الوجه المشرق للبيروقراطية

البيروقراطية العتيقة

كنت من الذين يعتقدون أن البيروقراطية العتيقة هي أسوأ ما ورثناه عن أجدادنا، وكنت أظنها – غفر لي ربي – أبعد ما تكون عن النفع والفائدة، وما كنت لأصدق أنني قد أرى غير ذلك في يوم من الأيام.

والآن – وبعد أيام ثلاثة في مجلس مدينة مرسى مطروح، وبعد وقفة بل وقفات التأمل في طوابير المجلس المتعددة في مختلف طبقاته – أدركت الوجه المشرق للبيروقراطية، وعلمت فضلها الكبير في اللُّحمة الاجتماعية في المجتمع المصري.

ففي يومي الأول توجهت إلى مبنى مجلس المدينة لتقديم طلب شراء لقطعة أرض وضع يد بنيت عليها منزلي، معتقدا أنني بعد ساعة أو ساعتين على أكثر تقدير سأكون خارجه، فتلقتني وجوه لا تعرفني، وغرقت في سيل من النصائح والتوجيهات دون أن أسأل، وكانت تلك التوجيهات تنم عن خبرة أصحابها، وكان عليّ – طبقا للتعليمات – أن ألقي بصورة البطاقة في أيدي أناس من أمامهم أناس من أمامهم أناس، وتناقلتها الأيدي لتصل إلى الباب الحديدي الذي نتخيل ما خلفه ولا نراه، وقبل أن أسأل بادرني أحدهم قائلا: سينادون على اسمك.

وقفت أنظر في الوجوه، وتفكرت في مدى امتهان المسئولين للناس، فكيف يقف المواطنون على سلم من بضع درجات، على باب حديدي خارجي، في حين يجلس الموظفون داخل ذلك الباب؟! وماذا لو أمطرت السماء؟! وماذا لو استدارت الشمس واشتدت حرارتها؟!

تمنيت ان أسمع اسمي، سألت: متى سينادي؟ فجاءتني أجوبة من كل حدب وصوب، فقائل: وهل وقفت شيئا؟! وقائل: أنا هنا منذ أكتر من ساعة. إلى قائل: أتظن أنك ستحصل على الإيصال فور تقديمك لصورة البطاقة؟!

سألت أحدهم: ماذا بعد الحصول على الإيصال؟

  • تتوجه إلى الخزينة لتدفع خمسين جنيها، والخزينة تغلق الساعة 12، عسى أن تلحق بها!
  • وبعد الخمسين جنيها؟
  • تعود إلى هنا لتسلم الملف، وتأخذ إيصالين تدفعهما في الخزينة.
  • لماذا لا أحصل على الإيصالات كلها لأدفعها مرة واحدة؟
  • هكذا الإجراءات.

وكم كانت سعادتي عندما سمعت اسمي قبل الثانية عشرة بعشر دقائق – جريت، ولك أن تتخيل شخصا مثلي – يشبهه أصدقاؤه بالشاعر صلاح جاهين – وهو يجري؛ لألحق بالخزينة، وفي الدور الثاني قال لي أحدهم: وقع الإيصال من الوكيل بسرعة، هرولت دون تفكير إلى حيث أشار، وظفرت بتوقيع الوكيل، وأسرعت نحو الخزينة، وقفت في الطابور، فسألني شخص: بكم إيصالك؟ أجبته: بخمسين. ففاجأني بقوله: إيصالات الخمسين يُدفع فوق في الدور الثالث. هرولت لأعلى، وأشرق وجه البيروقراطية متمثلا في سعادتي وفخري باسمي عندما نوديت لأتسلم إيصال الخمسين جنيها، ثم تسلمت بعدها – من إحدى غرف الدور الثاني – كراسة الشروط.

