اليمن.. نبتة تحرر لم يتم..!

 

دأب البعض على النظر إلى اليمن بشيء من الدونية، ربما دون تدبر كاف لما أفرزته أرضها من حضارات قارعت بتراثها ممالك الشرق الأدني كافة، بل وفاقتها أيضاً في ملامح الرغد والرخاء.. سبب هذا التوجه قد يكون ما علق بتاريخ اليمن من صراعات قبلية دموية تعاقبت وأفرزت أنماط من الشقاق والصدع يصعب رأبها بما كان..!

اليمن السعيد.. 

مسمى أطلقه الإسكندر الأكبر على تلك البلاد حين فشل في إحتلالها.. ومن بعده أطلق عليها الرومان العربية السعيدة.. أغلب الظن أن التسمية جاءت من اللفظ “تيمان” الإسم الذي ذُكرت به اليمن في النسخ الأولى من الكتاب المقدس، وهناك اجتهادات كثيرة حول أصل الأسم ربما لا ترتقي لمستوى الحقيقة لارتباطها بالموروث الشعبي أكثر من ارتباطها بالوقائع المثبتة تاريخياً..  فهل كان اليمن أو سيكون سعيداً..؟  دعونا نفتش في أوراق التاريخ، لربما عثرنا على إرهاصة تفيدنا في هذا الصدد..

نبتة التحرر تنشأ دائماً في الأرض الخصبة التي تمنحها الطبيعة خصوصية ومنعة فطرية..  ولم يكن في جزيرة العرب أخصب من أراض اليمن جنوباً، والعراق والشام شمالاً.. كانت الطبيعة متسامحة مع طبائع البشر، فظهرت دلائل التحضر هناك مع الألفية الثانية قبل الميلاد.. وقد عرف اليمن المسيحية خلال القرن الرابع الميلادي وسبقها تواجد ملحوظ لليهودية، إلى أن اعتنقت أغلب القبائل اليمنية الإسلام في القرن السابع الميلادي، وبعد وفاة النبي محمد (ص) شهد اليمن حركات انفصالية عنيفة أدت إلى قيام دويلات صغيرة كان أقواها الدولة الزيادية والدولة اليعفرية والدولة الرسولية.. وجدير بالذكر أنه قبل الإسلام قامت ممالك ذات تراث حضاري لامع، كان أهمها مملكة سبأ التي نشأت حوالي 1200 سنة قبل الميلاد، وتلاها ممالك حضرموت ومعين وقتبان.. لكن تظل سبأ هي الأقوى حضوراً في تاريخ اليمن بعدما ضمت أغلب الممالك الأخرى في القرن السابع قبل الميلاد في عهد الملك السبئي كرب إيل وتر الأول..

تاريخ اليمن القديم

لن أسهب في سرد تاريخ اليمن القديم، فالمساحة لن تتسع لغزارة الكم المعلوماتي بهذا الشأن، وأحسب أن التقدمة تكفي للتدليل على منعة الحكم السياسي في اليمن وتأثيراته الجيوسياسية..  فلم يحدث في التاريخ أن تم تسجيل نصر مكتمل الأركان لأي قوى خارجية سواء كانت إستعمارية أو حليفة على القبائل اليمنية، ولم يستطع الغاة تحقيق إحتلال ولو شبه كامل لتلك الأرض..  ومن هنا دعونا نتقدم مباشرة لبدايات القرن الماضي، تحديداً عصر أخر حكام المملكة المتوكلية اليمنية الإمام محمد البدر حميد الدين 1926 : 1996، والذي أرَّخ بحكمه لسقوط أخر ممالك اليمن بفعل حراك ثوري قاده الثائر الشهيد مؤسس تنظيم الضباط الأحرار اليمني علي عبد المغني 1935 : 1962، ومعه عبد الله السلال 1917 : 1994 أول رئيس للجمهورية العربية اليمنية، وكان الهدف منه إسقاط الملكية وإقامة الجمهورية اليمنية التي تم إعلانها بالفعل في 26 سبتمبر 1962، وقد ساهم هذا الحراك الثوري في حشد الرأي العام لشعب الجنوب وميله لصالح القوى القومية، وزادهم إصراراً على طرد الإنجليز وتحقيق الوحدة مع جمهورية الشمال الناشئة..

