فَاعِلِيَةُ المُجْتَمَع المَدَنِيّ فِي ظِلِّ مَبَادِئِ الحَوْكَمَةِ الرّشِيدَةِ الجَزَائِرُ – أُنْمُوذُجًا- دراسة مفاهيمية لعلاقة الحوكمة بفعاليات المجتمع المدني

تمهيد:

للحوكمة مجالات مختلفة بحسب دائرة الاختصاص التّي تنتمي إليها ، فهناك حوكمة الشّركات ، و حوكمة المؤسسات، والحوكمة المحلية، و حوكمة الدّولة ، وكلها مصطلحات متداولة ، لكن الجديد أن نستخدم الحوكمة ونربطها بمنظمات المجتمع المدني ، لنؤسس بذلك لمجتمع مدني فاعل ، إيجابي ، له القدرة على التّأثير في السّياسات العامة للدول ، يمارس دوره كمكون أساسي في المعادلة الثّلاثية فيها – القطاع العام ، القطاع الخاص ، منظمات المجتمع المدني.

وقد عبّر عن هذه العلاقة بطريقة مغايرة معهد الفضاء المدني عن طريق مساقاته المتنوعة التّي تناول فيها الحوكمة عن طريق استنباط مبادئها من مخلوقات الله : النّمل، الدّجاج، الغراب، وغيرها .وكلها مقاربات لمخلوقات مختلفة ، متعددة المزايا ، مختلفة في أنماط وسلوكيات وطرق بناء هيكلها التّنظيمي ، إلاّ أنها متفقة في قدرتها على إدارة مجتمعاتها وتحريكها لتحقيق أهدافها بطريقة نموذجية عجيبة.

أولا: الإطار المفاهيمي:

مفهوم المجتمع الدني:

يشير مفهوم المجتمع المدني إلى مختلف التّنظيمات والهيئات التّطوعية التّي تنشأ بمقتضى الإرادة الحرة لأعضائها بقصد حماية مصالحهم والدّفاع عنها ، ومنها الأحزاب ، الجمعيات ، المنظمات المدنية والحقوقية.

مفــهوم الحــــوكمــة:

یعتبر مصطلح الحكم الرّشید أو الحوكمة الرّشیدة واحدا من أهم المصطلحات التيّ حظيت باهتمام العديد من الجهات فهنالك العديد من الاجتهادات والتّباينات في مسألة تعريف الحكم الصالح ، ويرجع ذلك أساساً إلى التّعدد في وجهات النّظر ، واختلاف الميادين وتباين المنطلقات الفكرية ، والسّياسية ، والاقتصادية، والاجتماعية والقانونية.

لكن عموما يمكننا صياغة تعريف إجرائي للحوكمة كونه يمثل: ممارسة السّلطات السّياسية والقانونية والاقتصادية والادارية والاجتماعية والثّقافية لتسيّير شؤون دولة ما على كل المستويات ، بطريقة سليمة توصف بأنها (صالحة أو رشيدة) ، والمتضمنة العناصر والخصائص والمؤشرات التي عن طريقها يتمكن المواطنون (أفرادا وجماعات) من تحقيق مصالحها وتوسيع خياراتها.

ثانيا : مبادئ الحوكمة الرّشيدة:

قدمت الأمم المتحدة من خلال برنامجها الإنمائي ثمانية عناصر تقوم عليها الحوكمة الرّشيدة وهي كالآتي:

– 1 – المشاركة في إتخاذ القرارات.

– 2- التوّافق بين الجهات المشاركة في إدارة شؤون الدولة.

– 3 – المساءلة.

– 4 – الشّفافية.

– 5- الاستجابة لمتطلبات الناس.

– 6 – الفعالية والكفاءة.

– 7 – الإنصاف والشّمول .

– 8- سيادة القانون.

