لقاء مع ملاك الموت #قصة

لقاء مع ملاك الموت..!   ” قصة قصيرة نصف واقعية “

الذهاب الى العمل

إرتدى ملابسه الشتوية بألوانها القاتمة المفضلة لديه.. أمسك بزجاجة العطر ذو العبق العتيق وسكب عدة نقاط في يده اليمنى ثم نحى الزجاجة جانباً، سقط غطائها الثقيل على أرض الغرفة الخشبية محدثاً دوياً قاسياً بدد هدوء الساعات الأولى من النهار.. تردد لحظات قبل أن ينحني ليلتقطه، قام أولاً بفرك كلتا يديه وإعتصر بداخلهما قطرات العطر حتى تبللت بشرة راحتيه ثم حركهن بهدوء على رقبته قبل أن يقرب يده من أنفه ليتنسم رائحة العطر الغامض..  إبتسم بلا سبب مفهوم، ثم إنحنى ليلتقط الغطاء المسجى على أرضية الغرفة.. لاحظ وجود خيوط عنكبوت دقيقة تمتد بين ثنايا حقيبة السفر المنهكة، وتلمع في ضوء شعاع الشمس المتسلل من شرفة الغرفة الذي لوحت بشرتها الأتربة العالقة في ندى الصباح المستلقي بإسترخاء على جدار النافذة الخشبية..

أحكم الغطاء بقوة على زجاجة العطر كمن يقبض بيديه على رقبة أحدهم ليخنق أنفاسه.. نظر في المرآة وتحسس ذقنه فأحس ببعض شعيرات في طور النمو الأول لوحها الشيب وهى لم تولد بعد..  حرك رقبته قليلاً ليتأكد من إندمال جرح كان قد أحدثه أمس في جانب عنقه بمساعدة شفرة الحلاقة العتيقة التي مازال يصر على إستخدامها بالرغم من تهالكها..

علق حقيبته السوداء على كتفه الأيمن كعادته، وخرج إلى عالمه ليبدأ يوماً جديداً بين شعوره المتكرر مؤخراً بالكآبة والتوجس، وبين محاولة مبتسرة للتفاؤل باليوم الجديد..  في طريقه للعمل قام بتحية صديقه عامل النظافة في الشارع العمومي الغارق في الأوحال والقاذورات بفعل رياح الليلة العاصفة والممطرة أمس، راوده شعور مريب لم يستطع تفسيره.. الشمس مشرقة على إستحياء،  وحركة البشر منتظمة بالرغم من الوجوه التي تعلوها الهموم.. لم يعرف ما الداعي للقلق؟  إستمر في طريقه، ثم توقف لحين رؤية ضوء الإشارة الأخضر كي يعبر الشارع في أمان للنقطة التي سيستقل منها تاكسي ليصل لمحل عمله..  لاحظ وجود سيارة إسعاف وسيارة شرطة متجاورتين على الجانب الأخر من الطريق لكنه لم يهتم، فالمشهد لم يبدو غريباً للوهلة الأولى..  عبر الطريق وتقابلت عينيه مع عيني سيدة أربعينية ممشوقة ترتدي سروال ضيق أزرق اللون وقميص مزركش يعلوه معطف رمادي داكن، وقد غطت وجهها الأصباغ.. إبتسم في داخله حيث أنه يقابلها يومياً في نفس النقطة تقريباً وكأنه على موعد مستديم معها.. شعر وكأنها أدركت ما يفكر فيه، فنظر للأرض الموحلة مفتعلاً الخجل وإستمر في طريقه..  كان الرصيف مغطى ببعض الأحجار المكسورة فحاول القفز بينها كي يتمكن من العبور دون أن يغوص حذائه اللامع في أوحال الطريق.. وما إن عبر إلى الرصيف الأخر وإقترب من سيارتي الإسعاف والشرطة حتى صدمه ما شاهد..!

