لايبْنتز: في الرّدّ على مَن اعتقدوا أنّه كان بوسع اللَّه أن يفعل أفضل ممّا فعل بقلم: زين إسماعيل الشرقاوي

لايبْنتز: في الرّدّ على مَن اعتقدوا أنّه كان بوسع اللَّه أن يفعل أفضل ممّا فعل

في بعض أقوال نيكولا مالبرانش (Malebranche)، نجده يقول التّالي:

«بلا ريبٍ، كان بإمكان اللَّه خلق عالمٍ أكثر كمالًا من العالم الَّذي نسكنه»،

هل عالَمنا هو الأفضل من بين جميع العوالم المُمكنة؟

وهذا يُعارض تمامًا ما صرَّح به لايبنتز في أنّ عالَمنا هو الأفضل من بين جميع العوالم المُمكنة، ما دامَ اللَّه قد اختاره، فيغدوا هذا العالم، ليس عالمًا خيّرًا فحسب. ونظريّة لايبنتز هذه بالذّات، ستكون موضع انتقادٍ شديد من قِبَل ڤولتير لاحقًا. لهذا، لم يوافق لايبنتز على أقوال وآراء بعض المحدثين الّذين أكّدوا في عصره، بجاسرةٍ، أنّ فِعل اللَّه، ليس أكمل ما يكون، ويُمكنه أن يفعل أفضل بكثيرٍ ممّا فعل. لذلك، يعمد لايبنتز إلى مناقشة من صرّحوا بهذه الأقوال، وعلى رأسهم، ديكارت ومدرسته.

مجد اللَّه

يرى لايبنتز أنّ مزاعم هؤلاء القوم، متناقضة تمامًا، ومُناقِضة لفكرة مجد اللَّه؛ أيْ حكمته وطيبته وقدرته المُتجلّية في التّناغم الكُلّيّ، فكما أنّ أدنى الشّرّ، عبارةٌ عن شرّ يتضمّن نسبةً ما من الخير، فإنّ أدنى الخير، يتضمّن بعض الشّرّ أيضًا. ثمّ يحكم لايبنتز على أنّ فعلنا ناقص، عندما نتصرّف بكمالٍ، أقلّ ممّا يسعنا ويمكننا أن نفعل، وهذا ما يُشابه قول مالبرانش فيما نسبه إلى اللَّه. وفي هذا، يُوجّه لايبنتز كلامه إلى أشخاصٍ مُحدَثين مُعيّنين، يعتبرون أنّ وجود الشّرّ في الكون أمرٌ لا مفرّ منه، وأنّ العالَم ليس على الكمال الّذي نأمله.

فيقولون، أوّلًا: إنّ التّجرِبة تكشف أنّ العالَم ليس خيّرًا بالصّورة الّتي نزعُم، فالكوارث الّتي تحدث، تجلعنا نتصوّر بسهولة، عالمًا أكثر كمالًا منه. ولو قُلنا بضرورة التّحسّن المُطّرِد لهذا العالم، فإنّ ذلك يعني أنّه من المُمكن دائِمًا تصوّر عالمٍ أكثر كمالًا من عالَمنا؛ يعني أنّنا هُنا نرجع إلى نقطة مالبرانش الّتي بدأنا بها.

ويُضيف هؤلاء: غير أنّنا لو افترضنا أنّ اللَّه مُضطّرّ إلى تصوّر عالَم أكثر كمالًا من عالَمنا، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ حرّيّته محدودة، وليست ذات صفة مُطلقة، وهكذا، يتسرّب النّقص إلى اللَّه. لكنّ الرّدّ من قبل لايبنتز، يأتي كالتّالي: إنّهم متهوِّرون كثيرًا في تسرُّعهم في إثبات حقائق مهزوزة من الأساس، لا يجوز إثباتها بسهولة، ولا هم قد أثبتوها. كما إنّ معرفتنا بالزّمان ضئيلة، ولا اعتبار لها، كما أنّ ما نعرفه عن التّاريخ، لا يُمثّل شيئًا ذا قيمةٍ تُذكر، ليُمثّل إثباتًا وُحكمًا قاطعًا على سوء عالَمنا، بل هو تسرّع وافتراض مُتهوّر، «فنحنُ لا نعرف إلاّ جزءًا بسيطًا جدًّا من الأزل»، كما يقول لايبنتز. فمصدر تسرّعنا في الحكم مرتبطٌ بالمنهج العامّ، الّذي نختاره عادةً.

