فقه الصداقة (6) أخي أنا أنت !

أخي أنا أنت !

إنني لم أجد قصيدة تفيض بالحب ومعاني الأخوة مثل قصيدة محمد التاجي التي يقول فيها :

أخي في فؤادي وفي مسمعي        وفي خاطري أنت والأضلـــــــع ِ
أخي في حناياك يسري هواي         وروحك في الكون تسري معي
أخي إن بسمت فمِن مبسمي        وإن أنت نُحت فمن أدمعـــــــي

أخي إن تراءى لعيني الصـــباح         تبينت نورك في المطـــــــــــلع ِ

أخي أنا أنت فمن منهــــــــــل          سقينا الحياة ومن مشــــــــرع
أخي أنا أنت فآمالـــــــــــــــــنا         وآلامنا فِضن من منبـــــــــــــــع ِ

أخي نغمٌ أنت يحلو بــــــــــــه          فمي ويهش له مسمعــــــــــي

أخي خذ مكانك فوق النجـــوم          وقف أنت والشمس في المطلع ِ
ترنّمتُ باسمك في خلوتــــــي        رنيم الصدى ساحر الموقـــــــــع ِ
أخي حث ركبك إن الزمـــــــان          عدو البطيء أخو المســـــــــــرع ِ
أخي مزّقِ الليل إن الصبــــــاح          إذا أنت أشفقت لم يطلـــــــــــع ِ
غريبان نحن بهذا الوجـــــــــود           كما اغترب الزهر في البلــــــقع ِ
أحس بنجواك في الضارعــــين         وتصغـــي لنجواي في الخــــشّع ِ
وأرقب دمعك في الساجـــدين         يسابق دمعي مـع الركـّــــــــــــع ِ
أخي لن أحس بما لا تحـــــس         ولست بواع ٍ سوى ما تــــــــعي ِ
أخي في الرخاء أخي في الرجاء      وفي المطمأن وفي المفــــــــزع ِ

 

إن كلمات تلك القصيدة لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام فبين ثناياها فكرة إنسانية سامية ومعنى فلسفي راق يعد في أسمى منازل الحب أنا أنت !! لا فرق بيننا قد نفترق إلى جسدين ماديين ،لكن الأرواح متمازجة فهواك يجري في جسدي ، وروحك مرافقة لحسي لا تغيب عني بسمتي بسمتك ومناحتك مناحتي أراك بين النجوم إذا نظرت إليها وإذا طلعت الشمس خلته نورك الذي ينير حياتي  ، إحساسي إحساسك دمعتي وأنا ساجد ترافق دمعتك وأنت مع الله ، إنها المعية الروحية ……. درجة سامية وحس عال يقودنا إلى نظرية من أرفع نظريات الحب والإخلاص ……. نظرية الأنا !!

نظرية الأنا ..

ما الفرق بين روحين امتزجا معا بماء الحب والوفاء ؟! ……..

وما الفرق بين قلبين امتزجت دماؤهما فصارا يضخان سائل الحياة عبر أبهر واحد إلى جسد واحد لتبقى روح واحدة حية زكية ؟؟……..

و ما الفرق بين عينين تبصران حقيقة واحدة وتعيان الحياة وعيا لا تختلف عين فيه عن الأخرى ؟!

إنهما جسدان في المادة جسد واحد في الجوهر…….

إننا حين نتدبر ونتفكر نجد أنه لا فرق إلا في المظهر  …………..

إنهما شيء واحد ظنه الماديون شيئين ووجده العارفون شيئا واحدا ، إنه اتحاد الفكر والغايات والوسائل بل اتحاد الأرواح وامتزاج الأنفس سمّه حلولا واتحادا إن كنت صوفيا …. سمه تناسخا إن كنت هندوسيا ….. سمه تقمصا إن كنت درزيا ……….  سمه ما شئت وتبقى الحقيقة لغزا محيرا لمن لم يعرفوا معنى الحب ولم يذوقوا حلاوة الإخلاص وسرا خفيا بين قلبين متحدين لا يفرق بينهما الموت نفسه !!!!

