ميراث الجهل وحرب المذاهب..!

المسببات الحقيقية لأزماتنا

ربما وجب علينا ونحن نتجرع مرار الصراعات الفكرية التي تعج بها الساحة، أن نتوقف قليلاً عند المسببات الحقيقية لأزماتنا التي ربما كان أحد الأسباب الرئيسة لتفاقمها هو التغافل عن العلل الحقيقية، وأيضاً العجز الواضح عن تشخيصها وتحليلها بهدوء وعقلانية.. فحتما إذا ما غاب العقل تعمى الضمائر وتحتد الألسنة..!

يقول بعضهم أن الأزمة تبدأ من أصولية راسخة في الأديان في العموم، وهذا ما أحسبه قصور وتخاذل متعمد عن الخوض والتعمق في المضمون لأن الأصولية نهج والدين عقيدة، وشتان الفارق بين ما هو منهج وما هو معتقد.. لهذا أحسب أن الأزمة تكمن في الفكر المذهبي وطريقة التناول لا في أصل المعتقد.. فمثلاً إذا أساء طبيب آداب مهنته ولم يتخذ الإجراءات السليمة للتشخيص، فلن يحصل المريض على العلاج المناسب، وعليه لن يكتمل له الشفاء، لكن هذا بالطبع لا يحط من شأن مهنة الطب في العموم.. وحين يزيد الطبيب من تجاوزه ويجعل من المريض حقلاً للتجارب فالأمر هنا يصنف على كونه جريمة فردية لا كإخفاق علمي.. إذاً لو سلمنا بأن ظواهر الكون علويها وسفليها، ظاهرها وباطنها تتأتى فقط نتيجة تفاعل القوى المختلفة، فربما سنكون بهذا قد حققنا سبقاً في تحديد النمط الأخلاقي الذي يجب على البشر كافة أتباعه، وحينها ستُترك الظواهر الكونية الغامضة التي تسمى غيبيات للبحث والدراسة الأكثر تخصصاً في شتى مجالات العلوم لا للخرافة أو الاستسهال..

فالعقل مثله كمثل أي آلة، له محدودية في القدرات والسعة الاستيعابية، ولهذا سأحاول هنا تلخيص ما أسميته علة الانحطاط لدى الشرقيين، وهو الجزء الذي يخصنا في هذا المقام، لربما نجحت في فتح ثغرة في جسد غول التعصب والتشدد الذي بات يتحكم في مصائرنا ويجبرنا على الانحناء خوفاً أمام العواصف لا مواجهتها بعقلانية..

علة الانحطاط لدى الشرقيين

جعلوا منذ البدايات الأولى ميدانين لتنازع البقاء، فلم يبالوا أن يخسروا الصفقة في العالم ليغنموها في العالم الآخر، فأصبح شغلهم الشاغل هو الإعداد للمجهول، وتركوا الاشتغال بشؤون عالمهم الحقيقي المطالبون بإصلاحه، والذي لا يصح إلا بالعمل الجاد والتجربة والتذوق والاستنباط والمغامرة.. بل وبالخروج عن المألوف أحياناً كثيرة.. ولننظر إلى آثار ممالك الشرق القديمة، سنرى فقط أطلال تدلل بالكاد على الحياة اليومية التي عاشها هؤلاء، لكن سيعجزنا أننا أمام أضرحة ومقابر وشواهد موت تم تشييدها لتبقى أبد الدهر..!

حتى قدماء المصريين أصحاب أعظم الحضارات البشرية على الإطلاق وضعوا جام اهتماماتهم في بناء المقابر المدهشة الأحجام، والوصول إلى أسرار التحنيط ليبقوا على رفات الجسد صالحة حتى بعد أن تذهب الحياة..!

ربما هذا هو سر افتقاد أغلب الشرقيين للإرادة، وعزوفهم أو تكاسلهم عن التدافع والابتكار والالتزام بضوابط وانفعالات إنسانية أحسبها انقرضت.. خصوصاً بعد ما أصابهم رغد العيش وتوافر الضرورات المعيشية سواء بالطبيعة السخية في بعض الأصقاع، أو بفعل أموال النفط حديثاً في أصقاع أخرى..