قاعدة الوُضوح والتّميّز

يستند ديكارت في طريقته إلى قاعدة الوُضوح والتّميّز، وهذا ما ينتقده لايبنتز، حيث لا شيء يسمح أبدًا، باعتبار أنّ كلّ ما كانَ واضحًا يكون مُتميّزًا بالضّرورة. وتاليًا، برمي طريقة ديكارت جانبًا، لا نستطيع أبدًا القول إنّه بإمكان الإنسان أن يدّعي أنّه يعلم التّناغم الموجود في العالم، وهذا التّناغم، ينتظم وَفْق سُلّم تراتبٍ يفوق بكثيرٍ سلّم التّراتب الّذي نعرفه، وهو يستند إلى معاييرِ تمييزٍ لا نقدر، بصفتنا بشرًا، على إدراكها بوضوح؛ أي إنّنا قاصرون على فعل ذلك.

ولٔنعُد إلى لايبنتز، حيث يقول التّالي:

إنّنا نبخس عمل المُهندس المعماريّ حين نُثبت أنّه كان بوسعه أن يجعله أفضل.

أضِف إلى ذلك أنّنا نُعارض الكتاب المقدّس في تأكيده خيريّة أعمال اللَّه. وباعتبار أنّ النّقائص تُوَلّي القهقرى إلى ما لانهاية؛ فمهما كانت الطّريقة الّتي خلق اللَّه بها أثره، فسيكون حسنًا دائمًا مُقارنته بما هو أقلّ منه حُسنًا، لو كان هذا كافيًا، لكنّ شيئًا ما لا يكون محمودًا حين يُمدح بهذه الكيفيّة فقط. أعتقد أنّنا سنجد كذلك في الكتاب المُقدّس وعند الآباء القدّيسين، شواهدَ لا تُحصى تُؤيّد رأيي [كالقدّيس أوغسطين، والّذي سأتناول رأيه ورأي غيره باقتضاب بعد قليل]. غير أنّنا لا نجدُ ما يُؤيّد اعتقاد هؤلاء المُحدثين.

هل ثمّة كمال يمكن أن يكون أعلى من الكمال العَرَضيّ؟

ثمّ على الجانب المُجاور، يُجيب مالبرانش عن سؤالٍ يتعلّق بمسألة أساسيّة فيما يخصّ معرفة إذا ما كان ثمّة كمال يمكن أن يكون أعلى من الكمال العَرَضيّ؛ يُجيب مالبرانش بنعم، حيث يعتقد أنّ اللَّه قادرٌ أن يُنتج عوالِمَ «بعضها أكمل من بعض، وذلك إلى ما لانهاية».

ويعتبر لاينتز تفكير مالبرانش سليمًا، ولكن بصفةٍ جُزئيّة فقط (وهذا يتّصل بأفكار أوغسطين وغيره). ما الّذي يعنيه هذا؟ إنّه إن كان مُمكنًا تنامي عدد العوالم الرّديئة إلى ما لانهاية -كما تتكاثر طبقات الأهرام في مستوى القاعدة- فإنّ القمّة لا تحتمل التّكاثر إلى ما لانهاية، إذ تفترض طبيعة الكمال، التّوصّل إلى حدٍّ أقصى، أو إلى درجةٍ قُصوى.

هُناك في فكر لايبنتز، مكانة خاصّة لمصطلحات مثل «الأقصى والأدنى»، فيقول: ثمّة دائمًا في الأشياء مبدأ تحديد، علينا استخراجه من اعتبار ما هو أقصى، وما كان أدنى؛ وهو أنّ أقصى النّتائج، تحدث بأدنى الوسائل. ما خطأ مالبرانش، إذن، وغيره من الفلاسفة، برأي لايبنتز؟ يُجيب هذا الأخير:

«إنّهم يتخيّلون أنّه لا يوجد شيء كامل ما بعده كمال يفوقه، وفي ذلك خطأ».

نعود إلى القروسطيين والآباء القدّيسين الّذين اعتبرهم لايبنتز، شواهدَ لا تُحصى تُؤيّد رأيه، وأهمّهم القدّيس أوغسطين، فضلًا عن أنّ لايبنتز، لا يُخفي ميله الواضح لفلسفات أفلاطون، وأرسطو، وأفلوطين. اجتمع كلّ هؤلاء في ردّهم على سبب الخطأ الرّائج عند المُحدَثين، والمُتمثّل في أنّهم ينظرون إلى الأشياء نظرةً جزئيّة، وليس بطريقةٍ كُلّيّة وعامّة.

