سبب اختلاف المدارسِ المفسِّرةِ للوجود في العصرِ الإسلاميّ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ, خالقِ البشرِ أجمعين, ملقي الحجج بالبراهين, مظهرِها في كتابِه المُبين. وصلّى اللهُ على محمّدٍ المُطهَّرِ الأمين, وعلى آلِه السّالكينَ المخلَصين.

وبعدُ..

  • تقديم

تُعتبَر دراسةُ مسألةِ الوجودِ وما يرتبطُ بها من أشرفِ الدّراساتِ قيمةً وأهمّيّةً, حيثُ إنّ تفسيرَ هذا الوجود – الّذي يُشكّلُ الإنسانُ أبرزَ مكوّناتِه وأفضلَها على الإطلاق – يُضفي بظلالِه على المتفكّرِ سعادةً تفعِّل قِواه وتُشعِرُه بقيمتِه وإنسانيّته, بل تُسبّبُ في تحديدِ وظيفتِه بعد معرفةِ الهدفِ من خَلقه؛ ليُهيِّئَ نفسَه ويُعِدَّها لما يَنتظرُه من مراحلَ في رحلتِه الحياتيّة المؤبّدة.. ومِنَ الغَبنِ بل من الجهلِ أن يَختصِرَ الإنسانُ مراحلَ حياتِه بما لها من سعةٍ وانبساطٍ بأقصر المراحل أعني “الدّنيا”[1], ولا يبحثَ عن تفسيرٍ صحيحٍ و واقعيٍّ لأصلِ الحياةِ ومظاهرِها, تركَنُ نفسُه إليهِ وتطمئنُّ بهِ. وقد صرّحَ علماءُ الإسلامِ(أيّدَهم اللهُ) بوجوبِ البحثِ والتّحقيقِ – على كلّ مسلمٍ مسلم – بما يمتلكُ من القدراتِ والمؤهّلاتِ, ليدركَ أصلَ الوجود عن طريقِ العقلِ والبرهانِ, وليصلَ إلى القطعِ اليقينيِّ الجازمِ في تفسيرِ تلكَ المسائل وظواهرِها؛ بما فيها المرسِل والمرسَل والرّسول.

انطلاقاً من ذلكَ الوجوب العقليّ, والبداهة الّتي تقتضيها فطرةُ الإنسان أينما وأنّى وُجِدَ, أعملَ الإنسانُ عقلَه وأطلقَ عنانَ تفكيرِه في البحثِ عن تفسيرٍ لظواهرِ هذا الوجود المحيط؛ ليشكّلَ رؤيةً واقعيّةً حولَ “نفسِه” و “الكونِ” و “المبدأ”, كان ذلك مُؤذِناً بولادة الفلسفةُ المشّائيّةُ على يدِ الفيلسوف اليونانيّ أرسطوطاليس (384-322 ق.م), معتمدةً على الارثِ العقليِّ للبشريّةِ منذُ أوّل إنسان على هذه البسيطة, وبعدَ هذا المخاض, تولّدت العديدُ من الفلسفاتِ الّتي لم تلقَ رواجاً وشهرةً[2] ولم تكن بقوّة ومتانة ما جاءَ به ذلكَ الفيلسوفُ العظيمُ ومعلّماه[3].. ولا يشكُّ ذو مسكةٍ بالدّورِ المحوريّ والأساسيّ والمكمّل للعقلِ الّذي أدّاهُ رُسلُ السّماءِ في تعزيزِ الرّؤيةِ الكونيّةِ و تفسيرِ أسُسِ الوجودِ وظواهرِه وِفقَ منهجٍ لا يعتريهِ خطأٌ أو شكٌّ.. إلى أن جاءَ عصرُ ختمِ النّبوّاتِ والاتّصالِ بالوحيِ, وكانَ القرآنُ هو الكلامُ الأكملُ والأتمُّ الّذي يعطي التّفسيرَ الجامعَ المانعَ, لظواهرَ الوجودِ ومسائلَ الحياةِ. كيفَ لا وهو الصّادرُ من الرّبِّ مبدأ العوالمِ ومبدعِها! وما يعنينا في المقامِ, هو الحديثُ عن كيفيّةِ نشوءِ و اختلافِ المدارسِ الفكريّةِ الباحثةِ عن رؤيةٍ كونيّةٍ ومفسّرةٍ للوجودِ في العصرِ الإسلاميِّ.

