نحو رؤية جديدة لتدريس اللغة العربية، الدرس اللغوي نموذجا

1. على سبيل التمهيد:

تتعرض اللغة العربية منذ أمد طويل لهجمات دائمة تروم تحجيمها والنيل منها. وقد ازدادت هذه الهجمات حدة وشراسة مع بداية الألفية الثالثة بعد أن انتشر الأنترنيت وتقوت العولمة وأصبح العالم قرية واحدة. والأخطر في هذه الهجمات التي تتعرض لها هذه اللغة هو أنها لا تنحصر فيما يقوله الأجنبي وحده، بل تتجاوز ذلك نحو أبناء هذه اللغة الذين أشبعوها رجما وجلدا وتنكيلا، عن وعي أو غير وعي، متهمين إياها بالعقم وعدم قدرتها على الانخراط الإيجابي في البحث العلمي وتنمية المجتمع. ورغم ما يميز هذه اللحظة التاريخية من إقبال ملحوظ على تعلم هذه اللغة ودراسة ثقافتها من قبل غير الناطقين بها، فإن سهام العداوة والرفض ظلت تلاحقها في كل مناسبة وفي كل محفل… وإن المتأمل في كل ما يكتب أو ينشر أويلقى كمحاضرات حول هذا الموضوع، لا شك أنه واجد نفسه داخل شبكة من الأسئلة التي لن يخرج منها بجواب شاف، غير أنه قد يخرج باستنتاج عام مفاده:
أولا: أن هناك فئة تجمع بين الأجنبي وغير الأجنبي، وهؤلاء على اختلاف انتماءاتهم ووجهات نظرهم يتغيون من آرائهم وطروحاتهم، بنية مبيتة، تهميش هذه اللغة والنيل من قدراتها.
ثانيا. وهناك فئة ثانية تجمع في معظم تركيبتها أبناء هذه اللغة.. غايتهم فيما يقولون تحديث هذه اللغة والارتقاء بها نحو مراتب اللغات الحية.
في أفق البحث عما يمكن أن يساهم في تطوير اللغة العربية وعصرنتها، نطرح سؤالا يستشف من آراء وطروحات الفئة الثانية، وهو: كيف يمكننا تحديث هذه اللغة والارتقاء بها إلى مراتب اللغات الحية؟

2. نحو استراتيجية واضحة لتدريس اللغة العربية:

2.أ. واقع تدريس اللغة العربية بالمؤسسات التعليمية:

نعيد السؤال الذي طرحناه سابقا، وهو:كيف يمكننا تحديث هذه اللغة والارتقاء بها إلى مراتب اللغات الحية؟ تحتم علينا الإجابة عن هذا السؤال، الانطلاق في مقاربتنا من مبدأ عام يؤمن بأن التربية والتعليم هما المدخل الأساسي لتطوير اللغة وتحديثها حتى تصبح أداة للبحث العلمي وتنمية المجتمع. وسنركز خلال هذا المقال على تدريسية اللغة العربية، متخذين درس العدد نموذجا.
يعاني درس اللغة العربية بالتعليم المدرسي، بشكل عام، من تعثر واضح تتجلى مظاهره في نفور التلاميذ وعدم إقبالهم على مسايرة الدروس نظرا لعقم المناهج وإغراقها في التلقين والحفظ، ولعل سبب ذلك راجع بالدرجة الأولى إلى غياب الوعي بتدريسية اللغات، إضافة إلى غياب رؤية واضحة لتدريس اللغة العربية بما تنماز به من خصوصيات صوتية ومعجمية وصرفية وتركيبية ودلالية.
وكثيرا ما انشغلت، بصفتي مفتشا تربويا، بما ينجزه المدرسون وهم يحاولون تمرير مفهوم لغوي ما لتلامذتهم بطريقة تنم عن غياب الوعي بديداكتيك المادة ومنطقها الداخلي، وكثيرا ما استوقفني الجهد الكبير المبذول من قبل هؤلاء المدرسين، مقابل ضعف التعلمات والمكتسبات التي يجنيها المتعلمون عند نهاية كل درس! وكثيرا ما انتابني شعور بالإحباط وخيبة الأمل لحظة اطلاعي على إنجازات المتعلمين خلال الكتابات الإنشائية والتقويمات الصفية والاختبارات الدورية، وكثيرا، وكثيرا، وكثيرا…أمام هذه المشاهد المخيبة للآمال التي عاينتها عبر سنوات عديدة و مستويات مختلفة، ظل يشاكسني ويقلقني سؤال واحد، هو: أين يكمن حل هذه الإشكالية؟
ولاحظوا معي أيضا، إذا ما انتقلنا إلى الفصول الدراسية لمعاينة أحد الدروس/درس العدد نموذجا، فإننا سنشاهد ما يلي:
ينطلق المدرس في غالب الأحيان، بعد تمهيد لتهيئة المتعلمين للانخراط في بناء تعلماتهم بشكل ذاتي، من أمثلة دونت مسبقا على السبورة..ثم بعد قراءتها وإدراك معانيها، يبدأ في تفريغها داخل جدول توضيحي بمشاركة تلامذته، يبرز فيه علاقة العدد بالمعدود مع الواحد والاثنين، وفي حالات الإفراد من ثلاثة إلى تسعة، ومع لفظ العشرة، وفي حالة التركيب من أحد عشر إلى اثني عشر، ومن ثلاثة عشر إلى تسعة عشر، وفي حالة العطف من واحد وعشرين إلى تسعة وعشرين وما شابهها، ومع ألفاظ العقود والمئة والألف والمليون… وهكذا تزدحم الأمثلة على السبورة وفي أذهان المتعلمين، يحس المدرس بالعياء، وقد يستعصي عليه أحيانا إتمام الدرس وفق الزمن التربوي المحدد له، ويتشتت ذهن المتعلم بين عدة قواعد، يستعصي فهمها وإدراكها، فيضطر إلى الحفظ والترديد والغش أحيانا، لعله يحظى برضا مدرسه وعطف أسرته. إننا في الحقيقة أمام إشكالية مزمنة، فكيف يمكننا حلها أو بالأحرى التخفيف من حدتها؟!