وفي تقرير للأمم المتحدة عن التّنمية في الشّرق الأوسط، أشار التّقرير إلى أن هناك قيمتان أساسيتان للحكم الرّاشد هما:

القيمة الأولـــــــــى:

 التّضمينية وتشمل المساواة بين أفراد الشعب بالمشاركة بإدارة شؤون الدّولة ، والمساواة بالمعاملة بين أفراد الشعب، بمعنى حماية حقوق الإنسان وعدم التّمييز في تقديم الخدمات، وأن يكون كل أفراد الشّعب سواسية أمام القانون.

أما القيمة الثانية:

للحكم الرّاشد فهي المساءلة وتشمل الشّفافية والتّي تضمن ، توفر المعلومات عن أداء الحكومة للمختص ولعامة النّاس ،بالإضافة إلى العنصر الثّاني من المساءلة وهو التّنافسية، بمعنى قدرة الفرد على اختيار من يمثله في إدارة ومراقبة أداء الحكومة بين الكيانات السياسية والاقتصادية المتنافسة.

و يَعتبر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن «التفاعل البنّاء » بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني هو الأساس للحكم الجيد الرّاشد ، ويتمثل دور الدّولة في التّنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع ، بالإضافة إلى الدّور الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني في الرّقابة والمساءلة ، ويختلف التّعاطي مع هذه المبادئ من دولة إلى أخرى بحسب طبيعة نظامها السّياسي والاجتماعي ، والاقتصادي.

ثالثا :وظائف (أدوار) منظمات المجتمع المدني

1- العمل على تحقيق العدالة والمساواة أمام القانون وحماية المواطنين من تعسف السّلطة.

2- مساعدة الحكومة، عن طريق العمل المباشر أو التّمويل أو الخبرة، على أداء أفضل للخدمات العامة وتحقيق رضا المواطنين.

3- تزويد المجتمع بالخدمات والوظائف التيّ لا يستطيع السّوق تقديمها، مثل ترويج المؤسسات الدّينية للقيم الأخلاقية، أو المعلومات حول العناية بالبيئة من خلال مؤسسات حماية البيئة.

4- خلق التّقاليد لتبادل المنافع والثّقة المتبادلة ، التّي من خلالها تتم تزويد المجتمع بالقاعدة الحضارية والثّقافية التيّ تُبنى عليها المؤسسات الدّيمقراطية. فمشاركة المواطن في الجماعات، سواء كانت اتحادات رياضية أو جمعيات آباء ومعلمين أو أية جماعات مدنية أخرى تولِّد المنفعة التبادلية وحل المعضلات بالعمل المشترك وتوسيع الكيانات الاجتماعية، التي تساهم جميعها بشكلٍ مباشرٍ أو غيرَ مباشرٍ في الترابط والانسجام الاجتماعي ولمزيدٍ من الديمقراطية في المجتمعات.

5- تربية المواطنين على ثقافة المواطنة من خلال إكساب أعضائها قيم الحوار وقبول الآخر، والاختلاف، ومساءلة القيادات، والمشاركة في الانتخابات، والتعبير الحر عن الرأي.

6- التّعامل مع الفئات المهمشة وادماجها في المجتمع.

7- جلب المواطنين إلى قلب عملية التّنمية المستدامة.

8- التّأثير على السّياسات العامة للدّولة في المجالات المختلفة (والمساهمة في صنعها) ، من خلال تعبئة جهود قطاعات من المواطنين وحملها على المشاركة في الشأن العام.

9- مراقبة سلطة الدّولة والضّغط باتجاه التّغيير ، من خلال تبني توجهات وسياسات بديلة.

10- تعميق المساءلة والشّفافية عبر نشر المعلومات والسّماح بتداولها على نطاق واسع .

