النزاهة السلبية في ظل التيه اللآشعوري

وطأة هذا المقال ستقع في مكامن هاجسك إذا كنت المقصود

عزيزي القارئ

هل لي أن أعبث قليلا بخائنة أعينك ،  ومكامن أفكارك وتساؤلاتك؟

إذا اخترت مقالاً بنفسك وبحثت في مجال يهمك بكامل إرادتك وبإختيارك واستفردت في التفكر والتمعن فقد شققت طريقاً لم يسلكه الجميع والعامة..

فالقراءة تُضفي على عقول المستنيرين لياقة ذهنية توسع مداركهم و تهذب سلوكهم و ترتقي بنضجهم و تنهض ببديهيتهم ونزاهتهم، فكثرة القراءة تدرب الذهن على تقبل الإختلاف الفكري و السلوكي الذي يتعارض مع العادة و التقليد المطلق .

تنفث خادمتنا ثلاث نفثات في وجهي كلما رأتني قد تزيّنت بجميل الهندام والثياب تعبيراً منها على إعجابها ، وتعويذة منها تباركني وتحفظني من عيون الحاسدين, استنكرت هذا السلوك في بادئ الأمر ولكن سرعان ما إعتدته واصبح تلقائيا وعادياً ، بل أصبحت أسألها عن تمام مظهري إذا لم تنفث في وجهي ،فتبدي رأياً لي بأن القطع التي أرتديها قد تحتاج إلى كيّ أو إستبدال .

ربما لا يكون الإستشهاد بمثل هذا الموقف كافياً لأنتقل بك إلىٰ ما أرمي إليه، إليك هذا  الإستشهاد:

تعيش قبيلة يانومامي وقبيلة شامان في غابات الأمازون بلا إحتكاك ببقية البشر ولا الحضارات ،فلم تتسن لهم فرص الإختلاط والتعلّم ، و مازالوا  يمارسون عادات و تقاليد قد تراها مقززة أو مرعبة قياساً على ثقافتك وعادتك وتقليدك ،يقوم أفراد يانومامي بأكل رماد موتاهم إعتقاداً منهم أن الموت ليس ظاهرة طبيعية يتعرض لها الإنسان ، إنما هي من تدبير القبيلة الخصم “شامان” ، على اعتبار أن زعيم “الشامان” يرسل أرواحاً شريرة تتخطف أرواحهم واحدةً تلوه الأخرى ، فيقومون بأكل رماد جسد الضحية ، لتخلييصها و إنقاذها بفصل الروح عن الجسدوإعطاءها الصفة الحيوية داخل بطونهم ، يمارس أفراد قبيلة يانومابي هذه العادة بكل تلقائية وبديهية و رضى دون إستنكار ، فقد خلقت العادة والتكرار من هذا السلوك المرعب نوعاً من الأعتيادية والطبيعية.

هل استنكرت طريقة تسليمهم للأمر و تلقائيتهم في ممارسته ؟ لقد إتبعوا هذه العادة من دون أن يتدبروا أو يتفكروا ، فهم يرون أن عاداتهم وتقاليدهم هي الصحيحة والسليمة و من الأحرى اتباعها تسليماً لما يفعله الأغلبية التي ولدوا عليها ، وبالتأكيد فإن أي معارضة ستكون شاذة ومنافية للعرف والعادة ، وسيتّهم كل من يستنكرها بالجهل والانسلاخ من الهوية  و سيُنْعت بالغرابة و سيعيش في محيطه منبوذاً ومغترباً .