حادث في الطريق

تلعثمت قدماه وكاد أن يسقط حين رأى جسداً مسجى على الأرض تكسوه بعض أغطية صوفية زاهية الألوان يبدو أن سكان المنازل المطلة على المشهد المفجع قد تبرعوا بها لتعاطفهم مع من هو ملقى الأن تحتها الأن ، أو ربما فقط لعدم إحتمالهم لرؤية قسوة مشهد الموت.. تطلع بعينيه بين الأقدام المحيطة وإستطاع مشاهدة يد رمادية متشنجة تخرج بين الأغطية وتشير إلى السماء..  لم يحتمل إطالة النظر وإرتبكت مخيلته للحظات، فأطلق لساقيه العنان ليغادر المكان مسرعاً، لكنه لم يستطع مقاومة الفضول وتكرار محاولة إختلاس النظر، فتبين رجال الإسعاف يقفون في كسل وعدم إكتراث، وكان أحدهم قد أشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها بعصبية في إنتظار أوامر رجال الشرطة لكي يسمحوا لهم بحمل هذا الجسد مجهول الهوية، وربما المصير.. وكان هناك ضابطان شابان حديثي الرتبة إعترتهما حالة من الإرتباك وهم يقومون بمساعدة بعض الجنود بسؤال المارة أسئلة لم يستطع تبينها ربما لبعد المسافة..  لمح بعينيه سيدة مسنة في ملابس النوم تطل من شرفتها وتحاول بجدية أن تستل النظر داخل المشهد وكأنها تنتظر النهاية في فيلم من أفلام الرعب..

إنعطف في أول شارع جانبي، وشعر بأن سرعة خطواته لا تتناسب مع الألم الذي يعانيه في مفصل قدمه المصاب.. تسائل في داخله إن كان يسرع الخطو كي يهرب من المشهد، أم ليلحق بالعمل في موعده كعادته..؟  لم يستطع الإجابة لكنه أكمل طريقه سائراً وأحس بشئ من الإرتياح بعد أن إبتعد قليلاً، ولا يدري لماذا أحس في أذنه بدوي فظيع مكتوم يشبه إلى حد كبير صدى صوت غطاء زجاجة العطر وهو يرتطم بالأرض هذا الصباح..!

عبر بجوار مسجد كانت إدارته قد إغتصبت مساحة شاسعة من الرصيف وأحكمت حولها سوراً أجبر المارة على السير في قارعة الطريق معرضين حياتهم للخطر..  شعر بشئ من الوجل وهو يلتفت ليتأكد من أنه لا توجد سيارات مسرعة خلفه قد تدهسه فيضطر سكان المنازل المجاورة إلى التبرع بمزيد من الأغطية ليخفوا معالمه إذا ما كانت نهايته قد تحددت كهذا الشخص الذي تركه منذ دقائق وهو لا يعرف عنه إلا مشهد يده الرمادية المتشنجة والتي تشير إلى السماء..  نظر إلى نهاية الشارع الذي ينعطف يساراً فلمح شخصاً ضخم البنيان في عباءة قاتمة بنية اللون، لكنها تبدو جديدة وتضفي على صاحبها شئ من الوقار والهيبة.. كان يقف إلى جوار حائط أبيض اللون متوسط الإرتفاع، وهناك طفل صغير في ملابس ملونة متسخة يقوم بصب الماء من وعاء معدني لامع على يديه كي يغسلهما.. داهمه بعض الفضول فإقترب حتى رأى أن الماء الذي يتساقط من يدي الرجل له نفس لون اليد الرمادية المتشنجة..  حقاً.. إنه نفس اللون لا ريب، تسمر مكانه للحظات، ثم وجد نفسه يقترب من الرجل ويحدثه قائلاً:

حوار مع الرجل الغريب…

من أنت.. إنك غريب عن المنطقة..؟

رد الرجل في هدوء: ولماذا يهمك أمري إلى هذا الحد وأنت لا تعرفني..؟

قال: نعم، أنا مهتم بذلك جداً.. خصوصاً أنك لا تبدو مثلنا ولا تتصرف كما نفعل..!