إنّ الإنسان لا يعرف لِمَ، وكيف يكون هذا العالم أفضل العوالم، بل يعلم فقط أنّه كذلك. وهاك ما يقوله لايبنتز في هذا الشّأن: «يتضمّن موضوع اللَّه شيئًا من اللاَّتناهي، وتمتدّ عنايته إلى الكون بأسره، ولا يكادُ يُمثّل ما نعلمه عنه شيئًا، ونحن نريد قياس حكمته وطيبته عن طريق معرفتنا الخاصّة: يا له من تمرُّد، بل يا له من عبث… فأن نقول معَ القدّيس بولس: يا روعة العلم الإلهيّ، لا يعني أنّنا نتخلّى عن العقل، بل هو استعمال للأسباب الّتي نعرفها، لأنّها عظمة اللَّه الّتي يتحدّث عنها القدّيس بولس؛ إنّما في ذلك اعتراف بجهلنا للوقائع، وإقرار معَ ذلك، قبل أن نرى، أنّ اللَّه يفعل كلّ ما هو أفضل، وما يُمكن فعله، تَبَعًا لحكمته اللاَّمتناهية الّتي تضبط أفعاله».

التّناغم المُسبّق الوضع (Harmonie préétablie)

لذلك، أحكام المُحدثين، تستند إلى معرفة ضئيلة جدًّا بالتّناغم العامّ للكَون، وعلل التّدبير الإلهيّ الخفيّة، كما يقول لايبنتز، ما يجعلنا نحكم جزافًا، أنّه كان بالإمكان تحسين أشياء كثيرة. والتّناغم لدى لايبنتز، مفهوم مهمّ، يشير إلى توحيد الكثرة أو التّنوّع القائم في هذا الكون، على جميع الصُّعُد: الفيزيائيّة، والكوزمولوجيّة، والثّيولوجيّة، والإستطيقيّة، والإطيقيّة، والأنطولوجيّة؛ فالتّناغم قائم بين كلّ هذه الكثرة أو التّنوّع، وهذا هو مفهوم النّسق الجديد لِلايبنتز بمعنًى من المعاني، أو التّناغم المُسبّق الوضع (Harmonie préétablie). ويقول: «أن نوجد، ليس شيئًا آخر غير أن نكون مُتناغمين».

مسألة خلق الأشياء

لنوضّح أكثر، يجب أن نُعرّج على مفهوم وتفسير لايبنتز لمسألة خلق الأشياء، وعلاقتها بمَلَكَة فهم اللَّه، وإرادته، وحرّيته. حيث يُفسّرها كالتّالي: قبل أن تُوجد الأشياء في هذا العالم بالفعل، فإنّها وُجِدت بِما هي مُمكنات ضمن عالَمٍ من العوالم اللاَّمُتناهية الّتي تزخر بها مَلَكَة فهم اللَّه.

فاللَّه لا يخلق إلاَّ ما كان مُمكِنًا، والمُمكن هو ما لا يُؤدّي نقيضه إلى تناقضٍ، وهو نابع من اللَّه من جهة أنّه موجود منذ الأزل في مَلَكَة فهمه.

المُمكنٌ الصرف والمُمكنٌ الواقع

وتاليًا، هناك ما هو مُمكنٌ صِرف، وما هو مُمكنٌ واقع. أمّا الواقع، فلا يكون كذلك إلاّ لأنّ اللَّه قد رأى الخير الّذي يتضمّنه هذا المُمكن، ولأنّه وصل إلى مُمكنٍ مُتماكِن (Compossible)؛ إي إلى درجةٍ من الكمال، كانت كفيلة في جعله خليقًا بالتّحقق. وهكذا نفهم، أنّ المُتماكن، هو ما تَضمَّنَ في ذاته، قدرة على التّحقّق، وميلًا إلى الوجود، تحكمهُ علّة كافية؛ أيْ يجب أن يرتبط وجوده بكونه مُمكنًا، أوّلًا، يعقله اللَّه ويخلقه متى يشاء، ثانيًا.

