حكاية منبر وآية وجشأة مدوّية ـ قصة قصيرة

مدحت

في ذات جمعة وما أصعبه، جلس ( مدحت ) لاستماع الخطبة، غيرَ أنه رغم المقاومة غفا، سقط رأسه بين كتفيه وتسارعت أنفاسه، فجأة، صحا مبهوتاً، نظر يمنة ثم يسرة، فرك عينيه بقوة، مسح وجهه بكفه، لكن لا فائدة، غفا مجدداً، لم يدرِ المسكين ماذا كان يقول الخطيب المبجّل، كان يصيح في وادٍ وهو في وادٍ آخر يقاوم النعاس، رأى النائمين كثر، رؤوساً تهتزّ، جميعها تتمايل من النعاس، سكينة تبدو مظاهرها لكنها سكينة النوّم، ومع المعاناة تمنى ولو كلمة تثقب رأسه على الأقل لكي يبقى صاحياً.

تفكّر ( مدحت ) كيف صار حاله هكذا مع النوم؟ يصارعه فيصرعه، تذكر كيف اغتسل ليوم الجمعة، سار مبكراً للمسجد، لينال بركة اليوم ويدنو من الإمام، لكن الخُطبة دمّرت كل شيء، عَلم في ذات نفسه أنها كانت مكررة ومستهلكة أو بالأحرى مأخوذة من الأرشيف، كان الخطيب يقرأ أو يثغو أو يصيح أو يزعق بلغة طفحت بالأخطاء الإملائية والنحوية، كأنما يلقي على الناس بياناً أو فرماناً سلطوياً، كان المشهد مملاً إلى حدّ الغثيان، فهذا الخطيب المسكين لم يغيّر يوماً نبرة الصوت ولا الهيئة أو طريقة الإلقاء، كل شيء بدا على حالته البائسة منذ سنين وأعوام، لم يتنازل يوماً عن عرش الخطابة ولو كَثُرَ الخطباء، ضاق الناس به ذرعاً ولم يطيقوا رؤيته.

والويل لـ ( مدحت )  إن تقدم في مدينته بنصح أو انتقاد بنّاء، كان ذلك الخطيب في جوفه نارٌ تلظى، حقد على الناس في علمهم، مالهم، جمالهم، ذكائهم، شهرتهم، تفوقهم، عاش مكبوت النفس جريح الفؤاد، يحدث نفسه مراراً ويتمنى زوال نِعَمِ غيره، كان يرى أنه الأولى بالأفضال وأوجب على التبجيل والتقدير والتصدر من الآخرين، لأن الآخرين فهمج رعاع، عاش الخطيب بهذا التفكير دهراً حتى اعتلّت صحته وتشوهت ذاته واحترقت.

الخطباء المزيفين

رأى ( مدحت ) في الناس أنواعاً من الخطباء المزيفين، ونماذج شتى من الملتزمين التزاماً بات أجوف، منهم ذاك الرجل الأربعيني  الذي كان يمرّ عليه وهو بالمقهى قرب بيتهم العتيق، يلقاه في مجالس الناس، كان رأى أوداجه منتفخة ووجهه محمراً وهو يصيح في القوم كأنه منذر حرب، يستحثهم لنصرة الأقصى الجريح، كل الناس تنصت إليه باهتمام بالغ دون أن يقاطعوا حديثه الناري،

” أيها الناس، يجب أن نعدّ أنفسنا لملاقاة اليهود، لزاماً علينا أن نجاهد في الأقصى إن دعا داعِ الجهاد “،

وفي المسجد صلى الجميع بخشوع سائلين الله العون والنصر، سلّم ( مدحت ) تسليمته الأولى، وفي تسليمته الأخرى رآه في آخر الصفوف، يقبع في أقصى صف المسبوقين للصلاة وقد نقر صلاته كما ينقر الغراب الدم.