إبتسم الرجل ونظر إليه نظرة عميقة أحس الأخير بأنها طوقته وإخترقت جسده بقوة حتى أنه إرتعد من فرط قوتها..

قال: أرجوك يا سيدي.. قل لي من أنت، أشعر أننا تقابلنا مرات عديدة لكني لا أكاد أتذكر أي شئ..!

قال الرجل: نعم تقابلنا.. لكنك خشيت أن تراني، فأنا أظهر في صور كثيرة.. فقط لمن هم مؤمنون بالأقدار ولا يخشونها..

قال: إذاً أنت هو..  أستحلفك بأن تصدقني القول.. هل إنتهيت لتوك من أحد مهماتك..؟

قال الرجل بإقتضاب: نعم..!

قال: طالما رأيتك في صور مختلفة وأنت في رحلة عودتك إلى هناك بعد إنجاز مهامك.. لم تأتي أبداً على موعد معلوم لنا، وكانت مغادرتك دائماً في السر.. تخلف ورائها فقط أحزان ومآسي وصرخات وعويل..  تجئ فتفتح الأرض صناديق الموت وما تلبث أن تغلقها على الأجساد بعد مغادرتك.. وتحمل أنت معك أعز ما نملك من الأرواح والأعمال والنوايا والذكريات..  تُرى كم مرة قمت بتلك الرحلة مؤخراً..؟ ألم ترهقك المسافات.. أحسبك تقوم الأن بالمغادرة قبل أن تغلق الأرض صناديقها.. فمهامك كثرت مؤخراً حسب الإحصائيات والأرقام التي لا تكف عن حصارنا بالمآسي والأحزان وإحتضار الأمنيات..!

الحياة رحلة قصيرة

إبتسم الرجل وقال في هدوء: هون عليك.. مهامي هي المصير والحق الذي تخشون الإعتراف به.. ألم تؤمروا مسبقاً بالإستعداد لهذا..؟ أنتم تعلمون حقيقتي جيداً، ولكنكم تتصنعون الهوان حين قدومي، وما تلبثوا أن تستدعونني مرات ومرات بتكرار أفعالكم الحمقاء وطغيان الشر لدى كبرائكم.. أنتم لا تخجلون من شهوانيتكم المفرطة وتكذبون على أنفسكم حين تضطرون لمواجهة الحقيقة.. أحسب أنكم لا تحتاجون إلا للتخلص من الكبر والعناد، وأن تتريثوا قليلاً قبل أن تقرروا التلاعب بالأقدار وتزييف الواقع.. فالحياة هي جزء لا يتجزأ من مصائركم، فقط أنتم لا تعلمون قيمتها حين تصموا الأذان وتخرسوا الألسنة مع سماع قول الحق..  ودعني أسألك إذا سمحت لي: ماذا فعلت أنت منذ دقائق..؟ ببساطة لقد هربت من مواجهة المصير، ولم تبد مجرد المحاولة لكشف السر الذي أكتفيتم جميعكم بستره بالأغطية المزركشة فقط لأنكم لا تحتملون مواجهة حقيقته التي أحملها معي كلما قدمت إليكم..  إنها أفعالكم يا عزيزي لا شئ أخر..!

قال: أنت محق في كل ما ذكرت.. نحن ضعفاء، لكننا ندعي القوة والذكاء والحكمة..  قلائل هم من إستحقوا صحبتك بالرغم من كثرة رحلاتك..  هل تسمح لي بأن أقوم بواجب الضيافة أو أن أصحبك في طريق العودة لأودعك..؟

قال: أشكرك فأنا لا أطرب لعبارات الوداع الزائفة والمزركشة.. لكن ربما في وقت أخر حين تكون أنت على قائمة أعمالي…

فيديو مقال لقاء مع ملاك الموت #قصة

أضف تعليقك هنا