كمثل الجسد الواحد !

إن محمد التاجي حين كتب قصيدته لم يكن بدعا من الشعراء والأدباء في وصفه لمبدأ الأنا ، فقد اقتفى أثر سلفه من المحبين الصادقين ولم لا يفعل وسيد المحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صور ذلك الأمر في الحديث الشهير ( مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى من عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ) فالمؤمنان المتحابان الصادق إيمانهما شيء واحد وترجمة ذلك أن ألم أحدهما يؤلم لآخر وهي قضية إحساس الصديق بصديقة وسوف نتناولها بالتفصيل فيما بعد ، فنظرية الأنا  لها تطبيقاتها العملية التي تمثل الانعكاس للإيمان بهذا المفهوم .

ولما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أفهم الناس لخطابه نجدهم ترجموه بنظرية الأنا ، فهذا أبو بكر الصديق  – فيما روي عنه – كتب لرجل كتابا في شيء جعله قطيعة له ، أي وهبه إياه ، فحمله الرجل إلى عمر ليمضيه فلما نظر فيه عمر بزق عليه ومحاه ، فعاد الرجل مستعرا إلى أبي بكر فقال : فعل عمر كذا كذا ، والله ما أدري أأنت الخليفة أم عمر ؟؟ فقال أبو بكر : هو إلا أنه أنا !!!

إن تلك الفلسفة قديمة قدم الحضارة

و قد أتي الإسلام ومن بعده الشعراء والأدباء فصدقوها وآمنوا بها ؛ فهذا أرسطاطاليس معلم و مربي الإسكندر سئل : من الصديق ؟ قال : إنسان هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك !!

وتابع المتصوفة من المسلمين ذلك المعتقد حتى قيل لصوفي : من الصديق ؟ قال من لم يجدك سواه ولم يفقدك من هواه !!

بابي من هو منى في الحشـا         ليته يوماً على عيني مشـــى

روحه روحي وروحي روحــــــه        إن يشأ شئت وإن شــئت يشا

وسيد فلسفة الحلول والاتحاد الحلاج لم يقصر نظريته على الحب الإلهي حتى تعداها إلى حب الصديق  فقال :

أنا من أهوى ومن أهـــوى أنا          نحن روحان حللنا بدنـــــــــا

نحن مذ كنا على عهد الهوى         تضرب الأمثال في الناس بنا

فإذا أبصرتني أبصرتـــــــــــــه         وإذا أبصرتــــــــه قلــــــت أنا

وله:

جُبلت روحك من روحـــــي كما         يجبل العنبر بالمسك العبق

فإذا مسك شيء مســــــــني         فإذا أنت أنا لا نفتــــــــــرق

 

◄وفي مرتع الشعراء والأدباء  نجد ذلك الفكر خصبا ، وانظر لقول الثعالبي :

أبا سليمانَ سِرْ في الأرضِ فأَقِمْ         فأنتَ عندي دَنَا مثواكَ أو شطَنَا

ما أنتَ غيري فأخشى أن أُفارِقَهُ        فديتُ روحَكَ بل رُوحي فأنتَ أنا

( شطن : بعد )

وإذا نظرنا إلى ابن الرومي وعلى رغم حياته البائسة التعيسة وعلى رغم نظرته التشاؤمية الكفيلة بإقعاده ثلاث ليال في بيته بلا طعام أو شراب تشاؤما من رجل أحدب يقعد على باب بيته ! نجده لم يحرم من الصديق الذي ليس بينه وبينه فرق فهي نظرية الأنا كذلك

قال:    ليس بين الصديق والنفس فــــرق     عند تحصيل قسمة الأشـــــــياء

يا سمي الوصي يا شق نفســــــي    وأخي في الملمة  النكــــــــــراء

يا أخا حل في المكارم والســـــــؤدد     أعلى محل أهــل السنــــــــــاء

والقصيدة طويلة في وصف صديقه لعلنا نتعرض لها فيما بعد ولكنه هنا أدرك أنه وصديقه شيء واحد لا يتجزأ ولا ينفصل وعبر عن ذلك بلفظ فريد وهو ( يا شق نفسي ) فما أجمله من تعبير !!