وسرعان ما يتحول الأمر لحرب أهلية عُرفت يمنياً بثورات سبتمبر، وحينها أرسل الرئيس المصري جمال عبد الناصر 1000 مقاتل للتأكيد على تأييد القيادة المصرية لهذا الحراك الثوري، زادت في العام التالي إلى 12000 جندي، وتضاعفت مع تطور الصراع واشتداده على كل الجبهات.. وقد كان لسقوط الإمامة الزيدية والملكية في اليمن وقعاً مدوياً وصل لحد الفجيعة للأنظمة الحاكمة بشبه الجزيرة العربية وعلى رأسها بلاط آل سعود والمملكة الهاشمية.. وعلى النقيض رآه عبد الناصر فرصة جيدة لإنجاح مشروع القومية العربية..! وتتدخل السعودية لإسقاط الجمهورية الناشئة بتقديم دعم سخي للقبائل الزيدية في المرتفعات، ويتوجه فيصل بن عبد العزيز 1906 : 1975 ثالث ملوك آل سعود إلى واشنطن ناشداً إستمالة الولايات المتحدة ضد قيام الجمهورية اليمنية، ومحذراً من تهديدها للمصالح الأمريكية المرتبطة بشراكاتها مع دولته، ويطلب محاولة الضغط على الإتحاد السوفيتي حتى لا يعترف بالجمهورية هناك.. لكن على عكس الرغبة السعودية، يكون الإتحاد السوفيتي أول قوى عظمى تعترف بالجمهورية العربية اليمنية بعد يوم واحد من إعتراف الجمهورية العربية المتحدة به، ويليه مباشرة الإعتراف الأمريكي الذي جاء بتاريخ 19 ديسمبر 1962 عاكساً لصورة مستترة من إلتقاء المصالح غير المعلن بين القوتين العظمتين، ربما لإحراج بريطانيا وإخراجها من معادلة توازن القوى هناك..!

وتتهم اليمن بريطانيا رسمياً بأنها ارتكبت أعمال عدوانية ضدها في سبتمبر عام 1962، وترد بريطانيا بأن الهجوم كان لحماية اتحاد الجنوب العربي بعد سلسلة من الهجمات الجوية والبرية اليمنية خلال شهر مارس من نفس العام. ويتم تعيين بعثة من الأمم المتحدة للمراقبة والتصديق على تنفيذ اتفاق فض الاشتباك بين أطراف الصراع هناك بما فيها السعودية والجمهورية العربية المتحدة..

دور البعثة كان يقتصر على المراقبة والإبلاغ عن كل ما يتعلق بنوايا السعودية وإنهاء أنشطة دعم الملكيين في اليمن، ونية مصر سحب قواتها من هناك. وقد ذكر الأمين العام للأمم المتحدة حينها في تقريره المورخ 03 مايو 1964 أنه لم يحدث تقدم في خفض القوات من أجل تنفيذ الإتفاق، إلى أن بدأت القوات المصرية في الإنسحاب تدريجياً، وبدا الانسحاب كانعكاس للتحسن في أوضاع القوات الجمهورية اليمنية، وليس بسبب الاتفاق السياسي بين الأطراف المتنازعة، حيث أنه كانت هناك دلائل واضحة على أن الملكيين في اليمن مازالوا يحصلون على الإمدادات العسكرية من السعودية..ولحساب توازنات ظهرت آثارها لاحقاً، بدا أن السوفييت ضغطوا على عبد ناصر كي يتوصل الى تفاهم مع فيصل، ربما لرغبتهم في تجنب تعزيز موقف الولايات المتحدة في المملكة العربية السعودية، لهذا ظهرت ضرورة الإنهاء الفوري لمشكلة اليمن، وكان الحفاظ على نظام عبد الناصر مسألة حيوية بالنسبة لهم في ضوء تراجعهم في العراق وسوريا حينها..

وفي سياق آخر، ظل إضعاف الجيش المصري في اليمن بمثابة رغبة إسرائيلية مُلِحة حيث كان الكيان الصهيوني يسعى جاهداً لتقويض أي فرص تسمح لمصر بالسيطرة على الممرات المائية من اليمن وحتى قناة السويس فيفقد منفذه الوحيد على مياه الجنوب، ووجبت الإشارة هنا إلى أن طائرات الصهاينة شاركت في دعم الملكيين في اليمن ضد الجيش المصري بعبورها الأجواء السعودية حيث تلقي الأسلحة ومواد الدعم في اليمن ثم تتزود بالوقود في جيبوتي وتعود منها إلى الأرض المحتلة.. ومع هذا، ظل الحفاظ على نظام عبد الناصر كحليف قوي للإتحاد السوفيتي من الأولويات التي ستبدأ بتدشين سلام في اليمن كخطوة أولى..!

اليمن، محطة جذب

كان اليمن دائماً محطة جذب لخطط الاتحاد السوفياتي الإستعمارية كغيره من أقطاب الإستعمار، بسبب موقعها الإستراتيجي على ساحل البحر الأحمر الشرقي المقابل لأفريقيا، والذي يبعد نحو ألف ميل فقط الى الجنوب من القاهرة..  وقد أثار بناء الاتحاد السوفيتي مطاراً متطوراً في اليمن قلق الولايات المتحدة، فهو سيمكن السوفيت بسهولة من الاستفادة من موقع اليمن للوصول إلى شرق أفريقيا، وكذا تحسين المواصلات الجوية مع الهند، وفتح أقصر الطرق عبر أفريقيا إلى أمريكا اللاتينية. وتلك كانت المعضلة التنافسية بين الولايات المتحدة وبريطانيا فيما يتعلق بضبط الطبيعة الجيوسياسية للمنطقة، وهو أمر يلقي بظلال كثيفة على تطورات التحالفات الحالية في منطقة البحر الأحمر من الشمال إلى الجنوب..!

