العداء لوسائل الإعلام .. مصداقية متهاوية أم جمهور متحيز؟

“كلام جرايد”،

تلخص هذه الجملة الكثير من توجهات الرأي العام تجاه وسائل الإعلام، فقد درج الجمهور على ترديد هذه الجملة أمام الكثير من المعالجات الصحفية للقضايا المختلفة، معبراً عن عدم ثقته في المحتوى الإعلامي المقدم، وهو ما اعتبرته العديد من بحوث الإعلام اتجاهاً عدائياً للجمهور نحو الوسائل الإعلامية، وأسهبت في تحليل أسباب هذا العداء وآثاره على علاقة الجمهور بالإعلام. وقد انقسمت بحوث الإعلام في تحليل هذه الظاهرة إلى قسمين رئيسيين، الأول يحلل الظاهرة من زاوية الجمهور ليجد إجابة شافية على السؤال التالي: ما الذي يجعل الجمهور لديه اتجاهاً عدائياً نحو وسائل الإعلام؟، أما الثاني فيحلل الظاهرة من زاوية الوسائل الإعلامية نفسها ليعرف ما الذي ينتقص من جودة وكفاءة المحتوى الإعلامي ويجعل الجمهور يستنفر قواه ضدها.

تدني المصداقية

لنأخذ صف الجمهور ونبدأ بالتيار البحثي الذي حاول تحليل ظاهرة العداء من زاوية الإعلام نفسه، فقد حاولت مجموعة من الدراسات الإعلامية البحث عما يشوب التغطية الإعلامية من سلبيات مهنية، وبالفعل توصلت إلى الكثير من المعايير المهنية التي تنتهكها العديد من وسائل الاعلام.
ولخصت البحوث كل هذه العوامل تحت عنوان كبير هو “تدني مصداقية وسائل الإعلام”، ولنقترب أكثر من التفاصيل لنعرف ما الذي جعل الإعلام يفتقد المصداقية بنسبة كبيرة. والحقيقة أن افتقاد الإعلام للمصداقية لم يكن أمراً غريباً أو مفاجئاً وإنما جاء نتيجة طبيعية للممارسات الإعلامية غير الرشيدة. وأهمها عدم اكتراث وسائل الإعلام بمسؤوليتها الاجتماعية تجاه الجمهور والمجتمع أكمل، وتناست دورها في خدمة المجتمع واهتمامها بالدفاع عن مصالح الجمهور وكشف الفساد والتوعية والتثقيف، وهي أدوار إعلامية مهمة تراجعت مكانتها بفعل الممارسات الإعلامية غير المهنية، وتراجعت هذه الأدوار المهمة أمام معايير الإثارة والربح والتعبير عن مصالح المجتمع.

“الترافيك” والفبركة الإعلامية

وقد طغت هذه الظاهرة في الصحافة لسنوات، فعمدت الكثير من الصحف إلى تقديم المادة الصحفية من خلال عناوين جذابة ومثيرة لا تمت للمتن بصلة، رغبة في جذب الجمهور وشراء الصحف وزيادة شعبيتها.

وزادت هذه الظاهرة بشكل كبير وغير مسبوق بعد دخول الإعلام العصر الرقمي وظهور الصحف الإلكترونية والمواقع الإخبارية وأخيراً شبكات التواصل الاجتماعي. حتى أصبح هناك نهم كبير لدى المواقع الإلكترونية بقضية “الترافيك”، وهي لمن لا يعرف حرص المواقع الإلكترونية على تحقيق أعلى معدل من قراءة المادة الصحفية للحصول على عوائد إعلانية، فكلما كانت القراءة أو المشاهدة للمحتوى الإعلامي كبيراً كلما انهالت الإعلانات على الصحيفة أو الموقع وحققت منه مبالغ مالية طائلة.

