مثلية سياسية..!

 

 

ظني أن تسونامي القلق من مصطلح “المثلية” الذي إجتاح مجتمعنا مؤخراً ربما جاء في غير محله، أو أنه قد جاوز كالعادة حدود الواقع بصورة يشوبها الإستعراض والتضخيم المتعارف عليهما كلما واجهتنا ظروف مغايرة لموروثنا التراثي الإنفعالي المهترئ..

 

لا أدري لماذا الهلع المفرط، والمصحوب بتلك النزعات العدوانية التي تنادي بشحذ كافة الأسلحة لمجابهة ظاهرة ليست أصيلة ولا هي جديدة على مجتمعنا، وأحسبها باتت تؤرقنا فقط من باب الجهل وعدم المعرفة، أو ربما التخاذل المعتاد عن محاولة التشخيص السليم..؟ لكن بما أننا في هذا المقام بصدد التعرض لنمط مستجد من المثلية ربما أكثر خبثاً، فوجب علينا إذاً التفرقة قبل الخوض في المزيد من التفاصيل..!

 

ما سبق هو مجرد تقدمة بسيطة تمهيداً لما نحن بصدده في سياق المقال، وهو ظهور نمط جديد من المثلية في مصر ربما لا يقل خطورة، وسوف أوصفه هنا مجازاً بمسمى “المثلية السياسية”.. فإذا كان أحد تعريفات المثلية هو التخلي عن الطبيعة الوظيفية المعروفة وممارسة أمر ما شاذ عنها، فالمثلية السياسية تصنف ببساطة ممارسة شاذة مغايرة لطبيعة وظيفية معلومة بالضرورة.. وأحسب أن أي من سلطات الدولة الحالية لم تنجو من الإصابة بها..

 

أبدأ بالسلطة التنفيذية بشقيها الحكومي والرئاسي،

والتي من المفترض أنها تعمل من خلال خطة وبرنامج ثابت منذ صعودها لسدة الحكم، وأنها تمارس تطبيق فعلي لمسألة الفصل بين وظائف كل منها بما كفله الدستور والقانون من معايير تضمن سير العمل بشفافية وتحقق العدالة والتوازن النوعي بين مهامها المتعددة وبين حقوق المواطنين، وأيضاً تضع آليات ثابتة للرقابة والمسائلة القانونية، وكذلك تُقر ضوابط محددة لمبدأ الثواب والعقاب والتعيينات والترقيات.. لكن أين الخطة والبرنامج منذ العام 2013.. وأين الفصل بين الوظائف..! وأين الدستور والقانون والمعايير..؟ الثابت أننا أمام نموذج شبه مشوه، يعتمد صراحة الشكل الفردي المسيطر على مقاليد صناعة القرار، والذي تدور في فلكه مجموعة مبهمة من موظفين وإستشاريين وتنفيذيين من أهل الثقة، ليسوا بالضرورة من المتميزين أو حتى المؤهلين وظيفياً، ويبدو أن جُل إهتمامهم هو إرضاء الحاكم وتنفيذ رغباته وإخضاع المشهد بالكامل بما في ذلك الشعب مصدر السلطات ومصالحه لأهواء مسئولي السلطة..! هذا بالطبع ينأى بالمشهد تماماً عن أي أجواء إيجابية من شأنها أن تفرز مجتمع ديموقراطي متكافئ يحتذى به، أو يمكن إتخاذه كنموذج للدولة المدنية المرجوة..!

على الجانب الأخر نرى صورة أخرى أيضاً مشوهة

، لكنها برلمانية هذه المرة.. فمن المتعارف عليه أن يضم البرلمان معقل السلطة التشريعية نواب ينتخبهم الشعب ليمثلوا آراءه ووجهات نظره، ثم يقوموا بتشكيل دوائر تشريعية تعني بسن القوانين وتراقب الحكومة وتُسائلها وتتابع تنفيذ خططها المعلنة حتى يتسنى للشعب معرفة حقيقة الواقع المحيط بكل جوانبه بحيادية وشفافية..! لكن منذ ميلاد هذا البرلمان لم تتوقف النكبات والملمات، حيث بدأت بفصل تشريعي أنجب جبهة واحدة رفعت شعار دعم مصر، ثم إدعت أنها تعرف مصلحة المواطن أكثر مما يعرف هو شخصياً..  هذه الجبهة كانت ومازالت مكونة من مجموعة منتقاة بعناية من بين بقايا موظفي الأجهزة الأمنية التي خلفها العهد البائد، وسواء نجح أعضائها في دخول البرامان بالتعيين أو بالتوازنات الإنتخابية مدفوعة الرسوم، ما كان من هؤلاء إلا أنهم أفسدوا كل ملامح الحياة النيابية السليمة بآداء مبتذل مهين، وقوانين أغلبها قيد الكثير من الحريات في العموم، وزاد من عمق الهوة الطبقية داخل المجتمع.. فلم يأتي أي قانون حتى كتابة تلك السطور ليلزم مثلاً أصحاب رؤوس الأموال المخفية بعناية منذ سنوات ما قبل ثورة يناير 2011، بأن يساهموا بقدر ولو قليل في فك طلاسم الأزمة الإقتصادية المزمنة.. أو أن يحركوا بعض من أصولهم الثابتة لكي يتم إنقاذ أدوات الإنتاج في الدولة.. القوانين والتشريعات أغلبها جاء لحماية عرش السلطة وتثبيت قواعد الدولة الأمنية لا أكثر، وإنصبت نتائجها على إثقال كاهل المواطن البسيط بالضرائب والزيادات المفرطة في اسعار السلع والخدمات بما لا يتفق أبداً مع المعلوم عن دخل الفرد بحسب دراسات البنك الدولي الأخيرة.. وربما أخطر ما في الأمر وأفدحه على الإطلاق أن هذا البرلمان أجاز بصورة فجة غير مسبوقة التخلي عن أرض الوطن جزر تيران وصنافير بقرار غير دستوري، وبالتعارض مع حكم قضائي بات ونافذ في تعدٍ سافر على حقوق أجيال، وإنتهاك لمبدأ الفصل بين السلطات وتغول أقل ما يوصف بأنه منحرف على سيادة القانون..!

