تحت ظلال السيسفون

لقائي ب “تشارلي”

ذهبت منذ فترة ليست بالبعيدة الى المملكة المتحدة، لندن تحديدًا في رحلة عمل لم تتجاوز الأسبوعين وكان برفقتي أشقاء اثنين من دول عربية مختلفة و استقبلنا في المطار شاب بريطاني لطيف اسمه “تشارلي” ألقى التحية بصوت نخنوخ فقلت له” يبدو لي انك اسكتلندي الأصل مستر تشارلي” فقال”آيا، كيف عرفت ذلك؟.” قلت ” من لم ينفعه ظنه لم ينفعه يقينه”، ومضينا. لازمنا تشارلي حتى نهاية الرحلة و تطورت العلاقة حتى نشأ بيننا مودة و ألفة و مثل ما نقول “راحت الكلفة بيننا”. في آخر ليلة لنا أصر أن يدعونا الى أحد مقاهي شارع أوكسفورد كنوع من التوديع و استأذننا أن يدعوا صديق له لينضم إلينا فأذنّا له وليتنا لم نأذن.

توجهنا الى المقهى في السّحر وانضم إلينا لاحقاً صديق تشارلي بعد التحية طلب له قهوة ايرلندية وجلس بجانبي عرف عن نفسه باللغة العربية بكل اعتداد قائلا” معك (بيتر) نصير الشباب، محارب الارهاب” فبادرته قائلا “خرطوشة فردك {و أرجو أن لا يظن القارئ إني أعاني من عقدة الخواجة والعياذ بالله بل يرى كم أنا مؤدب و متواضع مثل ما يقولون الانجليز “جنتل مان”}(ابوفيصل) نصير الشياب، فاعل للصواب” أصولك عربية؟! قال “لا والله، لكني درست فالزمنات اللغة العربية في دمشق” قلت والله ماخلوا شي الانجليز.

” من طلع برا دياره قل مقداره “

وأخذنا نتجاذب أطراف الحديث ونتبادل الآراء فكان لنا في كل بحر لجّة سواء في الفنون أو الأدب أو الثقافة وهلم جرا، حتى استوقفني قائلا “سأبدي لك رأيي في أمر ما وأتمنى أن تكبر عقلاتك معي” قلت “سألت شططا” ابتسم ابتسامة صفراء وقال” هذا مثل ينقال” قلت له “قل ما بدا لك” قال “أنا أرى إن العرب عمومًا والمسلمون خصوصًا تجلي من تجليات الفوضى والهمجية منذ نشؤوا حتى يومنا هذا، على النقيض منّا الغرب علمنا الناس الأدب والإتكيت وشتى مجالات العلوم الأخرى” سمعنا كلنا ما قاله و أخذنا نتبادل نظرات التعجب والاستنكار أنا و الأخوة العرب ممن كانوا معي وقررت أن أمتنع عن التفاعل معه حيث ان الخطاب كان موجه لي، ليس ضعفا بل من باب ” من طلع برا دياره قل مقداره” أو ” اللي ما يعرف الصقر يشويه” سمه ما تسميه المهم ان الصمت عمّ المكان وكان تشارلي ذكي فهم إن الجو مشحون فبادر بالسخرية من موقف حصل أثناء العمل سابقا ومشت السالفة والكل رجع بيته آخر الليلة.