وبهذا، تكون المُمكنات ذات كيانٍ منقوص [إنّها كائن منقوص]، بتعبير الإسكولائيّين، وليست كيانًا كاملًا مُستقلاًّ، بل تميل إلى الوجود، وتُطالب به، من خلال صراعها مع المُمكنات الأخرى الّتي تروم الوصول إلى درجة الكمال المطلوبة في مَلَكَة فهم اللَّه. أمّا المُمكن الصّرف، فهو المُمكن بحدّ ذاته، أو بما هو، كمفهوم. وليست المُمكنات الصّرفة جميعها تصير واقعةً، فلو حصل ذلك، أصبح كلّ ما وُجد في العالم ضروريًّا من حيث وجوده، وفقد الخلق دَلالته، وصَعُب الحديث عن إرادة خلقٍ، تُميّز فعل اللَّه المُتّصف بخلق ما هو خيّر.

هل الله يخلق الخير المُترتّب على وجود الأشياء؟

إذن، يُوجد المُمكن أوّلًا، على شكل أفكارٍ، وللَّه فكرة عمّا يُمكنه أن يخلق، كما أنّ له فكرة عمّا لن يخلقه. وهذا التّنوّع في أفكار اللَّه ضروريٌّ، فملَكَة فهمه تتضمّن كلّ الأفكار المُمكنة.

وما يحمل اللَّه على تحويل بعض المُمكنات، من دون أخرى، من طوْر الإمكان المحض أو الصِّرف، إلى طور الوجود الفعليّ الواقعيّ؛ يتمّ، تباعًا، بمقارنة اللَّّه بين الأفكار الّتي في مَلَكَة فهمه، ومن ثَمّ، تقريره أن يخلق أو يمنح الوجود لما يرى أنّه خيّرٌ بذاته. وبالتّالي، فاللّه لا يخلق الخير المُترتّب على وجود الأشياء ( = عواقبيّة الفعل)، بل يخلق الأشياء الّتي يرى أنّها خيّرة بذاتها.

حُرّيّة اللَّه المُطلقة

وغير ذلك، يُؤكّد ديكارت على حُرّيّة اللَّه المُطلقة، فلو كان اللَّه مُرغمًا على اختيار عالمٍ من دون آخر، فإنّ ذلك يعني أنّه ليس حُرًّا. إنّ اللَّه حرّ، وهو -كما يتصوّره ديكارت- لا يتصرّف إلاَّ بضوابطَ حدّدها، واختارها بنفسه، وقد كان بوسعه اختيار غيرها.

ويُوضّح ديكارت، كالتّالي: الحُريّة الّتي توجد في اللَّه، تختلف اختلافًا كبيرًا عن تلك الّتي توجد فينا نحن وتاليًا، يجب أن تكون إرادة اللَّه لا مُبالية [اللاَّمبالاة الإلهيّة] حيال كلّ الأشياء، فمستحيل أن تدفع فكرة الخير، مثلًا، اللَّه إلى اختيار شيء من دون شيء آخر. وهذا ما يُعنى بقول ديكارت أنّ حريّة اللَّه مُطلقة، فلو شاء هذا الإله، لتحوّلت الحقائق الرّياضيّة، والمنطقيّة، والفيزيائيّة إلى قضايا خاطئة، فحُرّيّته لا يُمكن حدّها بقواعد مُسبّقة عليه.

اللاَّمبالاة

لا يجب، إذن، كما يقصد ديكارت إخبارنا، أن نطرح مسألة الحُرّية بالنّسبة إلى الإنسان، كما تُطرح بالنّسبة إلى اللَّه. فاللاَّمبالاة يجب أن يتّصف اللَّه بها، وهي حُجّة على قدرة اللَّه العظيمة، وهذا يختلف تمامًا بالنّسبة إلى الإنسان. معايير الخير والجمال، الحقّ والباطل، وغير ذلك، كلّها معايير إنسانيّة بحتة، لا يولي اللَّه لها بالًا، وعلى نفس الشّاكلة، فمعايير التّمييز بين المُمكن والمستحيل، هي الأخرى إنسانيّة فقط. وعلى عكس لايبنتز، في مفهوم العلّة الكافية (Raison suffisante)، الّذي سأتناوله بعد قليل، يرى ديكارت أنّه لو كان للَّه علل تتحكّم في مَلَكَة فهمه، لفقد حرّيّته. لذلك؛ يعتبر ديكارت اللاَّمبالاة صفةً رئيسة من صفات اللَّه.

