أقام الأزهر حفلة تكريم عامة لشيخه الأستاذ الأكبر محمد مصطفى المراغي ابتهاجًا بعودته إلى مشيخة الأزهر ورياسة المعاهد الدينية بعد فترة خمس سنين من ابعاده فجاء في خطبتة التاريخية ؛ حضرات السادة الأعزاء :
أحمد الله – جل شأنه – على ما أولانيه من الكرامة بهذه المنزلة في نفوسكم ،وأشكر لحضرات الداعين المحتفلين بِرَّهم وكرمهم ، وعاطفة الحب الفياض البادية في قولهم وفعلهم ، في شعرهم ونثرهم ، ولحضرات المدعوين تشريفهم واحتمالهم مشقة الحضور الذي أعربوا به عن جميل عطفهم وحبهم . ويسهل عليَّ قبول هذه المنن كلها واحتمالها إذا أذنتم لي في صرف هذه الحفاوة البالغة عن شخصي الضعيف ، واعتبارها كلها موجهة إلى الأزهر الشريف ، الذي تُجلُّونه جميعًا وتعتبرونه بحق شيخ المعاهد الإسلامية في مصر وغيرها من البلاد . ولئن دل هذا الاجتماع بالقصد الأول على غرض التكريم فقد دل بالإشارة والتبع على معانٍ أسمى من غرض التكريم .
خروج الأزهر من عزلته
دل على أن الأزهر خرج عن عزلته التي طال أمدها ، ونهض يشارك الأمة في الحياة العامة وملابساتها ، وعزم على الاتصال بها ليفيد ويستفيد ، وهذه ظاهرة من ظواهر تغيير الاتجاه الفكري الذي نشأ عن تغير طرائق التعليم فيه ، وعن شعوره بأن في الحياة معارف غير معارفه القديمة يجب أن تدرس وتعرف ، وطرائق في التعليم يجب أن نحتذي ونهتدي بها.
ومنذ أربعين سنة اشتد الجدل حول جواز تعليم الحساب والهندسة والتاريخ في الأزهر وحول فائدة تعليمها لعلماء الدين ، ومنذ أربعين سنة قرأ لنا أحد شيوخنا كتاب الهداية في الفلسفة في داره على شرط أن نكتم الأمر لئلا يتهمه الناس ويتهمونا بالزيغ والزندقة ، والآن تدرس في كلية أصول الدين الفلسفة القديمة والحديثة ، وتدرس الملل والنحل ، وتقارن الديانات وتعلم لغات أجنبية شرقية وغربية . ومن الحق أيها السادة علينا ألا ننسى في هذه المناسبة – والحديث حديث الأزهر والأزهريين – ذلك الكواكب الذي انبثق منه النور ، الذي نهتدي به في حياة الأزهر العامة ، ويهتدي به علماء الأقطار الإسلامية في فهم روح الإسلام وتعاليمه ، ذلك الرجل الذي نشر الحياة العلمية والنشاط الفكري ، ووضع المنهج الواضح
الإمام محمد عبده
لتفسير القرآن الكريم ، وعبَّد الطريق لتذوق سر العربية وجمالها ، وصاح بالناس يذكرهم بأن العظمة والمجد لا يبنيان إلا على العلم والتقوى ومكارم الأخلاق ، ذلك الرجل الذي لم تعرفه مصر إلا بعد أن فقدته ، ولم تقدره قدره إلا بعد أن أمعن في التاريخ ، ذلك هو الأستاذ الإمام محمد عبده – قدس الله روحه وطيب ثراه – وقدمر على وفاته ثلاثون حولاً كاملة ، ومن الوفاء بعد مضي هذه السنين ونحن نتحدث عن الأزهر أن نجعل لذكراه المكان الأول في هذا الحفل ، فهو مشرق النور ، وباعث الحياة ، وعين الماء الصافية التي نلجأ إليها إذا اشتد الظمأ ، والدوحة المباركة التي نأوي إلى ظلها إذا قوي لفح الهجير.
تاريخ الأزهر
الأزهر كما تعلمون أيها السادة هو البيئة التي يدرس فيها الدين الإسلامي الذي أوجد أممًا من العدم ، وخلق تحت لوائه مدنية فاضلة ، وكان له هذا الأثر الضخم في الأرض ، فهو يوحي بطبعه إلى شيوخه وأبنائه واجبات إنسانية ، ويشعرهم بفروض صورية ومعنوية ، يعدون مقصرين آثمين أمام الله وأمام الناس إذا هم تهاونوا في أدائها ، وأنهم لا يستطيعون أداء الواجب لربهم ودينهم ولمعهدهم وأنفسهم إلا إذا فهموا هذا الدين حق فهمه ، وأجادوا معرفة لغته ، وفهموا روح الاجتماع ، واستعانوا بمعارف الماضين ومعارف المحدثين فيما تمس الحاجة إليه مما هو متصل بالدين ، أصوله وفروعه ، وعرفوا بعض اللغات التي تمكنهم من الاتصال بآراء العلماء والاستزادة من العلم ، وتمكنهم من نشر الثقافة الإسلامية في البلاد التي لا تعرف اللغة العربية ، هذا كله يحتاج إلى جهود تتوافر عليه ، وإلى التساند التام بين العلماء والطلبة والقوامين على التعليم ، ويحتاج إلى العزم والتصميم على طي مراحل السير في هدوء ونظام وجِدٍّ ، وصدق نية ، وكمال توجه إلى الله ، وحب للعلم لا يزيد عليه إلا حب الله وحب رسوله.
