بينَ سلوكِ المتديّنينَ و الغيظِ على الدّين

عندما نرى أمّتنا الإسلامية و العربيّة و ما تعانيه من قتلٍ و ذبحٍ و تشريدٍ و دمارٍ نجدُ خلفَ هذا المشهد و كلّ تلك الكوارث البشريّة و الإنسانيّة أشخاصاً منتمينَ إلى الدّين, بل يمارسون وحشيّتَهم باسمِه و تحت شعار “الإله و الرّسل و الكتب السماوية”.

في المقلب الآخر نشاهدُ أخطاءً و انحرافاتٍ موجودةً في مجتمعِنا و نجدُ خلفَها أحياناً مشايخَ أو رهبان أو أناس ملتزمين. أمام هذا المشهد يشعرُ البعضُ بالحنقِ و الغيظِ الشّديدينِ على الدّين بصورةٍ عامّة، و يرمي به و بما يحويه من رؤى فكريّة و تعاليم عمليّة كلَّ فكر ملتوٍ أو سلوكٍ منحرف، و يظنُّ البعضُ أنّ خلاصَه يتمثّلُ بالتّخلّي عن الدّينِ بل عن الإله المدبّر.

ما علاقة “سلوك المتديّنين” بـ “الدّين”؟ و هل ما يقترفُه المتديّنونَ من سوءٍ مترشّحٌ عن رؤى الدّين؟ هل يُعتبر انحرافُ المنتسبينَ إلى الدّينِ سبباً في رفضِه و الكفرِ به؟ أم أنّ أخطاءَهم و انحرافاتِهم لا تتعدّى حيّزَ التّطبيق؟ هذه الأسئلة و ما يتعلّق بها نجيبُ عليها باختصارٍ مستخدمينَ المهنجَ العقليَّ البرهانيّ.

و مع أنّني كنتُ أضنُّ بوقتي عن كتابةِ مقالٍ لدفع هذه الشّبهات الزّائفة، و لكن لفتني في الفترةِ الأخيرة ـ و خصوصاً بعد الخيبةِ الكبرى الّتي مُني بها ما يسمى بـ “الإسلام السّياسيّ” في الكثير من البلاد العربيّة, و بروز بعض التّيّارات الدينيّة المنحرفة و المتطرّفة, و السّلوك البائس لبعض العلماء المنتسبين إلى الدّين ـ أنّ بعض الشّبابِ ـ و خصوصاً الجامعيّ منهم المتأثّر بالمنهج التّجريبيّ ـ قد حملَ لواء النّقمة على الدّين بردّة فعل و دواعٍ نفسانيّة محضة, أو لشبهة زُيّنت لهم عن طريق مواقع التّواصل الاجتماعيّ, مع فقدانِ المناعةِ الفكريّة لديهم.

ولكي يكون دفعنا لهذه الشّبهات مبنيّاً على أسسٍ علميّة متينة, دون الخوض بسجالات لا تفضي إلى نتيجة, أصدّر مقالي هذا ببعض المقدّمات المنطقيّة التّمهيديّة الصّحيحة, الّتي تشكّل قواعد إزاحة الوهم و ردّ الشّبهة.

* القواعد المنطقيّة لدفعِ الشّبهة:

۱. قانون الاستلزامات العقليّة:

و هو استلزام أمر ما لأمر آخر واقعاً و حقيقة, على أن يكون المدرِك لذلك الأمر هو العقل, مثاله: لدينا مقدّمة أولى: (أ) مساوٍ لـ (ب), و مقدّمة ثانية: (ب) مساوٍ لـ (ج). هنا يقول العقل: يلزم من صدقِ المقدمتين الأُوليين صدق هذه المقدّمة: (أ) مساوٍ لـ (ج).

٢. المبادئ الصّالحة للاستعمالِ و غير الصّالحة لذلك:

ذُكر في علم المنطق مبادئ أربعة يصحّ استعمالها و الاستناد إليها في تكوين أيّ موقف فكريّ, و هي:

  • الأوّليّات,
  • الوجدانيّات,
  • التّجريبيّات,
  • الحسّيّات.

كما أنّهم ذكروا المبادئ غير الصّالحة للاستعمال و هي أربعة مبادئ لا يصحّ الاستناد إليها في تكوين أيّ موقف فكريّ, و هي:

  • الانفعاليّات,
  • الوهميّات,
  • المشهورات,
  • المقبولات.