توجهنا الى مطار هيثرو فالصباح الباكر من اليوم التالي و ودعنا تشارلي بالأحضان وتبادلنا الأرقام والإيميلات حتى نبقى على تواصل. وصلت ولله الحمد الى أراضي الوطن الحبيب بالسلامة ولا زال كلام بيتر يزعجني كلما تذكرته فما هذا الجهل وما هذه الصورة المغلوطة التي اتخذها هو ولا أعلم كم أمثاله عنا. ذهبت الى منزل صديق لي وخلال تسامرنا حكيت له الموقف اللي حصل مع بيتر فقال لي حانقاً ” وليه ما خشيت بعينه ” قلت”صح مني العزم والدهر أبى” قال ” عذر أقبح من ذنب” طبعا لا أخفيكم ان صديقي شاعر وبعض الشعراء لسانه فالت يمدحك ويهجوك لسبب أو بدون سبب وأظنه قد يصاب بجلطة لو تعرض لموقف إساءة ولم يرد عليه بسلاطة لسان، ثم أخذ يردد أبيات لا أدري في الحقيقة لمن هي ” نحن العرب الذهب المصفى و باقي الناس أنجاس” قلت له على رسلك كلنا أولاد تسعة محد أحسن من أحد قال معليش أخذتني الحماسة أما بالنسبة عما قاله في الإسلام فهذه حماقة ليس بعدها حماقة وكل داء له دواء الا الحماقة أعيت من يداويها.

خرجت من عند صديقي متوجهاً الى المزرعة و أنا أضرب أخماس في أسداس وجلست في أحب مكان لي وهو تحت نخلة رزيز مقابلة الحوش و في إيدي حلت تمر سفسيف أو كما يسميها البعض زبدية تمر (تعددت الأسماء و التمر واحد) أخذت آكل منها بنهم وقررت أن أكتب الى بيتر رسالة أرد عليه فيما قاله من تحت ظلال السيسفون.

عزيزي بيتر، أوليس في أرضنا أول من خط بالقلم!

أستغرب أنك تعيش في لندن حيث أنها من أكثر مناطق تصادم الحضارات و الأعراق فالأرض و تحمل أفكارا مثل الذي جاهرت بها مسبقاً علي، عجيب أمرك أيها الأخ الانجلوسكسوني تتهمنا العرب بالهمجية و الشرور! أولسنا مهد الحضارات ومن أراضينا شعت القيم و المبادئ و المفاهيم ؟ أوليس في أرضنا أول من خط بالقلم! فعلا عجيب أمرك أن تنظر لنا بمثل هذه النظرة ماي دارلنق، اقرأ الشعوب من خلال عظمائها لا من خلال الإعلام المظلل اقرأني من خلال عمر المختار و عبدالكريم خطابي و أمثالهم من الأعلام، اللغة الانجليزية التي كنت تتشدق بها وبأدبياتها لا يتجاوز عمرها ٥٠٠ سنة ونحن ملأنا الدنيا أدباً منذ أكثر من ١٥٠٠ سنة هل تعلم ان مسلسل ستار وورز التي كنت ترتدي قميصه متباهياً بإبداعكم الفكري و سلسلة هاري بوتر التي أقمتم الدنيا لها قد سبقناكم بها برواية سيف بن ذي يزن حيث اكتشف مؤلفها الأطباق الطائرة و السّحرة حتى قبل والت ديزني بقرون، و إن تحفة الأدب العالمي (الكوميديا الإلهية) لدانتي مستمدة من رسائل الغفران للمعري. والنظارة التي ترتديها لتعالج ضعف نظرك أول من أسس لها علم خاص هو ابن الهيثم.

هل كان نيرون بدوي مثلاً أو ميكيافيلي ابن عم لنا؟

يا مستر في حين كنتم تتناحرون بينكم كانت في بغداد أكبر مكتبة في العالم. أما بالنسبة للحقوق يا سيدي فهي قد تكون جديدة عليكم لكن لك في شجرة الدر والأميرة ذات الهمة درس حتى تعرف من نكون ففي حين كنتم تعتبرون المرأة أقل من الرجل كانت عندنا تتولى القضاء و الحكم و تنافس في جميع الأصعدة حتى القتالية منها. فعلا عجيب أمرك و أنت تظهر نفسك بصورة من ملأ الدنيا حباًّ، هل كان نيرون بدوي مثلاً أو ميكيافيلي ابن عم لنا أو حتى ديجول الذي أراد الاستيلاء على الجزائر منا والله أعلم قد يكون فعلا اسمه بشار الغول غيّره حتى ينسجم مع المزاج الفرنساوي يا مسيو. شيء غريب أنا لا أعلم لو كنت شخص هندي أمامك هل ستتجرأ أيضا وتقول بتشدق أمامي بأنكم نشرتم الحضارة للعالم.

