المُطالبةُ بحريّة “التبخيخ” !

إنَّ ألمًا نَكتبُه على جدار، هو ألمٌ لن نشفَى منه، بل سيظلّ يذكّر كلّ مارّةَ الحبّ على جادّة القطيعة، أو رصيف الوحدة ،بخيباتهم العاطفيّة، وبأنَّهم ربّما لم يكونوا سوى عابرين في حياة أحدهم، وانتهت قصّتهم عند منعطف وداع، أو بين شارع وآخر ؟

“قمعِ الاستيلاء” و  “قمعَ الطّلاء”

أكثر من “قمعِ الاستيلاء” على ما تملك، أن تواجه “قمعَ الطّلاء” على ما فقدته، فتُطالب بحريّة أن تُمسك بخاخًا، دون أن يمحي أحد ما قلت سواءً أكنتَ مواطنًا.. أم متوطنًا في الحبّ !
يحدث أن تُناضل مُعارضةً على عُرضِ حائطٍ بأكمله، فتكتبَ كلماتكَ على جدار، ضدَّ سياسة الخرس، فتعيدَ ببَّخاخك الأسود كلَّ قناعاتك السياسيّة السَّابقة عليه وتطالبَ بإسقاطِ مشاريع اقتصاديّة ضارّة، أو بنظام جائر، أو بحزب ما لم يفِ بوعوده الانتخابيّة، عندما وليّت صوتك إليه..

تخليد ذكرى الحب عالجدران

ولحائط مبكاه، لكن ماذا عندما تناضل من أجل كلمة حبّ أخيرة أو جملة تمنَّيت أن تقولها لمن تحبّ و لا تستطيع تخليدها إلّا في جدار وتركتها بتاريخٍ سريّ وحدك تعرف ما حدث في يومه وتحته، ذات انقلاب لحياتك العاطفيّة ؟
ذاك الحائط الكبير المظلل بسورٍ من الورد الذي كان يُسندُ موعدكما كلما التقيتما، كيف أصبح لافتةً تذكّرك بأنّك عابر جدار لا تستطيع إلّا أن تقرأ فيه ما تركته أو تقطف وردةً منه وتمضي كعابر في طريق حبّ لا سبيل إليه . .لحظةَ اختار كلّ منكما طريقه ؟ وكيف أصبحتَ تمشي فيه بمفردك وتتشرّد مستندًا عليه وِحدتك؟ أنت الذي كنت تخطو فيه زهوًا أمام الآخرين مُمسكًا بيد من تحب؟
وذلك الطريق الذي لن يدلّك أحدٌ عليه.. ومشيتَ بالاتّجاه الآخر بأقدام ضياعك على غير هدى؟ وكيف لمَمْشَاكَ ذاك أصبح بأشواك الورد ذاتها بعدما ذَبُل كلّ شيء؟ وكيف تنغلقُ طرقُ حبّ كانت كلّ مدينتك تُؤدي إليه وغَدَا الوصول إليه محالًا؟ !
***
هل وحدها كلمات الحزن الجداريّ ظاهرة عربيّة بامتياز ؟ كم من اسم نقرؤه أحبّ وفارق، كم من كلمات أخيرة تركها عاشق هاجر لم يبق في يده إلّا مرش ألوان ترك قلبًا مرسومًا أو وسمًا سريا ومضى، وترك بخاخ الكلمات اعتذارًا أو عتابًا أو وصفًا ؟

بعض عبارات  البخ عالجدارن

البعض، يهجرُ عادةَ الكتابة على الورق الأبيض، بإيقاظِ بياض الجُدران، ويحوّلها إلى لافتات كتبَها بخّاخ العشق. وكم حزنتُ وأنا أطالعُ بعضها من مكان إلى آخر وكان قلبي يُدوّن كلّ هذه الاعترافات و أخرىَ تناقلها العالم بعدسات أدب الشوارع انتقيتُ منها هذه العبارات التي تجمعها الحسرة ذاتها ولونُ الخيبةِ ذاته :
كيفَ لي أن أنساكِ وأنا في كلّ حيّ أراكِ

وكتبَ آخر : ” كانت جميلةً، وتملك وجهًا كصلوات الخاشعين

وبتوقيع حمل اسم نور جاءت هذه الأمنية : ” سأعانقك عناق المائة عام عندما نلتقي

أمّا في شارع كان اسمه ” شارع القويّات ” ترك أحدهم جملةَ سبيل تستوقف فضولك ” لازلتُ أبحث عن طريقة غير مبتذلة لأقول لك أحبّك ” ..

فتتساءل كلّما عَبرت منه مجددا : تراه هل وجدَ هذا العاشقُ طريقة مُبتكرة ليقول أحبّك دون ابتذال؟ وترك آخر بخط يشبه مخطط النبض الكهربائيّ للقلب عبارة تختزل ببساطتها حقيقة ندم لن يُفيد أحدًا : ” عندما سيستقيم هذا الخطّ ستحبّينني فجأة ” وجانب نافذة بخخ أحدهم بلوعة ” جبر الله فؤاد من اشتاق وصبر

وثمّة كلمات طريفة أضحكتني : ” اختلافُ أسماء الشوارع بيننا لا يفسدُ للحنين قضيّة ” وآخر رفّع مُستوى حبّه لقضيّة لم تُحسم لفرط اللاّمبالاة وترك في ساعة متأخرة بلا شك هذه العبارة ” قلبي يحترق كالقدس وقلبك كعربيّ لا يُبالي ” وكم تمنيت لو أنني دونت جميعًا كلّ ما قرأت لأخلّدَ مرّة ثانية كلّ كلمات العشّاق التي لم يسعفها سوى جدار وحده عرف سرَّ تلك القصّة، وحدث في تنقلاتي في القطار أن شاهدت جملًا عمرها يوم أو يومان كتبت في أماكن تتساءل كيف تسلّل العشّاق إلى هناك ليكتبوها وأين ركنوا سياراتهم أو درجاتهم الناريّة ليدونها ؟ وأتساءل أيضًا :

ترى أيّ خيبة في الحبّ يتغذى عليها ألمنا العاطفيّ؟

والتي يصعب علينا أن نشفى من التهامها لكلّ شيء كان لنا . .فنبوح لآذان الجدران بأسرارنا دون أن نهتم إن كانت ستذيعها لكلّ عابر فمن نحبّه لم يعد هنا ليقرأها !

.. إنها عودة استحالة الأشياء الجميلة التي حدثت! وفي مكان كان يشاركنا كلّ المواعيد.

حرية التبخيخ

قبل أيّام أيضًا، لفتتني عدّة منشورات لصفحات نشرت صورة جدار وعلّقت ” لو كان معك بخاخ ماذا كنت ستكتب عليه ؟ ” وفوجئتُ في تعليقات المُتابعين، بمدى حسرة البعض، بما قد يملأ لهم جدران مدن بأكملها .
أمّا أنا، الذي لا يعرف كيف يفرّق بين حزنه والأحزان العربيّة لو كان لي بخاخ و أردت أن أكتب في مدنٍ مهدمة كلامًا يجمع الألمين بما سيعني كلّ ساكني الحبّ والدمار لتركت هذه الجملة:
” ولا أنت هدمتني، ولا أنت مررت من حُطامي ”
والآن. . من منكم يُعيرني بخاخًا؟

فيديو مقال المُطالبةُ بحريّة “التبخيخ” !

أضف تعليقك هنا