التعصب.. وفنون الاستعداء

التعصب الأعمى

لا شك أن التعصب الأعمى هو أسوأ ما قد ينتهجه البشر من سلوك، هذا لما يترتب عليه من أثار سلبية تصل أحياناً إلى حد الجريمة الممنهجة..  وإذا كان تعصب الأفراد هو أمر من الخطورة المجتمعية بما يكون،

فما بالنا بتعصب الأنظمة والمؤسسات والهيئات والدول..؟

الإعتراف بالنواقص في ظني هو أقصر الطرق تجاه التخلي عن التعصب، فقد جرى العرف ألا يجهر الإنسان العادي بشئ مما ينقصه إلا إذا كان له غاية ما، أو أنه يريد أن يتوصل من ذلك إلى تمايز زائف أو نوع من الكمال الظاهري.. فنجد أن روسو والقديس أوجستين وهيني وهم من رواد الفلسفة في عصرهم لم يذيعوا كل الأسرار الخفية التي سردوها في إعترافاتهم إلا طمعاً في الاتصاف بمزية الصراحة الفلسفية أو الدينية، وتلك في نظرهم أكبر من جميع المزايا التي جردوا أنفسهم عنها بمحض إختيارهم، بالطبع دون أن يكترثوا بأن ينقلها سواهم على غير حقيقتها..!

بنظرة سريعة على الأجواء المحيطة بمنطقتنا، نجد أن مخلفات صراعات وحروب السنوات الأخيرة قد صارت هي الواقع المرير بكل ما تحويه الكلمة من معاني.. فبين أشلاء ضحايا وجثث قتلى ومشردين ونازحين بالملايين، وخراب ودمار ونقص في الموارد، ورائحة بواريد ونيران تزكم الأنوف وتحرق الدمع في المُقل، يبدو العقل الإنساني وكأنه استتر..

وكأن الضمير العام تنحى عن عمله ردحاً من الزمن، فثارت الفتن واستشرت أجواء الحروب حتى صار ما صار..  مسؤليتنا الآن هي تحجيم الخسائر وليس البكاء عليها أو المزايدة بها.. ربما كفانا ما حدث خلال السنوات الأخيرة من مكائد وضغائن ونزاعات نشبت بسبب عداوات شخصية بين حكام المنطقة، ثم صبت كلها في صالح من يصنع السلاح ويبيعه لنا لنقتتل ونطلب المزيد، ثم يمتص هو دماء شعوبنا ويستولى بنعومة على مواردنا ومقدراتنا كافة..

أصل التعصب

بعد الصلف والعناد، تكون آفة مجتمعاتنا هي الأصولية التي أحسبها أصل التعصب، وهي النواة التي تقود كيان ما إلى استعداء الآخر ومحاولة التغلب عليه بشتى الطرق..  ويكون سقوط أحدهما بصرف النظر عن حجم الخسائر وكم الدمار المصاحب هو مدعاة الفخر والاعتزاز للمنتصر.. لكن في العموم الجميع خاسر، فلم تنهض أوروبا مثلاً بعد سنوات الحروب الإقليمية إلا باتحاد الأمراء والنبلاء على هدف واحد وهو النهضة والتنوير والتخلص من أصولية الكنيسة.. حتى الصليبيين أنفسهم كانوا يجددون الحملات بالرغم من الهزائم المتكررة بعزم متجدد وأسف على فوات الفرصة، دونما أدنى إحساس بالندم أو الذنب.. فكان ما كان إلى أن انتصر العقل في النهاية على قوة السلاح فظهرت لديهم ملامح الحضارة والتقدم مع بدايات القرن الثامن عشر..