  • المدارس الخمس في العصر الاسلاميّ[4]

بعدَ دراسةِ الفكرِ الإسلاميِّ نجدُ أنّ المسلمينَ قد اختلفوا في تفسيرِ مسائل الوجود الأساسيّة, فتنوّعتِ المدارسُ وتعدّدتِ المشاربُ. اختلفت نظريات علماء المسلمين اختلافاً كبيراً على مستوى المنهج المتّبع في تفسير مسائل الوجود الأساسيّة, وهذه الاختلافات جعلت منهم “عرفاءَ”, و “فلاسفة مشّائين”, و “متكلّمين”, و “فلاسفة اشراقيّين”, و”فلاسفة صدرائيّين” أي أتباع فلسفة الحكمة المتعالية.

فمن هو العرفانيّ؟ ومن هو المتكلّم؟ من هو المشّائيّ؟ ومن هو الإشراقيّ؟ ومن هو الصّدرائيّ؟ وما هو المنهج الّذي يعتمدُ عليه كلٌّ من هؤلاءِ في تفسيرِ مسائلَ الوجودِ وإبرازِ الرّؤيةِ الكونيّةِ؟

العرفانيّ:

يعتمدُ العرفانيُّ منهجَ العرفانِ في تفسيرِ مسائل الوجود؛ وقد ذكرَ أهلُ التّحقيق قسمينِ للعرفان: عرفان عمليّ: متكفّل في تفسير مقامات العارفين ودرجات السّالكين إلى ساحة القرب الإلهيّ بقدم المجاهدة والرّياضة وتزكية النّفس؛ ويُسمّى هذا القسم بـ “السّير والسّلوك” أيضاً. عرفان نظريّ: وهو علم من منتوجات العقل البشريّ, وفرع من فروع المعرفة الإنسانيّة, يعملُ على تقديم تفسيرٍ متكاملٍ عن الوجود ونظامِه و تجلّيّاته ومراتبه, فهو في مقام بيان رؤيةٍ معرفيّةٍ عن محاور الوجود الأساسيّة الشّاملة لـ “المبدأ” و “العالم” و “الإنسان”, معتمداً في تكوين رؤيته على المكاشفة والشّهود[5].

الفيلسوف المشّائيّ:

يعتمد الفيلسوف المشّائيّ الإسلاميّ منهج الفلسفة المشّائيّة في تفسير مسائل الوجود؛ وقوام هذا المنهج أمور ثلاثة:

الأوّل:

الأسلوب العقليّ في تفسير مسائل الوجود, وقد أناطت هذه الفلسفة بالعقل والبرهان والطّرق المنطقيّة دوراً كبيراً حتّى شملت الأمور المرتبطة بالأخلاق والسّياسة.

الثّاني:

أولت هذه الفلسفة أهمّيّة كبيرة لمباحث الإلهيّات, ومباحث الغيبيّات التّجريديّة.

الثّالث:

امتازت هذه الفلسفة بربط الأبحاث الفلسفيّة بقضايا الحياة العمليّة في عهد سقراط, فقد قيل إنّ سقراط جاء بالفلسفة النّظريّة لمعالجة مشاكل الحياة بشتّى جوانبها. ثمّ جاء دور ارسطو الملقب بـ “المعلّم الأوّل” تلميذ أفلاطون, ليشيّد مباني هذه الفلسفة الّتي سيطرت على التّفكير البشريّ لقرون متتالية. من أتباعها في العصر الاسلاميّ: الفارابيّ, المحقّق الطّوسي(شارح اشارات ابن سينا), المحقّق الداماد(استاذ الملا صدرا), وكذلك: ابن رشد وابن ماجة وابن صائغ.

