رحلة إلى حلب (من ذكريات الماضي البعيد)

رحلة إلى حلب (من ذكريات الماضي البعيد)

من المؤكد أنه مهما طال الوقت أو تباعدت السنون فإن هناك من الأحداث ما يترك ذكريات تظل عالقة في النفس منطبعة بين صفحات العقل بأدق تفاصيلها، لا تصل إليها يد النسيان فتعبث بها أو تؤثر عليها أعاصير الجديد من الأحداث فتقتلعها من الذاكرة.
إنها ذكريات من ذلك النوع الذي يمكن أن نطلق عليه “الذكريات الخالدة “.

لقطات من شريط الذكريات

اعتدت منذ وقت بعيد كلما جلست وحيداً أن أتفقد ألبومات الصور الخاصة بي، والتي بلغت حتى الان خمس ألبومات جسدت صورها أجمل الأوقات منذ دخولي الجامعة وحتى تخرجي منها، لتشمل أوقات تسليم مشروعات التصميم، والحفلات الجامعية، وبعض من الرحلات الجامعية، والتي كان من أهمها رحلة البكالوريوس، ورحلة التبادل الطلابي التي إتجهت إلي سوريا، ذلك البلد الحبيب التي تربطنا به علاقة حب ومودة أحسبها نشأت من توحد شعبينا على مر أوقات طويلة من الحرب والسلام.

وكثيراً ما توقفت أصابعي وأنا أقلب صفحات ذلك الألبوم الخاص بتلك الرحلة لتنطلق في أرجاء قلبي وعقلي موجات من الذكريات الجميلة، فأتخيل نفسي وقد عاد بي الزمن إلي الوراء سنوات طويلة، إلي ذلك التاريخ الذي لا أعتقد أنني يمكن أن أنساه يوم 16/10/1996 م.

 أكتوبر 96

انتهينا جميعاً من إعداد حقائبنا ، وبدأنا نجهز أنفسنا لمغادرة استراحة الجامعة بحي الدقي في محافظة الجيزة المصرية – المحافظة التي تضم الأهرامات المصرية – والتي قضينا فيها ليلتين كنا فيهما علي أحر من الجمر في انتظار وصول أعضاء هيئة التدريس الذين سيرافقونا في رحلتنا إلي سوريا.

وتجمعنا جميعاً علي بوابة الاستراحة، أربعة طلبة وثمانية طالبات وخمس من أعضاء هيئة التدريس يرافقنا الاستاذ محمد بدوي مدير الاستراحة مودعاً لنا .

وركبنا الأتوبيس الخاص الذي أقلنا إلي مطار القاهرة الدولي، وهناك جلسنا في انتظار إنهاء الإجراءات الخاصة بنا، ولم يمضي وقت طويل حتي أعلن المذيع الداخلي للمطار عن رحلتنا منبهاً السادة الركاب للاستعداد للتوجه إلي الطائرة، واتجهنا جميعا إلي الطائرة تجتاحنا الفرحة، ويحيطنا جواً من الرهبة، وقد أضفى وجود أحد الزملاء ممن لم يسبق لهم ركوب الطائرة جواً من المرح، فقد كان الخوف مسيطراً عليه مع انه كان يحاول التظاهر بخلاف ذلك.

وانطلقت الطائرة محلقة في سماء القاهرة الحبيبة التي راحت معالمها تختفي شيئاً فشيئاً حتى اعتلينا ظهر السحاب ، وغرق كل منا في أفكاره حول الأيام القادمة وكيف يمكن أن تكون، وهل كنا علي صواب في انضمامنا لتلك الرحلة التي كلفتنا الكثير من الجهد و المال.

أفقت من أفكاري علي صوت رقيق كان يخير أحد الركاب الجالسين أمامي بين بعض أصناف الطعام التي ستقدم كوجبة للعشاء، وكان هذا الصوت لأحدي المضيفات الجميلات اللاتي كنا يرافقننا على متن الطائرة.

واستغرقت الرحلة حوالي الساعتين ليعلن كابتن الطائرة عن وصولها إلي سماء مطار حلب الدولي منبهاً على السادة الركاب بربط الأحزمة استعداداً للهبوط.

الوصول الى حلب…

وهبطت الطائرة بسلام، وتوقفت في الممر المخصص لها، وأخذ الركاب يستقلون الأتوبيسات مجموعة تلو الأخرى متجهين إلي مبنى المطار لإنهاء إجراءات الوصول، وكم أدهشنا ذلك الاستقبال الحافل الذي أعد لنا، فقد كانت أعلام مصر تحيطها الورود تملأ أرجاء المطار، كما اصطفت مجموعة من الفتيات الصغيرات يحملن الورود علي الجانبين.