2.ب. الاستراتيجية الجديدة لتدريس اللغة العربية، معالمها وسبل تنزيلها.

يبدو من خلال الصورة التي رسمناها لواقع تدريسية اللغة العربية بالمؤسسات التعليمية، أن درس اللغة العربية يعاني من تعثر كبير ينعكس سلبا على مستوى التلقي لدى المتعلمين، وبالتالي على مكتسباتهم وتعلماتهم. وللخروج من حالة التعثر التي يعانيها هذا الدرس، نقترح استراتيجية جديدة نأمل أن تكون الوسيلة الفضلى للانتقال بتدريسية اللغة العربية من حالة الإخفاق إلى حالة النجاح و التفوق. إذن، فما معالم هذه الاستراتيجية؟ وما سبل تنزيلها؟

أولا. معالم الاستراتيجية الجديدة لتدريس اللغة العربية:

لعل أول ما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق، هو أن الاستراتيجية الجديدة لتدريس اللغة العربية تتميز بسمات ومعالم على المدرس اعتبارها بمثابة مرتكزات ينبغي اعتمادها لحظة التخطيط للتعلمات، ولحظة تدبيرها وتقويمها، وهي:
– إيمانه بأن الدرس اللغوي هو بالضرورة درس مفاهيم.
– اعتقاده بأن التدريس بالمفاهيم هو المدخل الأساسي لنجاح الدرس اللغوي.
– تبنيه لرؤية شمولية لمقاربة المفهوم، بدل تفتيته وتجزيئه إلى جزيئات يصعب تمثلها وإدراكها من قبل المتلقي.
إذا كانت هذه الرؤية الجديدة لتدريس اللغة العربية تدخل في سياق تبسيط مختلف الظواهر اللغوية وغير اللغوية من نحو وصرف وبلاغة وعروض… فإنها ليست بدعة، بل تجد أصولها مع آراء الجاحظ في القرن الثالث الهجري، وابن مضاء القرطبي في القرن السادس الهجري، وإنما هي جديدة على مستوى منهجية التدريس، لأن دعوات تبسيط النحو في المدارس والثانويات ظهرت منذ منتصف القرن العشرين على يد مجموعة من الباحثين والكتاب، وفي إطار المجامع اللغوية المختلفة، غير أن هذه الدعوات ظلت حبيسة التنظير، ولم تقو على الانتقال إلى ممارسة صفية داخل حجرات الدرس بفعل الاعتقاد الذي كان ومازال يرى أن التبسيط يمس صميم اللغة العربية ويقوض نظامها التركيبي. والحقيقة أن هذا التبسيط لا يمس بنية اللغة في شيء، وإنما هو اجتهاد بيداغوجي لتيسير التلقي لدى المتعلم.