المتكلِّم:

يعتمد المتكلّم منهج علم الكلام في تشكيل رؤيته الكونيّة و تفسيره لمسائل الوجود؛ وجوهر هذا المنهج يبتني على الأخذ بظواهر النّصوص, وهو ما يُصطلح عليه الاتّجاه النّقليّ المتعبّد بالقرآن والسّنّة.

الإشراقيّ:

هو المعتمد على منهج الفلسفة الاشراقيّة في تفسير مسائل الوجود, تبتني هذه الفلسفة على أمور:

الأوّل:

المشاهدة والمكاشفة.

الثّاني:

العقل والاستدلال.

الثّالث:

ظواهر الكتاب والسّنّة.

وكما هو الملاحظ فإنّ هذه الفلسفة تصنّف من المدارس التّوفيقيّة, الّتي سجّلت محاولةً في سبيل الجمع والتّوفيق بين البرهان و العرفان و البيان, أي بين المشّائيّة و العرفانيّة و الكلاميّة, وفي نجاح محاولتها تلك كلام بين أهل التّحقيق.

الحكيم الصّدرائيّ:

هو من يتّخذ من فلسفة الحكمة المتعالية – الّتي شيّد أسسها الحكيم المتألّه محمّد الشّيرازيّ الملقّب بـ “الملّا صدرا”- منهجاً في مقام الكشف عن حقيقة المعارف الّتي جاء بها الإسلام في الرّؤية الكونيّة المرتبطة بـ “المبدأ” و “الإنسان” و “العالم”.

تنطلق هذه المدرسة من مبدأ التّوفيق – أيضاً – بين: القرآن و العرفان و البرهان. وقد سجّلت هذه المدرسة – بشهادة أهل التّحقيق- نجاحاً كبيراً في التّوفيق بين المدراس, بل كانت تلك الاتّجاهات الأخرى بمثابة العناصر المكوّنة لها.

  • منشأ الخلاف بين المدارس الخمس

بعد هذه النّبذة المختصرة عن أبرز المدارس في العصر الاسلاميّ, نعود إلى سؤالنا المحور: كيف نشأت و تعدّدت هذه المدارس؟ وبعبارة أخرى:

ما هو الدّاعي لهذا التّنوّع إن كانت كلّها تتّفق في الهدف والغاية؟

لكي نجيب عن هذا السّؤال لابدّ أن نقدّم مقدّمة, نفرّق فيها بين مقامين ليتّضح بعد ذلك منشأ الخلاف وسببه بين هذه المدارس؛

المقام الأوّل:

يتعرّض فيه أيُّ باحثٍ أو مفسّرٍ للطّريق الموصِل لمعرفة حقائق الوجود على ما هي عليه واقعاً, وإن شئتَ فقل: يعيّنُ الطّريقَ الموصل لثبوت حقائق الوجود.

المقام الثّاني:

يتعرّضُ فيه الباحثُ أو المفسِّرُ لإبرازِ رؤيتِه المكوَّنةِ, وإيصالها للآخرين, وإن شئت فعبّر: إثباتها للآخرين. فهناك فرق بيّنٌ بينَ المقامين, فالأوّل هو مقام الثّبوت, والثّاني هو مقام الإثبات, ومن لم يميّز بين المقامين فقد خَبَطَ خَبْطَ عشواء.

ويظهر لكلِّ متتبّع متأمّل أنّ منشأ الاختلاف بين تلك المدارس يرجع بالأصل إلى المقام الأوّل, أي مقام الثّبوت, فنجدهم يختلفون في المنهج المتّبع في تفسير ظواهر الوجود. أمّا على مستوى المقام الثّاني – أي الإثبات والإيصال – فيقرُّ أتباع تلك المدارس بأنّهم يعتمدون منهجاً واحداً هو منهج البرهان والاستدلال العقليّ. “فالاتّجاه العامّ السّائد لدى أبناء هذه المدرسة – المدرسة المشّائيّة – في المقام الأوّل من البحث هو الطّريقة العقليّة للوصول إلى الكشف عن الحقائق, وهذا ما يجعلها منسجمة تماماً مع المقام الثّاني من البحث وهو المنهج المتّبع لإيصال هذه المعارف والحقائق للآخرين”[6]. هذا بالنّسبة إلى الفلسفة المشّائيّة.