وملأتنا السعادة ونحن نشعر بهذا الاهتمام الكبير الذي فاق توقعاتنا، حتى مع علمنا بأننا أول وفد من مصر يعيد تجديد العلاقات الطلابية بين البلدين متمثلاً في جامعتي أسيوط وحلب.

ولكم صدمنا فيما بعد عندما علمنا بأن هذا الاستقبال الحافل لم يكن معداً من أجلنا، وانما كان لوجود وفد برلماني مصري رفيع المستوى علي متن نفس الطائرة التي كانت تقلنا قادمة إلي سوريا، وذلك لعقد محادثات برلمانية بين البلدين.

أنهينا الإجراءات سريعا ساعدنا في ذلك أحد الأساتذة من جامعة حلب والذي كان في انتظارنا في المطار، والذي اصطحبنا بعد ذلك إلي ميني باس يتبع جامعة حلب، وهناك وجدنا مجموعة من الفتيان والفتيات قاموا بالترحيب بنا، لنستقل الميني باس متجهين إلي مقر كلية الهندسة بجامعة حلب.

وقد أثار دهشتي في ذلك الوقت انه طوال الطريق من المطار إلي الجامعة كانت الشوارع خالية من الازدحام المعهود في شوارع القاهرة، وقد عرفت فيما بعد أن السبب الرئيس في ذلك هو كون قانون المباني في حلب لا يتيح – خلافاً لما هو الحال لدينا في مصر – إنشاء المحال التجارية المختلفة اسفل المباني، فالأحياء السكنية تتمتع بالهدوء، وتتجمع المحلات في أماكن علي مسافات مناسبة لتشكل أسواقاً مركزية تخدم تلك الأحياء.

الذهاب الى الجامعة…

وعند وصولنا إلي مقر كلية الهندسة بجامعة حلب وجدنا أعضاء اتحاد الطلاب، والذي أعد لنا حفلة استقبال جميلة تم من خلالها التعارف وتقديم مجموعة من أصناف الطعام السوري اللذيذ.

اتجهنا بعد ذلك إلي المدينة الطلابية لجامعة حلب، والتي كانت شديدة الاتساع كأنها مدينة مكتملة، انتشرت بين جنباتها المباني المرتفعة نسبياً والمكونة من ستة طوابق.

والعجيب في الأمر أن تلك المدينة الجامعية كانت تجمع بين الفتية والفتيات، وقد أثار ذلك دهشتي، ولما لاحظت إحدى الصديقات السوريات ذلك قالت لي: “إن الشباب والشابات يجتمعن طوال اليوم تقريباً من الصباح وحتى المساء في ارجاء الجامعة فلا ضير إطلاقاً أن تجمع بينهم جنبات مكان واحد أثناء فترة النوم، وما يمكن أن تتوقع حدوثه مساءٍ يمكن أن يحدث بالصباح، فما يحدد نوعية وأسلوب التعامل ليس المكان أو الزمان بل هو السلوك الشخصي للأفراد”.

والحقيقة أني لم أعترض على كلامها – وإن كنت لم أتمكن من تقبله – فقد كان يحمل في جوانبه كثيراً من الصحة.

وذهبنا إلي المبني الذي خصص منه الطابق الأرضي لمبيتنا، وتم تقسيم الغرف علينا، ووضع كل منا حقائبه في غرفته، وخرجنا لنجلس سوياً مع أصدقائنا الجدد من جامعة حلب الذين قدموا خصيصاً للترحيب بنا.

والحقيقة أنه منذ اللقاء الأول بهؤلاء الشباب فقد أحسست برباط خاص يربطني بهم، وكأنني أعرفهم منذ أمد بعيد، ولم يكن هذا شعوري بمفردي بل كان شعور الجميع. الكل أحس أنه في وطنه بين أهله وأصدقائه، وسرعان ما مر الوقت حتى قاربت الساعة الثانية صباحاً، فقمنا بتوديع زوارنا، واتجهنا إلي غرفنا لنستريح من عناء هذا اليوم الطويل.

واستلقيت علي سريري وقد أنهكت الرحلة قواي، بينما أخذت تداعب عقلي أفكاراً عديدة عما يمكن أن تسفر عنه تلك الرحلة من أحداث ومواقف .. سأحدثكم عنها في الحلقة القادمة.

                                                                        تمت الحلقة الأولى

أضف تعليقك هنا

د. أحمد حسنين

خبير إدارة المشروعات واستشاري الادارة الاستراتيجية ،باحث في مجال العلوم الإدارية والتنمية البشرية ،كاتب ومفكر استراتيجي ، له العديد من المقالات والمؤلفات .