والحقيقة أن هناك وسائل إعلامية تمسكت بالمعايير المهنية ولم تنجرف لهذه الممارسات على حساب المحتوى، لكن وسائل إعلامية كثيرة هرولت إلى هذا التيار الصحفي، وبدأت تلجأ إلى فبركة عناوين صحفية مثيرة واللجوء لمواد الإثارة الجنسية، وإرفاق صور مثيرة لا علاقة لها بمحتوى الخبر، أو صياغة عناوين بشكل مبالغ فيه لدفع المتابع للضغط على الرابط كي يسجل ضمن سجل المشاهدات.

وهذه الممارسات هي مجرد نماذج قليلة من الأساليب الإعلامية التي تتم لتحقيق الأرباح، وهي في مجملها حققت لوسائل الإعلام ما تريده من عوائد إعلانية بالفعل، لكنها في المقابل أفقدت الإعلام الموضوعية والمصداقية التي تمتع بها لسنوات وكان أحد أهم ركائز التأثير على الجمهور وتغيير اتجاهاته وسلوكياته.

جمهور حزبي

وبعد استعراض مظاهر تدني مصداقية الإعلام يثور تساؤل: هل تكفي هذه المظاهر لتفسير العداء لوسائل الإعلام؟ وبمعنى آخر هل يتحمل الجمهور مسؤولية جزئية عن هذا العداء؟ الحقيقة أن الجمهور أحد أطراف هذه الظاهرة، ولا يمكن تحميل الإعلام المسؤولية كاملة عن هذا العداء.

وكان هذا محور اهتمام قسم آخر من بحوث الإعلام حاول تلمس تحليل لهذه الظاهرة لدى الجمهور نفسه. وقد قدمت هذه البحوث تفسيراً واضحاً لهذه الحالة، معتبرة أن الاتجاه العدائي نحو وسائل الإعلام هو ببساطة رد فعل الحزبيين والمنتمين لجماعات أيديولوجية معينة على التغطية الإعلامية لقضايا هذه الأحزاب والجماعات. وبمعنى آخر فإن أطراف هذه القضايا الخلافية يرون أن التغطية الإعلامية متحيزة ضد مصالح الطرف الآخر، حتى ولو كانت التغطية الإعلامية تتمتع بالفعل بالحياد والموضوعية في التناول. وفسرت هذه الحالة بأن الأفراد الأكثر انغماساً في قضية خلافية يدركون التغطية الإعلامية لهذه القضية على أنها عدائية ضد وجهة النظر التي يعتقدون في صحتها، وأن هذه التغطية متحيزة ضد وجهة النظر التي يتبنونها.

فقد أشارت العديد من الدراسات إلى أن هناك نسبة كبيرة من الجمهور يعتقد أن وسائل الإعلام متحيزة، وغالبية هؤلاء الأفراد ينظرون إلى ذلك على أنه ضد وجهات نظرهم الخاصة. وفسرت هذه البحوث هذه الظاهرة بتأثير عوامل مثل الانتماء الحزبي أو الانتماءات السياسية التي تزيد من تصورات التحيز عن وسائل الإعلام.

صحافة المواطن

وأياً ما كانت أسباب الاتجاه العدائي تجاه وسائل الإعلام، فإن وسائل الإعلام مطالبة بالخروج من أزمة انعدام الثقة والشك في مضامين وسائل الإعلام بكل الوسائل المتاحة، وأهمها الالتزام بالمعايير المهنية من جهة والاقتراب من الجمهور قدر الإمكان من جهة أخرى. ويتحقق ذلك باللجوء لمصادر المعلومات الجديدة التي أثبتت مصداقيتها لدى الجمهور، وتمثلت تلك المصادر في المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي والتي تسمى في مجملها “صحافة المواطن”، شريطة أن تلتزم بالمهنية في التناول الإعلامي.

فيديو مقال العداء لوسائل الإعلام .. مصداقية متهاوية أم جمهور متحيز؟

أضف تعليقك هنا