أمّا بالنّسبة إلى الكلاميّة, فإنّ من الوظائف الأساسيّة الّتي يتبنّاها علم الكلام هو إثبات أصول الدّين وإيصال الرّؤية الكونيّة بواسطة الأدلّة العقليّة والحجج اليقينيّة[7].

وفيما يتعلّق بالإشراقيّة, “إنّه لا يمكن فهم حقيقة الحكمة الاشراقيّة ما لم يكن الحكيم ماهراً في العلوم البحثيّة والمناهج الاستدلاليّة البرهانيّة”[8], ولهذا قال مؤسّس هذه المدرسة السّهرورديّ: “فما لم يتمهّر – الباحث- في العلوم البحثيّة به, فلا سبيل له إلى كتابي الموسوم بـ (حكمة الإشراق)”. وهذا بيان واضح في أنّ هذه المدرسة لا تخالف المشّائيّة في إعطاء العقل والاستدلال البرهانيّ موقعه الخاص به, ولكن لا تكتفي بالعقل وحده كما تقدّم.

والمدرسة العرفانيّة

أيضاً تعتمد في المقام الثّاني على الاستدلال العقليّ, فقد ذكر الشّيخ محمود القيصريّ في مقدّمة شرح فصوصِ الحكم للشّيخ الأكبر محي الدّين ابن عربيّ: “إنّ أهلَ اللّه إنّما وجدوا هذه المعاني بالكشفِ واليقينِ لا بالظّنِّ والتّخمين، وما ذُكر فيه ممّا يشبه الدّليل والبرهان إنّما جيء به تنبيهاً للمستعدّين من الإخوانِ”[9]. وقال ابن تركة الأصفهانيّ في كتاب تمهيد القواعد: “أمّا الرّسالة التي صنّفها مولاي وجدّي ـ أبو حامد ـ محمد الأصفهانيّ المشتهر بـ (تركة) فإنّه مع جعلِها مشتملة على البراهين القاطعة الحجج على أصل المسألة، وفق ما ذهب إليه المحققون، قد بالغ في دفع تلك الشّبهات بلطائف بيانه وبذل الجهد في إماطة تلك الأذيات بمكابس تبيانه، بحيث لا يبقى لمن له أدنى دربة في العقليات شائبة خدشة فيما هو الحقّ من تلك اليقينيّات.. ثمّ إنّه لمّا كان سوق الكلام في هذه الرّسالة إنّما هو على مساقِ أهلِ الاستدلالِ ناسبَ أن نصدِّرَ الكلامَ بمقدّمةٍ…”[10].

وقد ذكر المحقّق السّيّد كمال الحيدريّ تعليقا على هذه العبارات: “عندما ينتقل العارف المُكاشِف إلى البحث الثّاني وهو إثبات المكاشفات والحقائق للآخرين، فإنّه أيضاً يحاولُ الاستعانةَ بالمنهج والأسلوبِ العقليّ في سبيلِ هذا الهدف. فلا يبقى فرق أساس بين العارف والفيلسوف في هذا المقام من البحث”[11].

وقد وصل بنا الكلام إلى الحكمة المتعالية, يقول مؤسّسها في أسفاره: “..فلا نعتمد كل الاعتماد على ما لا برهان عليه قطعيّاً ولا تذكرُه في كتبنا الحكميّة”[12].

الحاصل: تبيّن ممّا تقدّم, أنّ الدّاعي لنشوء المدارس الخمسة, هو تغاير المناهج المتّبعة في تفسير الوجود “ثبوتاً” – كما تقدّم في المقام الأوّل – فهي وبشكل أساسيّ: كشفيّة شهوديّة, أو عقليّة, أو نقليّة, أو توفيقيّة إشراقيّة, أو توفيقيّة صدرائيّة.

أمّا على مستوى المقام الثّاني أي مقام الإثبات والإيصال فجميعها تتّفق على منهج واحد وهو إيصال تلك المعرفة عن طريق البراهين العقليّة والحجج القطعيّة.