هل يعقل أن كل ما ولدت عليه هو الصحيح والفطري بمحض الصدفة؟ هل العادة التي ولدت عليها هي الصحيحة والسليمة؟ هل تقليدك الأعمى لآباءك وأجدادك في محله ؟

أتعتقد أنك مصيب لأنك تفكر وتتدبر؟

أم لأنك وجدت آباءك وأسلافك كذلك يفعلون ؟

قال تعالى في كتابة الحكيم في سورة يونس الآية 36

(وما يتبع اكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يُغني من الحق شيئا)

لست أحاول بث الشكوك في نفسك ،ولا دس النكران في عقلك ،لكنني أحاول أن أصور لك مفهوم العادة والتقليد من عدسة خارجية و محايدة و أطلب منك أن تتدبر وتتفكر في كل عادة وتقليد ولدت عليه هل تراهُ في محله المنطقي والزمني السليم ؟ أم أنه لم يعد يمت  في المنطق بصلةٍ ولا مكان له في زمننا الحاضر ؟

تفشت عدوى بعض العادات و التقاليد “المنحرفة منطقيا” في ما بيّنا وجعلت من الغير منطقي منطقيا، و من الغير ملائم ملائماً ، و من الغير معقول معقولاً ، و غير المناسب مناسباً ،نمارسه بتلقائية تامة.

إذا تسآءلت يوماً عن أهلية أو صحّة أي مسألة أجمع الكل بأنها محسومة فقط لأنها متبناة من رأي الأغلبية واصبحت تمارس بكل بديهية لأنها جرت كما تجري العادة بدون تفكير او تفكّرمسبق ، فاعلم بأنك بخير .

تكون البداية في تساؤلك و إستغرابك و تأملك لبعض المسلمات المجتمعية.

و تكون النهاية في تجاهلك لكل هذه الإستغرابات والتساؤلات و تسليم عقلك لمندوبي فكر الأغلبية .

بكل أسف…..

نحن نعيش في إطار مجتمع ينبذك و يستأصلك من دائرة العقلاء ، إذا حكمت عقلك في كل مسلمات الحياة الاجتماعية اليومية .

و يجعل كل من إستفتى عقله وقلبه في هذه الأمور شخصاً مجبراً على أن يكون متحفظاً على كشف مكنونات فكره ،  و أن لا يجرؤ على التعبير عن إستغرابه أو إستنكاره لهذه الممارسات إذا لم تجار رأي الاغلبية و لم تراع الفكر العام فستجرم وتنعت بالجهل ، ستوضع في ميزان أعرج ، وتهوي انحدارا ً في كفة لوحدك ، وستعلو كفة الغالبية العظمى.

حريّة من غياهب الجهل , هذا كل ما تحتاجه روحك

قيمة من التقدير ، هذا كل ما يحتاجة عقلك

. قال سبحانه وتعالى في سورة الأنعام  في الأية ( 116 )

(وان تطع اكثر من في الارض يضلوك عن سبيل الله ان يتبعون الا الظن وان هم الا يخرصون)

لم أتسم صوت الأغلبية بالصحة ؟ لم أتسم رأي العامة بالصواب ؟

قد يعلو أحيانا صوت الجماعة بلا عقل فرأي العامة ليس بالضرورة أن يكون “سليما” أو بمعنى أدق “مناسباً ” فقد يتسم صوت الأغلبية بالأمعية ،  و هي خلق غير محمود نبذه رسول اللهﷺ  بقوله

”  ولا تكونوا إمعة

قد يتفق الأغلبية على مكيدة وقد يتفق الأغلبية على مصلحة ، كما قد يتفق الأغلبية على جهل و قد يتفق الأغلبية على ضلال .

من أعطى الناس الصلاحية بتشويه الاختلاف ؟وتجريم التفرد والتجدد ؟

عندما أتسم الأقوام بالجهل والضلال المجمع عليه واجمعوا على شنائع الممارسات وتطبيع الفضائع  وتلقائية الأخطاء ، أرسل الله لهم رُسل متفردين بفكر وتعاليم جديدة تنقذهم من تخبط الأمعية والتقليد المقدس والتسليم الأعمى للعادة ناهيكم عن تقديسهم لإعادة أمجاد إمعيّتهم.

في ظل توفر كل سبل المعرفة والتعليم والتثقيف إلا أننا نعاني من محدودية الاطالع والامتناع عن البحث و التفّكر ما يستوجب علينا تجاهل أو طمس الآراء العامة والغير مبنية على خلفية أوثقافة موثوقة فقد نقل عن ابن مسعود أنَّه كان يقول :

(أغد عالما او متعلما ولا تغد إمعة فيما بين ذلك)

فتكميم العقول” و”تكميم الأفواه” رحلتان لوجهة واحدة فاذا كممت العقول وجب تكميم الأفواه.