مما سبق ربما تقودنا الأحداث وما صاحبته من اختلاط في المفاهيم بين أصحاب الثقافات المختلفة إلى حتمية الإنهاء الفوري لسيطرة الفكر الديني المتطرف على مفاصل الثقافة والعلم والتنوير في مجتمعاتنا.. فلم يعد أمر الدين بمفهومه الروحاني الخالص يشغل المساحة المناسبة من فكر الأجيال الجديدة، نظراً لإنحياز أغلب رجال الدين ومؤسساته للقوالب النمطية الجامدة التي حتماً لم تعد تتناسب ومتغيرات العصر الحالي، فالإنسان بطبيعته في حالة سلم مع بقية الناس إلى أن يأتي أحدهم ليصنع تمايز عرقي أو عنصري على خلفية دينية أو سياسية مغلوطة، أو أن يرسخ لنزاع مادي عارض فيتجاوز بذلك حيز العقائد إلى أمور خارجية تدخل في نطاق المعاملات وتختلط فيها العلاقة الحقيقية بين الأسباب والمسببات.

أخشى أن الإنسانية بصفة عامة اقتربت بشدة من العودة لعصور الظلام حيث تتصدر المشهد الحالي لغة المصالح لا غير، ويسود الجهل وتتحكم العنصرية الهمجية في السلوك العام، وهنا يجب أن ينتبه الجميع لهذا الخطر المحدق، ومن يمتنع أو يناور فليدخل فوراً إلى دائرة الاشتباه حيث اللا عودة..

تقاطع المصالح لا يجب وأن يتعارض مع تباين الثقافات

الثابت أن تقاطع المصالح لا يجب وأن يتعارض مع تباين الثقافات كما هو الحال مع الدول العظمى، وعدو الأمس قد يصبح صديق المستقبل بشرط توافر الشفافية والجدية والحيادية..! وهنا أتساءل.. كيف تُقر دولة بحجم مصر مثلاً معاداة بحذر تجاه إيران فقط لإسترضاء ممالك النفط في منطقة الخليج، وكذا الحصول على صك صداقة مشروط من أكبر دولة استعمارية عرفها العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية..؟ ألم تكن إيران هي التي قطعت شوطاً طويلاً من المفاوضات خلال سنوات حصارها الإقتصادي، وانتقلت من طاولة مفاوضات إلى أخرى حتى وقعت أخيراً وثائق دولية ملزمة تشي بأنها بالفعل جادة في العودة لخريطة السلم العالمي..؟

وعلى النقيض الأغرب، تتقرب مصر في نفس التوقيت إلى دولة الاحتلال الصهيوني وتخطب ودها على لسان نظام الحكم الحالي، بل وتتنازل عن بعض مميزاتها الاستراتيجية في خطوة غير مسبوقة وبصفقة رخيصة..  بينما الأخيرة لم تحرك ساكناً تجاه أي ملمح من ملامح الجدية في تحقيق سلام عادل متوازن يعيد إلى المنطقة سكونها ورغدها الذي كان..!؟

وعلى الجانب الآخر من المأساة، حينما يعادي العرب النفطيون جميعاً دويلة مارقة ووصولية مثل قطر، وينضم لهم آخرون في تحالف فج باهظ التكاليف، وخسائره مميتة دون أدنى قدرة على ترويضها..  ألا يشي هذا بقصور في الشخصية العربية، وبضعف عام يسري بين حكام المرحلة الحالية يبرز من خلال عدم قدرتهم بمفردهم على إحتواء أزماتهم الداخلية..؟ فبالرغم من وعورة طرق التوافق العربي على مر العصور بسبب التعصب القبائلي والتعالي وعدم وجود أي فرص لإنكار الذات لصالح الشعوب، فحكام الماضي نجحوا في أوقات الأزمات الكبرى بشكل أو بآخر في التغلب على الصراعات الداخلية بينهم، واتخذوا قرارات مصيرية أعفت بعضهم من مساءلة التاريخ القاسية..!

اليوم..  أين نحن من خريطة أرضنا التي لم نعد نعرف لها حدوداً، وثرواتنا التي تتبدد دون حساب ولا نعرف ماذا قد يتبقى منها.. وماذا سيكون نصيب الطوائف الأخرى التي تستعد رسمياً للظهور..؟

 

فيديو المقال  التعصب.. وفنون الاستعداء

 

أضف تعليقك هنا