  • إزاحةُ وهمٍ

ذكر الدّكتور الباحث محمّد عابد الجابريّ في بعضِ مصنّفاتِه: “لعلّ من أبرز االخصائص المميّزة للأدبيّات العرفانيّة الاثني عشريّة أنّها تعرض تصوّراتِها وتفاصيلَ مذهبها, لا في صورة فلسفيّة كما فعل الاسماعيليّة, بل في صورةِ أحاديثٍ للأيمّةِ, وفي مقدّمتِهم جعفر الصّادق”[13]. وقال في مورد آخر: “..الطّابع الّذي يسمُ الأدبيّات الهرمسيّة عامّة وهو الانتقائيّة والتّلفيقيّة”[14] ثمّ يعرّجُ في كلامٍ لاحقٍ: “لقد كان الشّيعةُ أوّلَ من تهرمَسَ في الإسلام”[15] قاصداً العرفان الشّيعيّ على نحوِ الخصوص.. “أمّا قصّة المبدأ والمعاد عند الإسماعيليّة والفلاسفة الباطنيّين كابن عربيّ مثلاً فهي تستنسخُ بصورةٍ مباشرةٍ مضمونَ نفسِ القصّةِ كما رواها هرمِس في رؤياه المذكورة. وبالجملة يمكن القولُ إنّه ما من فكرةٍ قالَ بها العرفانيّون الإسلاميّونَ إلّا وتجدُ ما يؤسِّسُها في هذا النّصّ النموذجيّ”[16]. أي في رؤيا هِرمس[17].

ممّا تقدّم يتّضح للقارئ ما توهّمَه الدّكتور الباحث محمّد عابد الجابريّ في مصنَّفاته, حيثُ إنّه خلطَ بين مقامِ الثّبوتِ الّذي يتّبعُه العرفانيُّ في تفسيرِ مسائل الوجود, ومقام الإثبات.. فالعارف يتّبعُ في مقامِ الإثباتِ منهجَ العقلِ والبرهانِ كغيرِه, وهذا ما أثبتناه من عبائرَ أهل ذلكَ الفنّ, بخلاف ما زعمَه الجابريّ وما ظهرَ للقارئ في كتبه وعبائره الّتي نقلنا بعضَها.

وقد زعم الدّكتور في كتابِه نحن والتّراث أنّه ينبغي تصنيف الشّيخ الرّئيس على مذهبِ الباطنيّينَ, ولا يصحُّ جعلَه في طبقةِ المؤمنينَ بالاستدلالِ العقليِّ[18].

إلّا أنّ هذا الادّعاء غير تامّ, بل هو عيّنة أخرى تظهِرُ خلطَ هذا الباحث بين المقامين؛ فإنّ المنهج العام في المدرسة المشّائيّة في مقام الثّبوت لم يكن المنهج العقليّ فقط, بل نجد الشّيخ الرّئيس في كتابه الإشارات والتّنبيهات قد عقد بحثاً خاصّاً في مقامات العارفين, وهذا إن دلّ على شيء فيدلّ على أنّ الشّيخ لم يعتقد أنّ الطّريق الوحيدَ لتفسيرِ حقائقِ الوجودِ في مقامِ الثّبوت هو البرهانُ العقليّ فقط, وإنّما يمكن أن يكون من خلال المكاشفات العرفانيّة. وإن كان معتقداً أنّ المنهج الوحيد الّذي ينبغي أن يُتّبعَ في مقامِ الإثباتِ هو منهجُ الإستدلالِ والبراهينَ والحجج اليقينّيّة.

والحاصل: إنّ الدّكتور إمّا لم يميّز بين المقامين وخلطَ بينهما، أو أنّه لا يعرفُ أنّ جميعَ المدارسِ المذكورة متّفقةٌ في أنّ إثباتَ الحقائقِ للآخرينَ يكونُ عبرَ المنهجِ البرهانيِّ العقليِّ, بما فيه المدرسة العرفانيّة.. وما ذكره لا يرتقي إلى مستوى الأخذ به, بل لا يعدو أن يكونَ اتّهاماتٍ تبرّأَ منها أهلُ تلكَ العلومِ والفنونِ.