وفي اختلاف الأجسام واتحاد القلب قال شاعر :

بنفسي أخ لي في الأمور مساعد         فلي وله جسمان والقلب واحد

إذا غاب عني لم أجد طعـــــم لذة         لأن فؤادي شطره متباعــــــــــد

 

وفهما للفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجسد الواحد قال الشاعر :

وما المرء إلا بإخوانـــــــــــه      كما تقبض الكف بالمعصم

ولا خير في الكف مقطوعة     ولا خير في الساعد الأجذم

 

ولعل نظرية الأنا عند بعض الشعراء أعطت تفسيرا منطقيا للشوق للصديق واشتعال النفس شوقا للقائه فصديقك هو نفسك فكيف تستغني عنه ؟!              كيف صبري عن بعض نفســــــي       وهل يصبر عن بعض نفسه الإنسان

حتى الأعراب الجفاة

لم ينسوا حظهم من الصداقة حتى وصلوا لنفس الفكرة فيقول أعرابي عن الصديق : اتخذ من ينظر بعينيك ويسمع بأذنيك ويبطش بيديك ويمشي بقدميك ، ويحط في هواك ولا يرى سواك  ، اتخذ من إن نطق فعن فكرك يستملي و إن هجع فبخيالك يحلم ، وإن انتبه فبك يلوذ ، وإن احتجت له كفاك وإن غبت عنه دعاك ..

وقيل لأعرابي : كيف يكو ن الصديق : قال مثل الروح لصاحبه يحييه بالتنفس ويمتعه بالحياة ويريه من الدنيا نضارتها ويوصل إليه نعيمها ولذتها !!

ونورد هنا قصة عجيبة

ذكرها أبو حيان التوحيدي تصف ظاهرة عجيبة بين الأصدقاء ليست إلا ترجمة لنظرية الأنا فيقول :قلت لأبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني إني أرى بينك وبين ابن سيار القاضي ممازحة نفسية وصداقة عقلية ومساعدة طبيعية من أين هذا ؟؟وكيف هو ؟؟فقال يا بني اختلطت ثقتي به بثقته بي فاستفدنا طمأنينة وسكونا لا يرثّان على الدهر ولا يحولان بالقهر ،ومع ذلك فبيننا بالطالع ومواقع النجوم مشاكلة عجيبة وظاهرة غريبة حتى إنا نلتقي كثيرا في الإرادات والاختيارات والشهوات والطلبات ، وربما تزاورنا فيحدثني بأشياء جرت له بعد افتراقنا من قبل فأجدها شبيهة بأمور حدثت لي في هذا الأوان حتى كأنها قسائم بيني وبينه أو كأني هو فيها أو هو أنا !! وربما حدثته برؤيا فيحدثني بأختها فنراها في ذلك الوقت أو قبله بقليل أو بعده بقليل ……………….

 

أقول : إن هذا ليس عجيبا ولا مستغربا فكل من جرب الحب يعرف ذلك ، فكم مرة يفكر المحب بأخيه فيفجأ بأنه يتصل به على الهاتف ، فيتهلل وينشرح ويبادره قائلا : لقد كنت أفكر فيك الآن مشتاقا لرؤيتك ففوجئت باتصالك في نفس اللحظة ………………

في نفس اللحظة التي فكرت فيها في صديقك كان يفكر فيك ، أليس ذلك واقعا يحدث للمتحابين ؟؟!!

إن ذلك سر لا يعرفه إلا من ذاقوا حلاوة الحب فلا تفشوه أيها المتحابون لئلا يصفكم الناس بالجنون !! ومن صدقكم فلن تسلموا من حسده وتمنيه انقلاب الأحوال ……..

بعد كل هذا أيكون مستغربا أن يقول الصديق لصديقه حبيب قلبه وتوأم روحه وشق نفسه: يا أنا ؟!

فيديو مقال فقه الصداقة (6) أخي أنا أنت !

أضف تعليقك هنا