قبل عزل السلال عام 1967 وتولي القاضي عبد الرحمن الأرياني 1910 :1998 الرئاسة، ظهرت بين الفصائل السياسية مجموعة محمد محمود الزبيري وأحمد محمد نعمان، وكان الأول الذي حظى بشعبية طاغية قد توجه للمناطق القبلية مغادراً معسكر الجمهوريين ليبشر برؤيته لوقف الحرب، والتوصل لمصالحة وطنية على أسس إسلامية لا جمهورية ولا ملكية في محاولة لإيقاف الإستنزاف السياسي المدعوم من الخارج.. لكنه اغتيل عام 1965، وإتهمت القبائل حينها السلال والنظام المصري بتدبير الاغتيال، وهددوا باقتحام صنعاء ما لم يتم تعيين أحمد محمد نعمان رئيساً للوزراء..  وجاء رد الأخير الجميل باستكمال التواصل مع السعودية وبريطانيا، وعن طريقه نجحت السعودية في النفوذ إلى المجموعات الجمهورية وكسب ولاء بعض الزعامات داخلها، وكان الأمر بمثابة زرع دولة تابعة هناك تشارك السعودية عدائها لأي حراك ثوري يعتنق فكرة القومية العربية التحررية التي تزعمها جمال عبد الناصر..

انتهاء الحرب الأهلية في اليمن

انتهت الحرب الأهلية في اليمن رسميا في تسوية عام 1970 إلى اتفاق سياسي بين الفصائل الجمهورية والملكية، وتشكلت حكومة جمهورية في اليمن اعترفت بها السعودية على استحياء، وتضمنت أعضاء من الفصائل الملكية ليس بينهم أفراد من العائلة المالكة..  وحيث أنه لم تكن هناك وحدة حقيقية بين الفصائل المعادية للإمام حميد الدين، بدت في كواليس تلك التسوية مرحلة تداخلات سرية جديدة ضد الحكومة الناشئة هناك.. فالسعوديون لم يستطيعوا كسر اليمن في الحرب، لذا بدأوا مجدداً حربا سرية تعتمد على نشر الفوضى هناك لضمان السيطرة على الجزيرة العربية وضحد أي حراك ثوري من شأنه تهديد عرش آل سعود وكذا عروش الخليج، وقد إعتمدت المملكة في هذا التوجه نشر الفكر الوهابي المتطرف بدعمها للجماعات الأصولية المتطرفة هناك فكرياً ومادياً وسياسياً من خلال لجان خاصة قيل أنها عملت بإشراف مباشر من الأمير سلطان بن عبد العزيز 1931 : 2011 الملقب بسلطان الخير وكان حينها وزيراً للدفاع والطيران..!

ثم ينقلب إبراهيم الحمدي على عبد الرحمن الأرياني عام 1974، ويسمي إنقلابه بالحركة التصحيحية.. ويسعى الحمدي جاهداً إلى عقد تحالف إيجابي مع سالم ربيع علي “سالمين” رئيس اليمن الجنوبي تمهيداً لوحدة وطنية حقيقية تستطيع التصدي للقبائل الموالية للنظام السعودي، مما خلق له أعداء أقوياء أشرسهم كان عبد الله بن حسين الأحمر الذي حاول الإطاحة بالحمدي لكنه فشل.. ثم يتم اغتيال الحمدي وأخيه عبد الله عام 1977 ساعات قليلة قبل زيارته المرتقبة لليمن الجنوبي ويأتي خلفاً له أحمد بن حسين الغشمي الحاشدي، الذي حاول تفتيت جبهة الحمدي بحل مجلس القيادة العسكرية وفصل حلفائه ونقلهم..  ثم يتم اغتيال الغشمي بعد قرابة ثمانية اشهر من توليه الرئاسة ليخلفه القاضي عبد الكريم العرشي بصفة مؤقتة ثم يتسلم مقاليد الحكم رئيساً علي عبد الله صالح في العام 1978…

نجح صالح في موازنة أموره مع زعماء القبائل

وحاول قدر المستطاع تجنب غضبات الأرستقراطية الدينية المدعومة مالياً ومذهبياً من الخارج، لكن حامت حوله شبهات التلون السياسي بين صعود وهبوط وتيرة تحالفاته الخارجية خصوصاً مع دول الجوار، إلى أن آلت الأمور به إلى نفس مصير سلفه إبراهيم الحمدي بالإغتيال دون أن يحدد التاريخ رسمياً هوية من يقف وراء الاغتيالات المتوالية للزعماء في اليمن الذي لا يبدو أنه سيكون يوماً سعيداً كما تنبأ له ذو القرنين..!

فيديو مقال اليمن.. نبتة تحرر لم يتم..!

أضف تعليقك هنا