لأن العامة سينطقون بعقول مكممة تكرر وتعيد إنتاج نفسها ..

فاذا كان القول ان ” التعميم لغة الحمقى”  فأقول ان ” التعميم لغة التكميم ” لست أُعمم كلامي على الجميع, ولست اعمم كلامي على كل سلوكياتنا المجتمعية إذا كان القول ان “التعميم لغه الحمقى” ، فلم لا نضع احتمالية ان تكون لغة العامة هي الحمقاء في بعض الأحيان ؟

يكاد تكميم العقول أن يصبح مرضاً عُضال لا طّب فيه و لا علاج طالما أتسم الناس بالرجعية والانقياد للخلف

من أعراض تكميم العقول:

-أن يستنكر الناس ان التفكر و التّدبر في البديهيات السلبية في الحياة اليومية .

– أن يؤمن الفرد أنه يستحيل أن يكون وحده على حق على إعتبار أن العامة تقول عكس ما يفكر به

– أن يهاب الناس أن يفكروا بإستقلالية و أن يرسوا على قناعات تخالف القناعات التي ولدوا عليها .

– أن ينظروا لكل ما يخالفهم نظرة شفقة و إنتقاص و اعتباره خروجاً عن الصحة والتقليد .

– أن ينظروا لما وجدوا أسلافهم عليه على أنه نهج يعودون للخلف به ليعيشوا يومهم ومستقبلهم .

مناظرة بين لويس هاي وجبران خليل جبران

تقول لويس هاي في كتابها  ”  life loves you  “

على ضوء كلمات جبران خليل جبران في كتاب ” النبي”

بنظرة معاكسة نقلت ما أراد جبران خليل ان يوجه للآباء , الي رسالة معاكسة مؤجهه لللأبناء جاء مضمونهما كالتالي…

جبران خليل جبران:

أولادكم ليسوا لكم بل هم أبناء الحياة المشتقة إلى نفسها،

بكم يأتون إلى العالم, ولكن ليس منكم

ومع أنهم يعيشون معكم، فهم ليسوا مُلكاً لكم

تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم،

ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم

لأن لهم أفكاراً  خاصة  تقطن في مسكن الغد،

الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى و لا في أحالمكم

و إن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم و تحاولون عبثا أن تجعلوهم مثلكم و لكم أن تجاهدوا و ستفشلوا لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء

ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس

الرسالة المقابلة لها بقلم لويس هاي

آباءكم ليسو لكم بل هم أبناء الحياة المشتقة الي نفسها

بهم أتيتم الي العالم ولكن ليس منهم

و مع إنكم تعيشون معهم فأنتم لستوا ملكاً لهم

تستطيعون أن تاخذوا منهم محبتهم

ولكن لا تستطيعون تبني أفكارهم

لأن لكم أفكاراً خاصة بكم تسكن الغد

الذي لا و لن يستطيعوا تزويره ولا حتى في أحلامهم

أو لكم أن تجاهدوا حتى لا تصيروا مثلهم

فالحياة لا تعود للخلف ولن تتفق مع حياة الامس

لماذا نسمي التطوير انسلاخ من الهوية ؟

لماذا نسمي الرجعية و التأخر إنسلاخاً من الحاضر ؟

أليس من غير المعقول أن نعود أدراجنا لزمان مضى و نطمس و نهمل هويتنا الحديثة و فكرنا الجديد؟

لماذا نلبس الحاضر بلباس الماضي الذي لم يعد مناسباً ولا مالائماً له ؟

إلى متى نعاني من فوبيا التغيير و رهاب التطور؟

الإستنكار ، كل الاستنكار هو أن نستنكر العودة والتراجع للخلف والتكرار والتقليد .

كلامي السلبي و أسلوبي الإنتقادي لا ينفي وجود الخير و الصالح إنما يُعلل ضياعه مني وبحثي الدؤوب عنه .

فيديو مقال النزاهة السلبية في ظل التيه اللآشعوري

أضف تعليقك هنا