هكذا هي الحياة، تكشف لـ ( مدحت ) في كل طور من أطوارها أمثال ذاك المعتوه، تمَشْيَخَ لكنّه ليس بشيخ، تفيهق، تقعّر، تبعّر، تمعّر، جهدُه تبخّر، غير أن الجميع بات يعرف حقيقته المؤسفة، كان في المساجد واعظاً، في الأسواق بيّاعاً مشترياً بالدين الحنيف، حكيمٌ فيما يهمّه ويعنيه، خرّاء هرّاء إن أضرّ شيء بمصالحه الشخصية، هادئ في حضرة المال، وادع في بلاط الجاه، عجيب في ميدان الهنجمة، يعكّ ويحكّ فيما لا طائل منه، وعند الجدّ يمسي نعامة تطلب الغذاء والمأوى تدسّ وجهها في التراب، لا يعنيها إن جاء الطوفان من بعدها أو غاب تلك قصة من تمشيَخ وليس بشيخ.

ذهب ( مدحت ) لمسجد آخر لمنه بحمد الله لم يصادف نفس النسخ المكرورة البالية من أولئك الخطباء، اللهم لا تعمم هذا البلاء؟، حضر جمعة في مكان آخر، سمع هذه المرة خطيباً جهبذاً، حدث عن خطباء القرن الواحد والعشرين، حكى قصة خطيب منذ سنوات خلت، وكيف كان يصيح محذراً، ” احذروا هذا المذياع الخبيث هو حرام، مفاسده كثيرة، وللعلماء فيه قول بالتحريم ” ، مضى الزمن من خلف صندوق المذياع، لعلع صوته الجهوري، ” لقد ابتُلينا بظهور هذا التلفاز الفاسد المفسِد، أفسد النساء والشباب، فكك الأسر، أيها المؤمنون! أحذركم من شره المستطير، إنه حراااام .. حرااام “، مضى الزمن على شاشة التلفاز، احمرّ وجهه غضباً ” أتدرون ما الذي دهى الأمة اليوم؟ ” رفع إصبعه مهدداً ” إنه الجوال، الجوال أيها المسلمووووون ، هذا الجهاز الذي فعل بنا الأفاعيل، نرى بتحريمه، لا تبتاعوه لأبنائكم ولا لنسائكم ولا لأنفسكم “.

مضى الزمن، تناقل الناس مقطعه المصور على الجوالات، انتشر كالنار في الهشيم، حذّر الناس من السينما، مفاسدها، أضرارها التي فشت ” لقد عمّت البلوى وطمّت ” قال في مقطعه

” السينما مصنع الأفلام والعُهر، ومنبع الرذيلة والخنا، لقد غابت الرجولة وساد التخنث والتديّث في البيوت بسبب الأفلام والمسلسلات المحرّمة ” !

مضى الزمن ومضى مسلسل التحريم والتحليل بغير علم، أطلّت مخترعات، ومخترعات ولا زال على حاله، أُطلقت الأقمار بالعشرات وهو يطلق الفتاوى وراء الفتاوى، تخلف الركب بقيادتهم، لم يبرح مكانه، لكنه كان سعيداً، سعيد جداً، حرم كل شيء ثم استخدمه أو تراجع عنه بعد فترة من الزمن، ليست المشكلة هنا، إنها بكل أسف أن يسفحوا دم التحريم ثم يعودون لغسل الدماء مجدداً. كانت خطبة بديعة بحق، استمتع بها وشكر للخطيب شجاعته.

في طريقه المعتاد مرّ ( مدحت ) بشاب لم يردّ على سلامه حينما سلّم، ربما لم يسمعه، وربما لم يكن من عصافيره التي يهواها، تذكره حينما قام في الصف الأول مع القائمين، كبّر الله مثنى وثلاث ورُباع، أدى السنة على أكمل وجه، كان يحرص على السترة، أطلق لحيته وسرحها وقص الشارب، غادر المسجد مكفهرّ الوجه، قد غابت ابتسامته عن محياه، سمع رجلاً ينادي ” يا شيخ ” التفت، فإذا المنادى شخص آخر، لا تنبئ هيأته عن أية مشيخة أو علم كالذي عنده، مظهره عادي جداً لكن هيبته تجذب القلوب، ” جاهل لا يلتزم السنة ” قال عنه في نفسه، رأى أن الناس يتلقونه كما يتلقون الملوك، ما السر في ذلك ؟؟، ” الابتسامة والأخلاق ” أجابه ضميره الداخلي.