ثانيا. سبل تنزيل الاستراتيجية الجديدة:

إذا عدنا إلى درس العدد لتأمل أهم المفاهيم المشكلة لبنائه والتي ينبغي التركيز عليها في بناء خطاطة الدرس، سنلاحظ أنها تتمثل في:
– مفهوم العدد
– العلاقة بين العدد والمعدود
– تمييز العدد
انطلاقا من هذه العناصر الثلاثة، واعتمادا على أمثلة دالة، ينبغي البدء بتحديد مفهوم العدد باعتباره المفهوم المركزي في الدرس. وحينما يدرك المتعلم المفهوم نظريا وتطبيقيا، ينتقل، بناء على أمثلة وأمثلة مضادة، إلى دراسة العلاقة بين العدد والمعدود، ليخلص إلى أن ” العلاقة بين العدد والمعدود تقوم على مبدأين اثنين، هما المطابقة والمخالفة: المطابقة وتكون من واحد إلى اثنين إفرادا وتركيبا وعطفا. والمخالفة وتكون من ثلاثة إلى تسعة إفرادا وتركيبا وعطفا. ومع لفظ العشرة إفرادا وتركيبا. أما مع ألفاظ العقود والمئة والألف والمليون..فتأخذ حالة واحدة في التذكير والتأنيث”. وبعد هذه المرحلة التي تعتبر أساسية في بناء الدرس، يتم الانتقال إلى رصد أحكام التمييز وفق الحالات السابقة، مع الإشارة إلى أن المعدود في الأمثلة المدروسة هو تمييز العدد. وهكذا ندفع المتعلم إلى تأمل المعدود/تمييز العدد، ليخرج بالملاحظات الآتية:
– يأتي تمييز العدد من واحد إلى عشرة جمعا مجرورا.
– ويأتي من أحد عشر إلى تسعة وتسعين مفردا منصوبا.
– ويأتي مع المئة والألف والمليون مفردا مجرورا.
وقبل الختام، يعمل المدرس رفقة تلامذته على تجميع معطيات التحليل، وترجمتها في خطاطة ذهنية تساعد المتعلم على استضمارها واستحضارها متى تطلب الأمر ذلك. وينهي الدرس بحصة التقويم لقياس مدى تحقق الأهداف المنشودة.

3. على سبيل الخاتمة:

لقد حاولنا خلال هذا المقال لفت انتباه القارئ إلى وضع اللغة العربية وما تعانيه من هجمات تريد النيل من مكانتها كلغة بين لغات العالم، كما أشرنا إلى ما يعانيه درس اللغة العربية من إخفاقات وانتكاسات تتبدى في تدني مستوى المتعلمين وتدني قدراتهم اللغوية، كما ألمحنا إلى أن الدعوة إلى تبسيط النحو وتيسير تدريسه ليس بدعة، بل هو انشغال تربوي ظهر خلال القرنين الثالث والسادس الهجريين، وخلال منتصف القرن الماضي… وقد جاءت دعوتنا “نحو رؤية جديدة لتدريس اللغة العربية” كوسيلة لتحديث تدريسية اللغة وعصرنتها، بهدف تحبيب المادة لدى المتعلمين وتحفيزهم على الإقبال عليها… ونحن بهذا الطرح لا ندعي أننا قد وجدنا حلا للمشكلة المطروحة، بقدر ما نكون قد ساهمنا في إثارة المشكلة وفتحها على نقاشات جادة.

المراجع:

– عبد الرحمن كامل، طرق تدريس اللغة العربية، ط 1، القاهرة 2005
– كنزة بنعمر وفاطمة الخلوفي، إشراف د. عبد القدر الفاسي الفهري، تعليم اللغة العربية والتعليم المتجدد، ج1، الرباط 2002
– العربية لغة حية، تقرير لجنة تحديث تعليم اللغة العربية، الموقع الإلكتروني ” arabicforlife.ae”

فيديو مقال نحو رؤية جديدة لتدريس اللغة العربية، الدرس اللغوي نموذجا

أضف تعليقك هنا