____________________________

[1] قال تعالى: (( والّذينَ كَفروا يتنعّمونَ ويأكلونَ كما تأكلُ الأنعامُ والنّارُ مثوىً لَهم ))”محمّد 12″.

[2] كالفلسفة المدرسيّة, وعدد من المدارس الأخرى كالابيقوريّة, والرّواقيّة, وغيرها.. راجع: الرّفاعي, عبدالجبّار, مبادئ الفلسفة الإسلاميّة, دار الهادي, بيروت, ط2-2005, ج1, مدخل إلى الفلسفة, ص26.

[3] سقراط(469-399ق.م), وأفلاطون(427-347ق.م).

[4] للتّوسّع راجع: الحيدري, كمال, دروس في الحكمة المتعالية في شرح بداية الحكمة, دار الصّادقَين, قم, ط1-1999م, ج1, المقدّمة.

[5] راجع: 1- مطهّري, مرتضى, العرفان, ص5. 2- الحيدري, كمال, العرفان الشّيعيّ. 3- الحيدري, كمال, دروس في الحكمة المتعالية في شرح بداية الحكمة, دار الصّادقَين, قم, ط1-1999م, ج1, ص55.
[6] انظر: الحيدري, كمال, دروس في الحكمة المتعالية في شرح بداية الحكمة, دار الصّادقَين, قم, ط1-1999م, ج1, ص40.

[7] راجع: 1- اليزدي, محمد تقي مصباح, دروس في العقيدة الإسلاميّة, دار الرسول الاكرم, بيروت, ط8-2008م, ج1, ص6. 2- السيوري, المقداد, النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر للعلامة الحلّي, دار الأضواء, بيروت, ط1-2004م, ص19. 3- الحلّي, الحسن بن يوسف بن المطهر, مناهج اليقين في أصول الدّين, تحقيق: محمد رضا الانصار القمي, بوستان كتاب, قم, ط1, ص64-65.

[8] الشّيرازي, محمد (ملا صدرا), المبدأ والمعاد, تصحيح جلال الدين الاشتيانيّ, تقديم حسن نصر, ص191.

[9] القيصري, داوود, مقدّمة شرح فصوص الحكم لابن عربيّ, منشورات بيدار, قم, ص4.

[10] التركة, علي(صائن الدين), تمهيد القواعد الصّوفيّة, تقديم وتصحيح جلال الدّين آشتياني, الاتحاد الاسلاميّ للحكمة والفلسفة في إيران, طهران, ط2, ص10.

[11] دروس في الحكمة المتعالية, م.س, ص63. انظر أيضاً: دروس في العقيدة الإسلاميّة, م.س, ص6.

[12] الشّيرزايّ, محمّد(الملّا صدرا), الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة, دار احياء التّراث العربيّ, بيروت, ج1, ص11.

[13] الجابريّ, محمّد عابد, نقد العقل العربيّ(2), بنية العقل العربيّ دراسة تحليليّة نقديّة لنظم المعرفة في الثقافات العربيّة, مركز دراسات الوحدة العربيّة, ط9-2009, ص327.

[14] المصدر نفسه, ص269.

[15] المصدر نفسه, ص 374.

[16] المصدر نفسه, ص 369.

[17] راجع المصدر السابق, ص374, هناك تعرّض الجابريّ لسرد رؤيا هرمس.

[18] نقلاً عن السّيّد كمال الحيدريّ في كتابه دروس في الحكمة المتعالية, م.س, ص37. وبعد مراجعة كتابه “نحن والتّراث” تحت عنوان: ابن سينا وفلسفته المشرقيّة. راجع: الجابري, محمّد عابد, نحن والتّراث, المركز الثّقافيّ العربيّ, ط5-1986, ص87.

فيديو مقال سبب اختلاف المدارسِ المفسِّرةِ للوجود في العصرِ الإسلاميّ

 

أضف تعليقك هنا