فما دام لا شيء يُمكنه أن يُؤثّر في اللَّه، ويُحدّد سلوكه، أو يجعله يُفضّل خلق أشياء عوضًا عن عدم خلقها؛ فإذن، كلّ شيء تابع للرّبّ، ونابعٌ منه. فالإنسان، يميل ميلًا طبيعيًّا إلى الخير، الّذي وضعه اللَّه هو والحقيقة، وحدّدهما. أمّا اللَّه، فإرادته لامُبالية حيال كلّ شيء، وليس هناك فكرة تمثّل الخير، أو الحقّ، وما يجب الإيمان به، وما يجب تركه أو فعله، في إرادته. وهكذا، إذن، حسب ديكارت، لا حاجة تدفعنا إلى تبرير خيريّة ما خلق اللَّه.

هل من الممكن أن يصير حكم الله استبدادياً؟

أمّا صديقنا لايبنتز، فلهُ رأي مُغاير، يستند إلى تعريفاته عن اللَّه وصفاته. فلايبنتز يرى، أنّ حكم اللَّه قد يصير استبداديًّا، إذا ما بقينا على أفكار ديكارت. فحكم اللَّه، ليس استبداديًّا، لا حِكمة فيه، ولا نظام به. فاللَّه يسعى إلى وضع نظامٍ مُحكم، لو تمعّنا في أحكام القضاء الإلهيّ الكُلّيّة، وليس الجُزئيّة. لذلك؛ إنّ ما يقرّره اللَّه، صادرٌ عن العقل، ويخصّ خير رعيّته ومصلحتهم.

وفكرة حدوث العالَم، تفترض أنّ للَّه قدرة على الاختيار بين حالاتٍ مُتعدّدة، بل قل أيضًا، بين عوالِمَ مُتعدّدة، واللَّه يختار دائمًا الأفضل؛ وهذه هي فكرة العَرَضيّة (Contingent). تتمثّل هذه الأخيرة، بأنّ اللَّه يختار هذا العالم، من بين جميع العوالم المُمكنة.

العَرَضيّة، والكمال

ويُكمل لايبنتز في انتقاد فكرة الإمكان المحض عند ديكارت، من جهة أنّ المُمكن يُمثّل شيئًا محضًا لم يُخلق بعد، فهذا النّوع من المُمكن، يُمثّل شيئًا لا يُمكننا تصوّره، حسب لايينتز. فلو كانَ اللَّه خالقًا كُل مُمكنٍ [الممكن المحض] في ملكة فهمه؛ أيْ مُحوّلًا إلى الفعل كُلّ ما تصوّره مُمكنًا، لصار العالَم بِرُمَّته، واقعًا في سياق الضّرورة. فضلًا عن ذلك، لو كان اللَّه خالقًا الأشياء بلا معايير، ومن دون أن تكون ثَمّة علّة تُبرّر لِمَ خلق هذا الشّيء تحديدًا، ولم يخلق غيره، لَفَقَد العالَم معناه، لِزامًا.

وهكذا، يكون العالَم ذا صفتين رئيستين: العَرَضيّة، والكمال. أيْ إنّ هذا العالَم ليس ضروريًّا، بل يعني أنّه أكمل ما كان بالإمكان خلقه. وأكْمَلُ الفعل، يعني أعلى درجات الحُرّيّة. والقول بغياب العلّة عن فعل اللَّه، يعني أنّ اللَّه قد خلق كلّ ما كانَ بإمكانه أن يخلق، ولأصبح الواقع واحدًا، يُطابق تمامًا ما هو مُمكن محض، وتاليًا، نقيض هذا العالَم الحادث، يُصبح شيئًا مستحيلًا.

مبدأ العلّة الكافية

وهُنا علينا أن نُذكِّر، بأنّ مبدأ العلّة الكافية، مبدأٌ كلّيّ تمامًا، يجري على كلّ الكائنات، بما فيها اللَّه نفسه. ولا يقصد لايبنتز، أنّ اللَّه يخضع لضرورة مُطلقة، تعلوه وتُحدّده، ويُؤدّي نقيضها إلى تناقضٍ، بل يعني أنّ اختيار اللَّه لِمُمكنٍ من المُمكنات، يفترض توفُّر علّة تُحفّزه على اختيار ذلك المُمكن، من دون آخر، فمن غير المُمكن أن يكون اختيار اللَّه عبثيًّا.