رابعا : مبررات حوكمة المجتمع المدني

الحوكمة هي نتيجة للتّوسع الكبير في حجم المجتمعات والتّنوع الكبير لاحتياجات الأفراد والمنظمات، هذا التّغير أدّى إلى عجز الحكومات عن أداء الدّور بمفردها، لذلك كان لابد من إشراك الجهات غير الحكومية مثل القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الهادفة إلى الربح في إدارة شؤون الدّولة والمجتمع ، من هذا المنطلق يمكن القول بأنّ الحوكمة الرّشيدة : هي إطار لتعزيز مشاركة الجهات غير الحكومية والمواطن في رسم سياسات الدّولة وإدارة شؤونها على الأقل ، على المستوى المحلي. هذه المشاركة من الجهات غير الحكومية في إدارة شؤون الدّولة كسِمه للحوكمة تجعل الحوكمة تُقدّم كبديل للأسلوب التّقليدي في الإدارة والذي يُركِّز على كون الدّولة هي اللاّعب الأساسي – إن لم يكن الوحيد – في إدارة شؤون الدولة.

وهذا لا يتأتى في تصوري إن لم يكن للمجتمع المدني حضور قوي وفاعلية إيجابية ، وكفاءة عالية ذو جودة ومقدرة ليساهم كشريك محوري في إدارة شؤون الدّولة ، وهذا الحضور القوي لا يمكن بلورته إن لم ينطلق من مفاهيم ومبادئ الحوكمة الرّشيدة.

وهذا هو هدف معهد الفضاء العالمي من خلال إيجاد طرائق وسبل كفيلة بتفعيل هذه المبادئ في المجتمع المدني ، ولعل انشاء منتدى مجتمع الممارسة الافتراضي في دسمبر 2017م كفيل بذلك ، ويحتاج الدعم والتشجيع.

خامسا : فوائد تطبيق الحوكمة داخل المنظمات (الجمعيات)

1. تساعد اعضاء المجلس والمديرين التنفيذيين في تحقيق الأهداف واتخاذ القرارات وبأفضل الطرق.

2. تضمن حماية المصالح والموجودات.

3. تضمن الالتزام تجاه الجمعية والالتزام بالقوانين والأنظمة.

4. تحدد المسؤوليات والمهام.

5. تضمن الموازنة بين المسؤوليات الاستراتيجية والتشغيلية.

6. تعزز الثّقة والمصداقية.

7. تبني بيئة وعلاقات عمل متميزة.

سادسا : المجتمع المدني في الجزائر ومدى مطابقته لمبادئ الحوكمة الرّشيدة

عرف المواطن الجزائري العمل التّطوعي الجماعي كمفهوم محوري في الأدبيات التيّ ينادي بها مفهوم المجتمع المدني الحديث في عصرنا هذا غير أنه وجدت أنماط وأشكال تقليدية مستمدة ذلك من مبادئ العقيدة الإسلامية التيّ رسخت مبادئ التّطوع والإحسان والتّعاون ، وإنجاز الأعمال الخيرية .كما شهدت الجزائر التّنظيم الجمعوي في حقبة الاستعمار الفرنسي نتيجة للقانون الذي أصدرته السّلطات الفرنسية بتاريخ 1901م حيث سمح للمواطنين بتأسيس جمعيات تراوحت بين الدّينية والموسيقية وجمعيات للدفاع عنه.

العمل الجمعوي بعد الاستقلال

أمّا بعد الاستقلال فقد مرّ العمل الجمعوي بجملة من التّعديلات ، والتّغييرات على مستوى التّقنين ، ابتداء من دستور 1963م انتهاء بالتّعديل الأخير في دستور 2016م ، وما حمله من تعديلات حملت في طياتها حزمة من النّصوص القانونية التّي ساهمت في اتساع رقعة الحريات في ميدان العمل الحزبي والجمعوي ، وبالخصوص ما تطرق إليه القانون الجمعوي 06- 12- 2012م.

منظمات المجتمع المدني في الجزائر

وبالرّجوع إلى تحليل وضعية منظمات المجتمع المدني في الجزائر، نجد أنّ الجزائر حققت قفزة نوعية وكمية في منظمات المجتمع المدني، سواء من حيث المدى الجغرافي ، أو من حيث الاستمرارية ، أو من حيث ميدان نشاطها الذّي أصبح متنوعا، فمن حيث المدى الجغرافي انتقلت عدوى إنشاء الجمعيات من المدن الكبرى لتشمل أغلب مناطق الوطن حتى الصحراوية، وذلك في إطار سياسة انفتاح النّظام السياسي على جميع شرائحه وتشجيعه للعمل الجمعوي (سواء من حيث تقديم الإعانات المادية أو من حيث تقليص الرّقابة وتحرير النّشاط الجمعوي).