عموماً أنا هنا ليس للوقوف على الأطلال أو لتراشق الاتهامات معك ما أريد إيصاله لك هو أننا أبناء اليوم، فالحضارة البشرية شأنها شأن أي نسيج يمر بتجارب وظروف على مر الزمن ليضفي عليه نضوج وتقدّم. يذكر لنا ديورانت في قصة الحضارة إن في زمن من الأزمنة كانت البشر تباع وتشترى للطهي وكان هناك أيضًا تمييز بين لحمة الرجل الأبيض و الأسود فهل يصح أن نعيّر من خلف هؤلاء القوم بما فعله أجدادهم!! طبعا هذا لا يصح لأن الأخطاء والتجارب التي مروا بها مهما كانت قاسية هي التي أوصلتهم الى ما هم عليه اليوم فعليهم أن يتعلموها ويعلموها أبناءهم كي يتجنبوا ما كانوا عليه من وحشية.

فعلا نحن الآن لا نمر بأفضل أوقاتنا في المنطقة وهذا وارد فالأيام دول بين الناس “والدهر مر وحلو مثل الزهر علقم و توت” لكن هذا لا يعطي أحد الحق للتقليل من شأننا و اللّبيب يعي ما أقول فنحن نتكلم لغة واحدة من المحيط إلى الخليج و ننتمي لقومية واحدة ونحمل كل مقومات النهضة فموقعنا استراتيجي حيث ملتقى القارات الثلاث ولدينا ثروات طبيعية هائلة و أغلب مجتمعاتنا شابّة قادرة على البذل والعطاء وإني لأتوسّم بالجيل القادم خيراً بعد أن يتحدوا. يعني جايينكم يالانجليز.

أي نعم الإنسان كما قال أبو علم الاجتماع ابن خلدون ابن مجتمعه يؤثر و يتأثر لكن في الجوهر كلنا بشر نميل للطيب من الأمور ويتفق معاي ولدكم فرويد راجع له النظرية البنيوية وإن كان لي تحفظات على هذا الرجل وأرى أنه كان يداوي الناس وهو عليل إلا إنه صدق في هذه و هو كذوب، فمن الطبيعي أن يكون هناك اختلاف صغر أو كبر بين البشر على حسب خلفيتهم الثقافية، لكن هذا لا يعطينا الحق بإصدار أحكام مطلقة وتكوين صور نمطية عن الشعوب فبطبيعة كل إنسان حب الخير مالم تتعارض مع مصالحه وهذه قضية فلسفية أخرى لا أود الخوض فيها.

أما تهجمك على الدين فلا مبرر له!.

فلا يوجد دين فالعالم سواء كان سماوي أو من صنع البشر إلا ويهدف أن يجعل العالم مكان أفضل لنعيش ونتعايش فيه. أما الحالات الشاذة ولا قياس على الشاذ من تطرّف و إرهاب فما هي إلا تمرد على الفطرة البشرية وهذا التمرد قد يأخذ شكلاً مسيحياً فالمجتمعات المسيحية و كونفشيوسيّاً فالمجتمعات الكونفشيوسية… فلا يصح أن يوصم دين أو عقيدة بالإرهاب ولا يستحق من يقول مثل هذا أن يرد عليه.

في النهاية، أحب أن أقول لك يا صديقي انظر للانسان كأخ و نظير لك فلا لأحد فضل على آخر، حاول أن تنشر الحب بدلاً من تبني مثل هذه المعتقدات العقيمة.

هوب تو سي يو سون.

أبوفيصل مع التحية.

فيديو تحت ظلال السيسفون

 

أضف تعليقك هنا