 

وفي مذيلة هذا المشهد الضبابي،

تأتي السلطة الأخيرة في قائمتنا وهي سلطة الإعلام بصورة كافة، المرئية والمسموعة والمكتوبة والإلكترونية.. ظهر في الفترة الأخيرة أن الإعلام في مصر كصناعة مؤسسية قد تم ضبطه بشكل ثابت لخدمة السلطة على حساب مهامه الأساسية، والتي هي نشر التوعية ونقل الخبر وتغطية الأحداث بموضوعية وحيادية وتجرد.. ورأينا بوضوح تزاوج الإعلام ورأس المال برعاية أمنية من جهات غير معلنة، وما نتج عنه من قنوات ومواقع مبتسرة تتفانى في قلب الحقائق، وتمارس من وسائل التوجيه المعنوي في هذا العصر ما يلائم فقط أساليب ستينيات القرن الماضي كالأغاني الوطنية وإطلاق شعارات جوفاء خالية من أي معنى أو محتوى، ومحاولة استحضار إنجازات الرواد الخالدة ودمجها مع واقع هش لا يتفق معها أبداً في القيمة أو المقام..!

 

فعلياً أصبحت بوصلة الآلة الإعلامية

موجهة فقط على هوى السلطة ولخدمتها، ويظهر هذا بوضوح بين إستمرار حجب المواقع الإلكترونية المعارضة، وتصفية صحافيين نابهين من أصحاب التوجه المغاير لسياسات المؤسسات الرسمية وغير الرسمية من مناصبهم، وكذلك الملاحقة المستمرة للنشطاء والمدونين على مواقع التواصل الإجتماعي، وقصر الظهور الإعلامي من خلال القنوات الرسمية والخاصة على شخصيات بعينها أيضاً من داخل دوائر الثقة لا الخبرة، ممن يعنون فقط بالولاء للنظام الحاكم، لا بالمهنية أو الموضوعية…

 

النماذج السابقة ليست من وحي الخيال

، لكنها نتاج لرصد واقع سلبي غير معترف به رسميا،ً بالرغم من أننا نلمسه حولنا بوضوح، وأحسبه يستحق عن جدارة عنوان “المثلية السياسية”..! كيف لا، وأغلب السلطات التي ذكرت تحترف آداء شاذ مغاير لطبيعة وظائفها وأدوارها، بل وتجدها تتنصل من مسؤلياتها وترفض المسائلة أو الإستجواب.. هذا الآداء بلا شك غير مقبول من أغلب شرائح المجتمع التي تم تهميشها وتحديد إقامتها تحت خط الفقر، حيث لا ينقطع الحديث والتندر عن السلبيات وأخطارها، بل يزداد حدة وضراوة ويخلق إحتقان غير مرئي ينشط في الخفاء بعيداً عن أعين السلطة، ويتسبب في تبعات العنف المجتمعي وموجات الإرهاب المتكرر..

 

تلك النماذج في نظري أحق بالإنتباه لخطورة تأثيرها، وثبوت الإخفاق في طريقة إنتقائها ومتابعة أسلوب آداءها وطريقة إدارتها وتثبيتها في مواقعها.. ويظل الإلتفات للحالات الفردية المريضة الأخرى التي تركز عليها الآلة الإعلامية مجرد وسيلة لإلهاء الشعب المثقل بالهموم عن قضاياه الأساسية، والتي مازال يمكن تداركها إذا ما حدث تغير نوعي في أداء مؤسسات الدولة لكي تركز جميعها للعمل على إصلاح الفرد والمجتمع سلوكياً أولاً بدلاً من العمل فقط لإرضاء رغبات السلطة الحاكمة وحمايتها حتى لو جاء هذا على حساب مصالح وحقوق المواطنين..!

فيديو مثلية سياسية..

 

أضف تعليقك هنا