تشابه واختلاف الإنسان الغربي والشرقي

هذا ويتشابه الإنسان الغربي والشرقي في أن لكل منهما غرضاً في حياته، لكنهما يتفاوتان في كيفية التوفيق بين الأمل والقدرة على تحقيقه.. فالغربي إذا ما طمح إلى أمر عمد إليه من طريقه مباشرة وعمل من خلال مسار واضح يحتاج فقط للاجتهاد والجدية، فالجندي يحاول بتفاني أن يكون قائداً، والوسيط أن يصبح تاجراً والصانع أن يصير صاحب مصنع، وهكذا.. أما الشرقي فأمله مبهم وغامض، لا تتميز له وسيلة ولا تتضح إليه سبيل، وتراه يحاول أن ينتهز الفرصة دونما أن يكون مؤهل للحصول عليها.. هناك في الغرب بعد عصور النهضة صاروا يتعلمون ويبحثون في علل الأشياء ويجربون، وأيضاً يهتمون بالإعداد الجيد والتخطيط وتجهيز العدد والاحتياجات لكل أمر من الأمور.. مما منحهم القدرة على الاستشراف والتوقع وبالتبعية الطمأنينة والرخاء.. هذا في الوقت الذي مازل فيه الشرقييون يتشبثون بتراث خرافي من قصص بساط الريح وسندباد وطاقية الإخفاء والمصباح السحري، وغيرها مما ورد في كتاب ألف ليلة، وما دأب عجائزنا من الأجداد من قصصه على أسماع صغارنا مع التأكيد الدائم على أن هذا التراث مبعث للفخر والعزة وله قداسة لا يجب أن تسقط مهما تقدم العلم وتبدلت الأحوال..

وفي العصور الحديثة أحسب أننا وصلنا إلى النسخة الأخطر، وهي ترك الصغار أسرى للأجهزة والألعاب والتطبيقات الإلكترونية التي تدور في نفس الفلك، وتراجع الاهتمام بقواهم العقلية وصحتهم البدنية وتفاعلهم مع الطبيعة والبيئات المحيطة حتى يتفهموا أسرارها وخباياها ومن ثم يستطيعوا السيطرة عليها وترويضها.. ربما لهذا يتنشأ أغلب صغارنا على التراخي والتواكل والكسل، وترك تحقيق الأماني إلى الصدفة أو الحظ أو الحلول البديلة على أفضل تقدير..

هل للأديان طبيعة عدائية ؟

أعود مرة أخرى للدين.. وأؤكد على أنه ليس للأديان طبيعة عدائية، فلم تظهر العداوات والضغائن إلا مع ظهور المذاهب والطوائف.. والدين باعتباره عقيدة مجردة لا يقتضي نزاعاً بين الناس، إلا إذا تجاوز حيز العقائد إلى الأمور التي تدخل في معاملات الإنسان واحتياجاته المادية أو طغيان الشهوة على العقل لديه.. تماماً كما علمنا في الأمم المتأخرة التي تجهل العلاقة الحقيقية بين الأسباب والمسببات، وأكثر من هذا ما شهدته أمم القرون الوسطى وما تقدمها من عصور سيطرة الكهانة والسحر على الفكر الإنساني..

التعصب والعنف صنوان لا علاقة لهما بطبيعة الأديان التي من أصل تركيبتها التسامح، والتصالح مع الآخر والقبول بالاختلاف.. لكن تأتي النزاعات كلما اتسعت رقعة الجهل وزادت معدلات الشهوة فتصبح الانتهازية هي عنوان المعاملات ويصير الاستغلال هو الناموس المسيطر في أي من المجتمعات.. رجل الدين يفسد حين يطرب لجهل العوام فيشرع في تقويمهم على مذهب يكون منشأه في الأساس مبني على رغباته.. ومن ثم تصير فتاواه أحكاماً وسنن يتبعها أغلب البسطاء دون بحث أو دراسة.. لذا تجد الكثيرين منهم يداهنون السلطة الحاكمة على حساب صحيح الأديان، أو تجدهم يجيزون ما هو ذو حُرمانية بينة كي يوفقوا أوضاعاً تمنحهم الاستمرارية في مناصبهم، فتزداد الأمور العقائدية البسيطة تعقيداً ويسقط في يد من يبحث عن الحقيقة حتى تنتهي به الأمور إلى الكفر بالمعتقد أو محاربته ورفض وجوده على أسوأ تقدير..!

مع شديد الأسف، أغلب ما يقع في حوزتنا الآن من كتب للشروح والفتاوى والتفاسير في أغلب الأديان أحسبه قد تعدى مرحلة الفقه والتبصير إلى ما يشبه الخيالات والأساطير الدينية، وهي في مجتمعات الجهل والقمع الفكري مستطابة في مواضعها ومحترمة مادامت في كسر دارها، لكنها متى تعدت تلك المساحة وخاطرت بالاقتراب إلى منطقة العقل والحقائق فعقابها هناك الإعدام ودمها هدر تماماً مثل حمام الحرم.. فمن أرادها فلينشدها لنفسه في موضعها وله حق الاختيار، وعليه ألا يخرج بها من تلك المساحة فيجني عليها وعلى نفسه بعقوبة الغربة في عالم لا أظنه سيعترف لها بحقوق بمعايير العصر الحديث..!

بقلم/ محمد أحمد فؤاد

فيديو مقال ميراث الجهل وحرب المذاهب..!

أضف تعليقك هنا