُنا، يُعتبر هيغل واضعًا للفلسفة الدّيالكتيكيّة في العصر الحديث.

لكن، لماذا كان هيغل مثاليًّا في ديالكتيكيّته؟ إنّه أوّلًا، لم يعتبر الفكر نتاجًا للمادّة، وانعكاسًا لحركتها في دماغ الإنسان. وإنّه ثانيًا، اعتبر الفكرة المطلقة –روح العالم- صانعةَ المادّة، وخالقتها، وهي مستقلّة بذاتها. وهذه الأخيرة، تعني لدى هيغل، مُجمل الظّواهر ذات الطّابع الإنسانيّ. والإنسان بما يمتلكه من فكر، يشهد صراعًا للأفكار ذات «الطّبيعة المتناقضة»، ليتطوّر فكر العالم عبر التّاريخ. لكنّ هيغل، اتُّهِم بأنّه لم يُعبّر عن الوجود، إنّما حاول تفسيره، وأنّه لم يُحرّر الإنسان إلاّ نظريًّا. حيث إنّ المخترع لديه فكرة، وهو يحقّق الفكرة بتحويلها إلى واقع، وبتجسيد الفكرة، تُخلَق التّغيُّرات في المادّة.

تطوَّر المجتمع العلميّ-الاجتماعيّ، وتَبَيَّن يومًا بعد يوم، عجز المثاليّة الدّيالكتيكيّة عن تفسير حوادث الطّبيعة والمجتمع. وجاء لودفيغ فيورباخ، الّذي كان حلقة انتقالٍ بين فلسفة هيغل وماركس، وقال: «إنّ الفكر يخرج من الكائن، وليس الكائن الّذي يخرج من الفكر». واتّخذت الهيغليّة اليساريّة، هذه الانتقادات المُوجّهة إلى ديالكتيكيّة هيغل، نقطة بدء لها، فسارت بفلسفة التّاريخِ نحو اتّجاهٍ عمليّ، انتهى بنا إلى الفلسفة الماركسيّة التّاريخيّة.

أمّا المادّية قبل ماركس، وبشكل عام، كانت ميكانيكيّةً، تهبط بكلّ شيء في العالم –بما في ذلك الحياة والذّهن- إلى نظامٍ من الميكانيكيّة الّتي لا روح لها، وتقيس الحياة بالفعل الميكانيكيّ الآليّ المتبادل بين الأجسام. وهي مادّيّة أخذت صفتها الميكانيكيّة من طبيعة العلوم الّتي كانت سائدة في عصور نيوتُن، وغيره. والفرق في قولنا، بين مادّية ميكانيكيّة وديالكتيكيّة، يكمن في طريقة فهم ماهيّة التّغيّر، وكيف يحصل في العالم.

كيف ينظر المادّيّ الميكانيكيّ إلى الطّبيعة؟ إنّ الطّبيعة مركّبة من أجزاء، ونكتشف هذه الأجزاء بتمزيق الطّبيعة، وفكّ أجزائها، كما نفكّ ساعة حائِط، لنكتشف «الأجزاء النّهائيّة» المُكوّنة لها، وكيف تتوافق هذه الأجزاء فيما بينها، وكيف يُحدِث هذا التّوافق والتّفاعل المُتبادل، كلّ التّغيّرات الّتي ندركها. وعندما نكتشف كلّ ذلك، نكون قد عرفنا كلّ ما نحتاج معرفته، ولم يبقَ سوى أن نُحاول تحسين وإصلاح هذه الطّبيعة الآليّة، وأن نسعى إلى تغييرها وجعلها تُنتج نتائجَ دقيقة، تتّفق وحاجات الإنسان.

ولكن، هل هذا المسعى الّذي ترومه الميكانيكيّة، يتّسق مع رؤيتها للطّبيعة، وهل هو أمر معقول؟ فلمّا كانت الطّبيعة –كما يزعمون- آلةً، فلا يُمكن للآلة إلاّ أن تقوم بما صُنِعت من أجله، ولا يمكن لها أن تغيّر من نفسها، ولا أن تُنتج شيئًا جديدًا وجذريًّا. كما إنّها تدّعي أنّ الإنسان مستقلٌّ تمامًا عن هذه الطّبيعة، ويستطيع أن يفعل ما بدا له، وأن يُغيّر ما يُريد.