وللمسلمين في الأزهر آمال من الحق أن يتنبه أهله لها :
أولاً – تعليم الأمم الإسلامية المتأخرة في المعارف وهدايتها إلى أصول الدين
، وإلى فهم الكتاب والسنة ، ومعرفة الفقه الإسلامي وتاريخ الإسلام ورجاله ، وقد كثر تطلع هذه الأمم إلى الأزهر في هذه الأيام وزاد قاصدوه منها أفرادًا وجماعات ،
واشتد طلبها لعلماء الأزهر يرحلون إليها لأداء أمانة الدين وهي بيانه ونشره .
ثانيًا – إثارة كنوز العلم التي خلفها علماء الإسلام في العلوم الدينية والعربية والعقلية
، وهي مجموعة مرتبط بعضها ببعض ، وتاريخها متصل الحلقات ، وقد حاول العلماء كشفها فنقبوا عنها وبذلوا جهودًا مضنية ، وعرضوا نتائج بعضها صحيح وكثير منها غير صادق ، وعذرهم أنهم لم يدرسوا هذه المجموعة دراسة واحدة ، على أن بعضها متصل بالآخر كما هو الحال في دراسة الأزهر ، فإذا وفق الله أهل الأزهر إلى التعمق في دراسة هذه المجموعة دراسة قديمة حديثة ، ودراسة المعارف المرتبطة بها ، وأتقنوا طرق العرض الحديثة – أمكنهم أن يعرضوا هذه الآثار عرضًا صحيحًا صادقًا بلغة يفهمها أهل العصر الحديث ؛ وإذ ذاك يكونون أداة اتصال جيدة بين الحاضر والماضي ، ويطلعون العالم على ما يبهر الأنظار من آثار الأقدمين ، وأعتقد أن التعليم الأزهري على النحو الذي أشرت إليه هو الذي يرجى لتحقيق الأمل ، وأنه مدخر لأبنائه إن شاء الله .
ثالثًا – عرض الإسلام على الأمم غير المسلمة
عرضًا صحيحًا في ثوب نقي خالٍ من الغواشي المشوِّهة لجماله ، وخالٍ مما أدخل عليه وزيد فيه ، ومن الفروض المتكلفة التي يأباها الذوق ويمجها طبع اللغة العربية .
رابعًا – العمل على إزالة الفروق المذهبية أو تضييق شقة الخلاف بينها
، فإن الأمة في محنة من هذا التفرق ومن العصبية لهذه الفرقة ، ومعروف لدى العلماء أن الرجوع إلى أسباب الخلاف ودراستها دراسة بعيدة عن التعصب المذهبي يهدي إلى الحق في أكثر الأوقات ، وإن بعض هذه المذاهب والآراء قد أحدثتها السياسة في القرون الماضية لمناصرتها ، ونشطت أهلها وخلقت فيهم تعصبًا يساير التعصب السياسي ، ثم انقرضت تلك المذاهب السياسة وبقيت تلك الآراء الدينية لا ترتكز إلا على ما يصوغه الخيال وما افتراه أهلها ، وهذه المذاهب فرقت الأمة التي وحدها القرآن ، وجعلتها شيعًا في الأصول والفروع ، ونتج عن ذلك التفرق حقد وبغضاء يلبسان ثوب الدين ، ونتج عنه سخف مثل ما يقال في فروع الفقه الصحيح أن ولد الشافعي غير كفء لبنت الحنفي ، ومثل ما يُرى في المساجد من تعدد صلاة الجماعة ، وما يسمع اليوم من الخلاف العنيف في التوسل والوسيلة ، وعذبات العمائم ، وطول اللحى حتى إن بعض الطوائف لا تستحيي اليوم من ترك مساجد جمهرة المسلمين ، وتسعى لإنشاء مساجد خاصة.
من الخير والحق أن نتدارك هذا ، وأن يُعنَى العلماء بدراسة القرآن الكريم والسنة المطهرة دراسة عبرة وتقدير ، لما فيها من هداية ودعوة إلى الوحدة ؛ دراسة من شأنها أن تقوي الرابطة بين العبد وربه ، وتجعل المؤمن رحب الصدر هاشًّا باشًّا للحق ، مستعدًّا لقبوله ، عاطفًا على إخوانه في الإنسانية ، كارهًا للبغضاء والشحناء بين المسلمين .
قد أُتهم بأني تخيلت فخلت ، ولا أبالي بهذه التهمة في سبيل رسم الحدود ، ولفت النظر إليها ، وفضل الله واسع ، وقدرته شاملة ، وما ذلك على الله بعزيز . الآن – وقد أوضحت بالتقريب آمال المسلمين في الأزهر – ترون أيها السادة أن العبء الملقى على عاتق الأزهر ليس هين الحمل ، فإنه في حاجة إلى العون الصادق من كل من يقدر على العون ، إما بالمال أو العقل ، أو بالمعارف والتجارب ، وكل شيء يبذل في طريق تحقيق هذه الآمال هين إذا أتت الجهود بهذه الثمرات الطيبة المباركة .
أيها السادة :
أكرر لكم شكري ، وأبعث من هذا المكان ، وفي هذا الجمع المبارك ، تحية الأزهر إلى العالم الإسلامي وإلى دور العلم ومعاهده ، وأتشرف برفع ولاء الأزهر إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الجالس على عرش مصر الملك فؤاد الأول ، وصاحب الفضل العميم في الأزهر في العصر الحديث ، أدام الله عزه ومتع جلالته بالصحة التامة والتوفيق الدائم ، وأقر عينه بحضرة صاحب السمو الملكي أمير الصعيد ولي العهد المحبوب ، والسلام عليكم ورحمة الله.