إشكال أخلاقي

شعر ( مدحت ) أن في الناس إشكال أخلاقي، نُزعت من قلوبهم هيبة المساجد، فحينما قُضيت الصلاة، وانصرف الإمام بالتسليم، رأى القومَ تتجمّع على هيئة حلقات، ليس لمذاكرة العلم ولا  للذكر أو التسبيح، وإنما للقيل والقال وأخبار الرياضة، صار المسجد في ضوضائهم كالسوقٍ، هيصة، كلام، ضحك وتنكيت، تعجّب ( مدحت ) أهكذا يفعل المسلمون في بيوت الله ؟ لو فُعل في بيوتهم ما رآه لقامت قيامة أرباب البيوت!! إذاً كيف يرتضون ويصمتون ؟!!

صمت الناهون صمت القبور، لم يتكلم الإمام، لم ينهَ عن المنكر أحد، بل ربما شارك الجميع في الهوشات، تألم قلبُ ( مدحت ) من دون كلمات، وفي الجامع خرج مسرعاً، لم يتقاسم اللغو، لم يتشارك الغيبة والهراء، خاطب نفسه :

” ما يحدث في المساجد طقس معيب، ويجب أن يتوقف “

ألقى سهمه المُجرَد ليقتل الصمت وليبرأ أمام الله عند الحساب، لم يُلقِ ذاك السهم من منبر عالٍ لأن المنابر صارت للتنابز، للتباغض، للحرب الكلامية، لكنه ألقاه في فضاء الافتراض حيث الكلمات تنغرز في خاصرة الصمت الكبير.

لم ينسَ مدحت قصة آية في زاوية المسجد الرحيب، مشى على السجاد الناعم الوثير، انطبعت آثار أقدامه عليه، وقف قبالة رفِّ المصاحف سحب أحدَها، نفض عنه الغبار وراح يقرأ. أحس أن الخشوع ينأى عنه، والفهم يستعصي عليه، لقد طال بعده عن قراءة القرآن.

حلق في سماء التفكير، هام في أودية الخواطر، كل ذلك أثناء ما هو يقرأ، جاءته آيه تحوي في ثناياها سجدة تلاوة فأيقظته مما هو فيه، عبأت فيه شحنات العبودية، خاطب نفسه بعد أن رفع من السجود “إلى متى نحن هكذا ؟ “، ناجى ربه بعد سجوده ” تراك يا ربي تُعذّب وجهاً سجد لوجهك .. حاشاك .. حاشاك “.

أقيمت الصلاة، رفع ( مدحت ) يديه بتكبيرة الإحرام، أطلق من كان بجانبه جشأة مدوية، لم يعلم إن كانت تلك تكبيرة إحرام أم ( جشأة إحرام )، كتم أنفاسه، تجاهل الوضع لكن ( الجشآت ) توالت، ثم زادت كثيراً عن حدها، قصفته بوتيرة منتظمة، استمرت في كل ركعة، ولم تنته حتى بانتهاء الصلاة !! سلّم عن يمينه، فسمع ( جشأة مدوية )، لم يُطق صبراً على هذا الوضع، قام من مصلاه و الجشآت الأخيرة تلاحقه بأصدائها في جنبات المسجد.

فيديو المقال حكاية منبر وآية وجشأة مدوّية

أضف تعليقك هنا

أحمد عمر باحمادي

أحمد عمر أحمد باحمادي

كاتب يمني

خرّيج كلية الآداب ـ صحافة وإعلام حضرموت ـ اليمن