كلمة الدّيالكتيك (الدّيالكطيقا)، في أصلها كلمة يونانيّة، أُخِذَت من دياليغو، وتعني المحادثة، أو المجادلة، أو فنّ المناقشة. وفي عهد القدماء؛ حيث صُكَّ المصطلح، كانت تعني فنّ الوصول إلى الحقيقة، باكتشاف التّناقضات الّتي يتضمّنها استدلال الخصم، وبالتّغلّب عليها. حيث إنّ أفضل طريقة للوصول إلى الحقيقة، كانت بمناقشة جوانب وزوايا المسألة جميعها، والسّماح لمُختلِف وِجهات النّظر ذات الجانب الواحد بأن تتعارض وتتناقض خلال المجادلة.

فأسلوب الدّيالكتيك، إذن، كان أسلوبًا في التفكير، حيث يكتشف تناقضات الفكر، ويصادم بين الآراء، سعيًا للوصول إلى الحقيقة. وكان سقراط، رائدًا في استخدام هذا النّوع من الجدل والخطاب، فحين كان أيّ إنسان يدّعي الوصول إلى صيغة، تُجيب على سؤالٍ مُعيّن إجابةً نهائيّةً، كان سقراطُ يدخل معه في نقاش، ويُجبره على النّظر إلى المسألة من زوايا مُختلفة، ويدفعه إلى مناقضة نفسه، ومن ثَمَّ، يعترف بأنّ صيغته كانت زائِفة. وكان سقراطُ، يعتبر أنّه من الممكن، عن طريق هذا المنهج، الوصول إلى أفكار أكثر صحّةً عن الأشياء.

أمّا الدّيالكتيك مع ماركس، أصبح منهجًا ثوريًّا جديدًا؛ لأنّه يرتبط بمادّيّة مُتماسكة، تستند إلى العلم؛ ولأنّه كفَّ عن أن يكون مجرّد منهجٍ نظريٍّ للنّقاش، بل أصبح منهجًا للبحث، يقبل التّطبيق على الطّبيعة والمجتمع على السّواء. إنّه أشبه بوَحْدة الكائِن العضويّ؛ حيث ترتبط الحوادث فيما بينها ارتباطًا عضويًّا، ويتعلّق أحدها بالآخر، ويكون بعضها شرطًا للبعض الآخر، بصورة متقابلة.

ويقول إنجلز، في كتابه “ضدّ دوهرنغ، صفحة 26”: «حيث ننظر ونتأمّل في الطّبيعة، أو في مداها، أو في تاريخ الجنس البشريّ، أو في نشاطنا الخاصّ، فإنّنا نشاهد أوّل ما نُشاهد؛ تشابكًا لا-مُتناهيًا للعلاقات وردود الأفعال، وللمبادلات والتّركيبات؛ تَشابُكًا لا يظلّ فيه شيءٌ ثابتًا على حاله، أو في مكانه، أو مثلما كان من قبل. بل إنّ كلّ شيء يتحرّك، ويتبدّل، ويُخلَق، ويُفنى». وبشكلٍ عام، يعني مفهوم الحركة: التّغيّر في مقولة الأين؛ بتعبيرٍ أرسطيّ. أو هي النّقْلة. كما يقع الحجر، ويسير القطار. أمّا التّغيّر، فيعني: العبور من شكلٍ إلى آخر، حيث تفقد الشّجرة أوراقها، فيتغيّر شكلها.

وقوانين الدّيالكتيك، هي ثلاثة، أو أربعة: التّغيّر الدّيالكتيكيّ، والفعل المتبادل، والتّناقض على مستوى الوقائع والأشياء، وتحوّل الكمّ إلى كيف (أو التّقدّم بالقفز).

ملاحظة: سيكون هناك جزءٌ ثانٍ، مُذيّل بالمصادر والمراجع؛ للاستزادة.

فيديو «شيءٌ عن الدّيالكتيك المادّي والتّاريخيّ» الجزء (1-3)

أضف تعليقك هنا