أما من ناحية الاستمرارية، فنجد أن بعض منظمات المجتمع المدني يعود تاريخها إلى الحقبة الاستعمارية، مثل جمعية العلماء المسلمين التي لا تزال تنشط في إطار تربية المجتمع وتوعيته، والدفاع عن قيمه ومبادئه. وبالنّظر إلى مجال عمل هيئات المجتمع المدني، نلاحظ أنها شملت كل ميادين الحياة الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية.

تطور نشاط المجتمع المدني

إلاّ إنّه وعلى الرّغم من المؤشرات الايجابية المسجلة في تطور نشاط المجتمع المدني في الجزائر، والتّي يمكن أن تجعله في مراتب متقدمة عربيا من حيث النّشاط والاستقلالية والنّمو، فإنّ منظمات المجتمع المدني ما زالت تعاني من عراقيل تحول دون قيامها بالدّور المنوط بها، وهو تحقيق التنمية الإنسانية، ومن بين هذه العراقيل البيروقراطية الإدارية ومشكلة التمويل، ونقص عدد أفرادها نتيجة عزوف أفراد المجتمع عن الانخراط في النّشاط الجمعوي، بسبب انشغالهم بمشاكل الحياة اليومية كمشكلة البطالة والسكن، وهذا ما جعلها عرضة لهيمنة وتبعية بعض الأحزاب السّياسية والسّلطة السّياسية التيّ تستخدمها في سبيل تحقيق أهدافها.

أمّا عن الأحزاب السّياسية فقد حققت هي الأخرى بعض مبادئ الحوكمة كالمشاركة الفعالة في المجالس المنتخبة ، والمساءلة عن طريق البرلمان وغيرها ، إلاّ أنّ أداءها يبقى ضعيفا.

ومن هنا نقول أنّ المجتمع المدني في الجزائر يحتاج إلى تفعيل مبادئ الحوكمة الرّشيدة عن طريق إقامة النّدوات والمؤتمرات ، والورشات التّدريبة التي تساهم في رفع منسوب المعرفة لدى المشتغلين بالعمل الجمعوي عموما ، ومطابقة المعارف والعلوم المكتسبة عن طريق التفعيل داخل مؤسساته المختلفة.

المراجع: 

1- ناجي عبد النور : دور منظمات المجتمع المدني في تحقيق الحكم الرّاشد ، ص 8

2- أمين فرج شريف : مفهوم ومبادئ الحوكمة (الحوكمة داخل المنظمات )  ، – باور بوانت – ص3.

3- برنامج الامم المتحدة الأنمائي UNDP 1997 إدارة الحكم لخدمة التنمية البشرية المستدامة: وثيقة للسياسات العامة لبرنامج الأمم المتحدة الانتمائي. نيويورك، الولايات المتحدة الامريكية.

4- بسام عبد الله البسام : الحوكمة الرّشيدة، – المقال السابق – ص 6.

5- دور المجتمع المدني في الإصلاح السياسي في الجزائر : محمد بوليفة و علاء الدّين الغول ، – رسالة ماستر ، جامعة ورقلة ، ص 43 -44.

6- دور منظمات المجتمع المدني في تحقيق الحكم الرّشيد في الجزائر : ناجي عبد النور ص 111-112

فيديو مقال فَاعِلِيَةُ المُجْتَمَع المَدَنِيّ فِي ظِلِّ مَبَادِئِ الحَوْكَمَةِ الرّشِيدَةِ الجَزَائِرُ – أُنْمُوذُجًا- دراسة مفاهيمية لعلاقة الحوكمة بفعاليات المجتمع المدني

أضف تعليقك هنا

محمد يسين لهلالي

ليسانس فقه وأصول -
إمام وخطيب