شعور بالخبرة

وفي يومي الثاني توجهت إلى مجلس المدينة يملأ وجداني شعور بالخبرة، وحرصت على التوجه إليه في الثامنة والنصف – قبل وقت العمل بنصف الساعة – لأظفر ببداية الطابور، ويا لحسرتي وانا أطوف ببصري على طابور طويل أمام الباب الحديدي القابع فوق بضع درجات من سلم خلفي، أخذت دوري حزينا على التبكير حزنا لم يدم طويلا وأنا أشاهد الطابور يتطاول من ورائي، وعرفت من أحاديث الناس أن بعضهم حضر قبل الساعة السابعة.

عند التاسعة بدأ الجالس يقف، وبدأ الصف يعتدل، وأخذ أحدهم يدق الباب الحديدي على استحياء، ومرت ربع الساعة تقريبا، ثم جاء رجل ليخبرنا بأن العمل انتقل إلى صالة الاستقبال داخل المبنى، وبعد لغط واعتراض رأيت الطابور الجديد وقد صار آخره أوله، وأوله وسطه.

ورغم أنني كنت راضيا عن المكان الجديد للطابور، إلا أن البعض أعلن عن ضيقه بالمكان لأنه (حَر)، والسلم الخلفي (طراوة)، ومرت عقارب الساعة بطيئة مملة، حتى وصلت إلى الشباك وسلمت الملف، وكان عليّ انتظار سماع اسمي لإعطائي إيصالين لأقوم بدفعهما في الخزينة، ومجددا حببتني البيروقراطية في اسمي، وملأتني عزا وفخرا به وأنا أتلقى الإيصالين، ومهرولا توجهت إلى الدور الثاني حيث الخزينة، ولكنها – للأسف – تجاوزت الثانية عشرة.

في ثالث أيامي توجهت إلى مجلس مدينة مطروح وكلي شك في خبراتي السابقة، هل سأقف في نفس الخزينة بالدور الثاني؟ أم في خزينة الدور الثالث؟ ام سيكون وقوفي في سواهما؟ وهل بعد الحصول على الإيصالين سأتوجه إلى الشباك الكائن بصالة الاستقبال داخل المبنى؟ أم سأتدرج السلم عند الباب الحديدي خلف البناء؟ وهل؟ وهل؟ وهل؟ و…

وعند خزينة الدور الثاني وقفت بين أناس تربط بينهم ألفة الاشتراك في المطالب، تلك الألفة التي علمتها لتلميذاتي دون أن أختبرها، فالوجوه آلفة مألوفة، ينظر كل منا للآخر ويبتسم رافعا يده بالتحية، وأدركت السبب الرئيس لكل ما كنا نتباهى به من ترابط وتآلف يتميز به مجتمعنا، إنها البيروقراطية ووجهها المشرق، وما تلقيه في القلوب من محبة تظهر في الوجوه.

وطال الانتظار

ثم سلمت إيصالي الدفع والنقود، وطُلب مني الانتظار إلى حين تتردد أغنية (اسمي) التي لم أعد أطرب إلا لها، فكان الانتظار، وطال الانتظار، ومُلّ الانتظار، فما أفدح انتظارا تعرف أن بعده انتظار!

ويأبى القدر إلا أن يصبغ يومي ببعض الإثارة، فينقطع التيار الكهربائي، ويترك الموظفون الأقلام، وتبرق في رأسي فكرة تنير ظلام ما حولي، أسرع نزولا إلى صالة الانتظار، أقف في نهاية الطابور أمام الشباك لأحجز دورا، مطمئنا أن اسمي لن يُعزف بأعلى لانقطاع التيار، واستطال الطابور من خلفي، وفور عودة التيار أبلغت من يقف خلفي بأنني سأذهب لإحضار شيء، وصعدت إلى الخزينة، وطربت بسماع اسمي، وطرت – وما كنت أظنني أطير – واتخذت مكاني في الطابور بصالة الانتظار، ثم سلمت الاوراق إلى الموظف، وحدد لي موعد لجنة المعاينة.

فيديو الوجه المشرق للبيروقراطية

أضف تعليقك هنا