سَمّى المناطقةُ هذه المبادئ الثّمانية بـ “مبادئ المطالب” باعتبارِها أوّل ما يعتمدُ عليه الباحثُ في تشكيلِ رؤيتِه, فإن استند إلى المبادئ الصّالحة للاستعمالِ كان موقفُه صحيحاً و إن استند إلى غير الصّالحة منها سيكونُ موقفُه خاطئاً.

* إزاحةُ الوهمِ و دفعُ الشّبهةِ:

۱ـ ما يبتني على القاعدة الأولى:

إنّ الانتقال من مشهد الشّرّ الّذي يلمّ بنا بسبب بعض المتديّنين أو اقتراف بعض المشايخ و الرّهبان و المتديّنين لما يخلّ بتعاليم الشّرائع, إلى الغيظِ و الحنقِ على الدّين بمنظومتيه الفكريّة و العمليّة, هو في الحقيقة:

أ- خلط بين “النّظرية” و “التّطبيق”

و إنّ العقل البرهانيّ يعلم بعدم وجود ملازمة بين فساد الممارسة الدّينيّة حتّى لو شملت كلَّ الدّنيا, و بين الدّين نفسه. فلو أعطيتكَ قاعدة رياضيّة مسلّمة الصّحّة, و معضلة لتحلّها وفق تلك القاعدة الصّحيحة فتوصّلت إلى نتيجة خاطئة, فهل يمكن الاستناد إلى تلك النّتيجة الخاطئة للقول ببطلان القاعدة؟ أم أنّ مكمن خطإ النّتيجة في الخللِ التّطبيقيّ؟

ب- مترشّح عن كيفيّات تكوّن النّفوس البشريّة

و الصّفات المتّصفة بها نتيجة عوامل نشوئهم, فطالما أنّ منشأ الفساد هو النّفس فليس مهماً ما تعطيه إياها, لأنها ستفسد كلّ شيء.
ج- تلبيس الشّر و الفساد و الانحراف لباس الدّين, ليس إلّا تدليساً و إخفاء للمشإ الحقيقيّ وراء الفساد و الانحراف. نعلم أنّ أمريكا تستفيد من العلم لتصنيع الأسلحة الفتّاكة لقتل البشرية و الهيمنة على ثروات العالم, لكن ما أوضح سذاجة من يقول: إنّ العلم شرّ لأنّ أمريكا تستفيد منه بهذه الكيفيّة.

٢ـ ما يبتني على القاعدة الثّانية:

إنّ الانتقال من مشهد الشّرّ الّذي يلمّ بنا بسبب بعض المتديّنين أو اقتراف بعض المشايخ و الرّهبان و المتديّنين لما يخلّ بتعاليم الشّرائع, إلى الغيظِ و الحنقِ على الدّين بمنظومتيه الفكريّة و العمليّة, هو في الحقيقة:

أ- تحكيم لأحوال عاطفيّة انفعاليّة لا قيمة منطقيّة لها, و بالتّالي هو اعتماد على “الانفعاليّات”, و قد تقدّم أنّها من المبادئ غير الصّالحة للاستعمال و الاستناد إليها يؤدّي إلى نتيجة خاطئة غير واقعيّة. فاعلم يا صديقي أنّ ما نشعر به و ننفعل على أثره لا يضمن أن يكون مناسبًا لتكوين عقيدة أو رؤية تنسجم مع الواقع, فلابدّ من التّروّي في استعمال المشاعر.

ب- إنّ العاقل يدرك أنّ أهواءه و مشاعره و رغباته لا تصلح لتكوين موقف عقديّ و فكريّ واقعيّ.

ج- إنّ الأحكام المبنيّة على أساس انفعاليّ و شعوريّ, علاجها في جوهره يكمن في تهذيب النّفس و تربيتها أكثر منه في تعليمها.

* أخيرًا:

لقد علمتَ أنّه لا ملازمةَ بينَ سلوكِ المتديّنين و الغيظ على الدّين, كما عرفتَ أنّ من يدّعي خلاف ذلك يعتمد على المشاعر و الانفعاليّات و هي مبادئ لا تصلح منطقيّاً لتأسيسِ موقف أو رؤية صحيحة و واقعيّة.

فيديو المقال بينَ سلوكِ المتديّنينَ و الغيظِ على الدّين

 

أضف تعليقك هنا