فقه الصداقة (3) الفراق يولّد الاشتياق

الفراق يولد الاشتياق

لا شك أن الفراق عسير على أنفس المحبين الصادقين ، ولكنه نعمة على الصداقة فبدونه يجتمع الصديقان دائما، ودوام الاجتماع يورث الملال ومتى حلت آفة الملل على الصداقة أبادتها وأفنت زهرتها ، وقد فطن لذلك الأصدقاء الأذكياء فتعمدوا التفرق اضطرارا حتى يبقى الود والشوق فيشعل الشوقُ الوجدَ فيزداد الحب…………

أقلل زيارتك الصديق    ***    تكن كثوب تستــجدّه

إن الصديق يغــــمّه    ***    ألا يزال يراك عنـــــده

قال أبو هريرة رضي الله عنه : لقد دارت كلمة العرب : زر غبّا تزدد حبا – أي زر يوما واترك يوما – إلى أن سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنه اقتبس الشاعر فقال :

إن شئت أن تُقلى فزر متواترا     *    وإن شئت أن تزداد حبا فزر غبّا

( تُقلى : تُبغض )

هذا وإن هنالك نفوسا مريضة

ليست كطبائع البشر الطيبين الذين يزدادون حبا لأصدقائهم بالفراق ، فالفراق عندهم لا يولد الاشتياق وإنما يولد النسيان والإهمال فصديقه صديق اللحظة ، إن غاب عن عينه غاب عن قلبه وكأن عينه هي أداة الحب، حين يحدث الغياب يحدث النسيان فعينه لا ذاكرة لديها ، هو إنسان واقعي من وجهة نظره !! .. يقول:

لماذا أتعلق بمن أفارقه سنين طويلة؟! فالحاضر أبقى عندي من الغائب !!، وهذا الصنف لا وفاء له تتحطم الصداقة عند الارتباط بمثله ، لذلك قال ذلك الصديق المفارق لصديقه :

أغيب عنكم بود لا يغــــــيره    ***    طول البعاد ولا ضرب من الملل

وأكد على ذلك أحد الشعراء في فراق صديقه حتى لا تنأى به الظنون فقد استدرك صديقه لئلا يظن أنه من ذلك الصنف

فقال ابن المنجم :

بعدت عنكم بداري دون خالصتي  ***     ومحض ودي وعهدي كالذي كانا

وما تبدلتُ مذ فارقت قربـــــكم     ****       إلا هموما أعاينها و أحزانــــــا

وهل يسر بسكنى داره أحــــــد   ****      وليس أحبابه للـــــــدار جيرانا

( خالصتي : مودتي )

وكما قال الآخر  :

أبلغ أخانا تولى الله صحبته   ***     أني وإن كنت لا ألقاه ألقاه
وأن طرفي موصــول برؤيته  ***   وإن تباعد عن سكناي سكناه
يا ليت يعلم أني لستُ أذكره  ***  وكيف أذكره إذ لست أنساه

فكلا الشاعرين تدارك صاحبه من الشك الذي وقع في قلب واحد آخر فأراد توضيح المفهومات لصديقه فيقول :

لا تجعلن بعد داري   ***    مخسسا لنصيــــبي

فرب شخص بعيد     *****    إلى الفؤاد قريـــب

ورب شخص قريب     ******   إليك غير حبيــب

ما البعد والقرب إلا   ******  ما كان بين القلوب

حقا والله ما البعد والقرب إلا ما كان بين القلوب

وماذا يفعل اللقاء لأنفس متنافرة فرق الله بين قلوبها فلا ينفعها جمع بل يزيدها نفورا ومللا ، وإن كانت نفس واحدة تملّكها الحب والاشتياق تجاه نفس باردة لا تحس بالمشتاق إليها كان الصدام الحتمي والحطام الأكيد للصداقة على صخرة الملال والجفاء …………………

وفي نهاية الحديث عن الشوق أختم بكلام أبي منصور الثعالبي عن الشوق والحنين إلى الصديق  :

(الشوق إليك سَهير ذكري، ونَديم فكري، شوقي إليك زادي في سَفري، وعتادي في حَضَري، شوقي إليك لا يُعدى عليه صبرٌ، ولا يَستقل به صدرٌ، شوقٌ يكادُ يكون لِزاماً، وحنين يُعدُّ غَراماً، الشوق إليك أمامي وورائي، وحشو ثوبي وردائي، شوقٌ لا يفيق سقيمه، ولا يرحل مقيمهُ، شوق مقيم لا يَريمُ، وحنين لا ينام ولا ينيم، شوقٌ جَرَح جوارحي، وجَنَح جوانحي، شوقٌ براني بَري الخِلال، ومحقني مَحقَ الهلال شَوقٌ يفض الفؤادَ، ويقضُ المِهاد، نارُ الشوق حَشو ضُلوعي، وماءُ الصبابةِ ملء جُفوني، شوقي إليك شوق الرَّوْض إلى الغيثِ، والملهوف إلى الغَوثِ، عندي شوقٌ لو قسم على أهل الأرض لما كان فيهم إلا متيّم ولم يُر فيهم إلا مغرم شوق يهك الحياء ويمري من العين الماء ……………..)

فيديو مقال فقه الصداقة (3) الفراق يولّد الاشتياق

أضف تعليقك هنا