ثمّ يقول لايبنتز: «يُمكن القول، أنّه منذ الحين الّذي قرّر فيه اللَّه خلق شيءٍ ما، ثمّة صراع بين جميع المُمكنات، وكُلّها تطمح إلى أن تُوجد، وما يفوز منها، هو الأكثر كمالًا، والأكثر معقوليّةً، والأكثر واقعًا. صحيح أنّ هذا الصّراع لا يُمكن أن يكون إلاَّ مثاليًّا؛ أيْ أنّه لا يمكن أن يكون إلاَّ صراع معقولات في ذهن [أكمل الكائنات]، ولا يفوت هذا الأخير، أن يفعل بأكمل الصّور، وأن يختار، تَبَعًا لذلك، الأفضل. غير أنّ اللَّه مُضطّرٌّ، تبعًا لضرورة أخلاقيّة، أن يخلقَ الأشياء، بحيث لا يُمكن أن يوجدَ ما هو أفضل من ذلك».

هل اللَّه يفعل ما لا يكون به جديرًا بالتّمجيد؟

وهكذا، فإنّ الاعتقاد بأنّ اللَّه يُؤثّر في شيءٍ ما، من دون أن يكون لفعله علّة تُحدّد إرادته، هو ممّا لا يُلائم عَظَمة اللَّه. ويُورد لايبنتز، مثالًا رياضيًّا، كالتّالي: لنفترض مثلًا أنّ اللَّه خُيّر بين (أ) و(ب)، وأنّه أخذ (أ) من دون أيّ سببٍ لتفضيله على (ب). أقول إنّ هذا الفعل الإلهيّ ليسَ خليقًا بالثّناء في شيء، إذ يجب أن يكون كلّ تمجيدٍ مُؤسّسًا على علّة ليست ذات لزومٍ شرطيّ. وخلافًا لذلك، كما يقول لايبنتز، فإنّي أعتبر أنّ اللَّه لا يفعل ما لا يكون به جديرًا بالتّمجيد.

اللزوم الشرطي 

أمّا ما لزومه شرطيّ، حسب لايبنتز، فيمثّل ما تكون ضرورته خارجيّة، وليست داخليّة؛ أي علّة شرطيّة لا تحكمها ضرورة مبدئيّة. ويضرب لايبنتز مثالًا في سبيل التّوضيح: لو قرّرت مثلًا أن أقوم بعملٍ ما، فإنًه يترتّب عليه بالضّرورة، نتيجة معيّنة، لكنّ الضّرورة في حالة النّتائج ليست حتميّة، إذ يترتّب على فعلٍ شرّيرٍ، وجود عقابٍ كنتيجة طبيعيّة، لكنّ العقاب في ذاته، ليس حتميًّا، إذ يُمكن أن أفعل الشّرّ، من دون أن أُعاقَب.

فعدم العقاب هُنا، لا يجرّنا إلى التّناقض، لإنّ لزومه شرطيّ. أمّا ما لزومه ضروريّ، يبقى في مجال ما هو منطقيّ، ويُعبّر عن مبدأ عدم التّناقض، إذ ينطبق على الجواهر والمُمكنات.

اللاَّمبالاة الإلهيّة

أمّا فيما يخصّ اللاَّمبالاة الإلهيّة، فيرى لايبنتز أنّ حرّيّة اللَّه، تتضمّن، مثل أيّ حرّيّة، لامَبالاةً ما، لكنّها ليست ما يُسمّى بلامبالاة توازن. فنحن دائمًا مُحدّدون من قبل جهةٍ ما، غير أنّنا لسنا أبدًا مُضطّرّين للقيام بالخيارات الّتي نقوم بها. أي ضرورة يقصد لايبنتز؟ تلك هي الضّرورة المطلقة (Nécessité absolu) بالمفهوم الميتافيزيقيّ للكلمة.

وبالتّالي، يجب أن نعترف كذلك، أنّ اللَّه الحكيم، يميل إلى الأفضل، عن طريق ضرورة أخلاقيّة (Nécessité morale). والضّرورة الأخلاقيّة، تطفو على السّطح عندما يتعلّق الأمر بما هو فرديّ وواقعيّ. علمًا بأنّ لايبنتز، يُشير إلى وجود نوع آخر من الضّرورة؛ أيْ تلك الضّرورة المطلقة ذات الطّبيعة الهندسيّة المنطقيّة، لا تخضع إلاّ لمبدأ عدم التّناقض (Principe de non-contradiction).

وهكذا، يكون اللَّه قد فعل أفضل ما أمكنه فعله.
___________________________________

أضف تعليقك هنا