صوامع يوسف يحميها اللصوص

الحياة تغيرت

حتى فصول الأعوام تداخلت وتشابكت ولقح بعضها بعضا، تهب على بعضها متى شاءت. فاقبل الصيف في الشتاء والخريف في الربيع، ثم تاه الربيع، وتساقطت أوراق وزهور كنا ننتظرها كل ربيع، فأدركناها في فصل الخريف. لا موعد لرحيل الشتاء، ولا لقدوم الصيف، والورود نزرعها طوال العام، ونبذرها متى شئنا، ولكنها بلا رائحة تهيج المشاعر أو عبير يرتويه الصباح، وتلك البذور نداولها بين الفصول.

حتى وجع القلوب صار جسورا يعبر عليها مرضى القلوب والانكسارات دروب مضيئة يمر بها الشامتون، والابتلاءات محفل عرس وزينة للحاقدين تقف الدنيا على أطرافها بلا ملامح ولا حدود، والشر حديقتها التي تنموا فيها البساتين، وأزهار حملت زينتها من وجع القلوب. خارج محراب القرية اندثر أزيز السواقي وصياح (وارد الشادوف )، واختفى أبو قردان الذي يجوب المساقي وغنم القوم التي تهوى في المراعي، فتشققت حلوق الأرض كما تشققت حلوق الخلق. وغصون الأشجار هجرتها العصافير في الليالي الطرية.

نصيحة الأب وتعاليم الشيخ

صفعه أبوه وهو صغير، وقال له: طيبتك ستجعلك طعما للئام والطامعين. عندما رد على أبيه وقال له (ازرعوا الخير تجدوه ) لم يكن يعلم أن حكمة أبيه حصادها تجارب سنين، فلما مات أبوه وقف على قبره يصيح: وما هي الطيبة يا أبي؟. كان يحب أباه ويحب أن يسمع منه (حداد ) السواقي والشواديف، وهى أغنية يجارى بها الشادوف لري الأرض.

مات وتركه هو وأمه فى دنيا تغرب فيها كل شيء، وتبدل كل شيء المشاعر بالمصالح والغناء بالنفاق والرقص بالغواية والقرآن تجارة مزجاه عند أهل العمائم، إلا المحترفين في نصب الكمائن عند أصحاب الدراهم. قال له الشيخ (وفى السماء رزقكم وما توعدون). ومن يومها يبرق للسماء ينتظر وعدا سيأتي، فلما طال انتظاره ذهب إلى الشيخ يسأله لم ينزل يا شيخنا الرزق من السماء.

ضحك الشيخ لصغر سنه، وقال له الرازق هو من في السماء ولكن انزل رزقه على الأرض، وقد يكون الرزق هو الجنة في الآخرة، وقال له اقرأ يا غريب ألم تحفظ سكت ولم يقرأ. ثم سأل ما الموت يا شيخ؟ قال له الموت يا غريب كالنوم تنام إلى أن يشاء الله، ثم توقظك الملائكة لتلقى ربك هناك حيث النعيم، وجسدك هذا هو صندوق لروحك فإذا خرجت الروح تعفن بلا ألم ولا وجع. فمات شيخه في (كُتابه )، ولم يعلم بموته أحد حتى تعفنت جيفته دلتهم عليه رائحة الموت.  فلما دخلوا عليه وجدوه مطبقا بكلتا يديه على (مصحفه )، وذهب شيخه بجوار أبيه فصاح على قبرهما :صدقت يا أبى فقد مات الطيب حتى دلتهم عليه دابة الموت.

أمه المريضة

تذكر أباه وشيخه، فبكى، وذهب إلى أمه التي جارفها الوجع والألم، جلس عند أطراف أقدامها، ولمحها تتأوه من وقع الوجع، فلما رأته ضحكت متصنعة حتى لا تحزنه، فضحك وهو يعلم مرارة وجعها ارتمى على فخذها ودفن وجهه في عباءتها وولول بالبكاء.

ضاقت يا أمي وأغلقت أبوابها، وتزاحمت ونزعت البركة منها، فلا أرزاق ولا أعمار تدوم والأوجاع هي فقط من تدوم، أخاف يا أمي أن تموتي كشيخي، وأنا بين السواقي أبحث عن مدى صوت أبي. مسحت على رأٍسه، ورفعته من حجرها الذي أغرقه بالدموع، ونهرته: لا تبكى كالنساء، ولكن لا تتركني وحدي فمنك استمد رائحة الحياة، ويهجرني الموت الذي يلاعبني كلما غبت عني.

ارتمى في حضنها وهو يصيح: ضاق الحال وغلقت الأبواب جعل الوجع يعض جسدك المريض النحيل، فمثلنا يا أمي حمولة زائدة على موائدهم. فر قاصدا الباب لا يدري إلى أين ستؤويه خطاه، والشوارع ملأى بالأطفال الحفاة يتلاعبون بإطراف الجريد، ومن الخوص يصنعون خواتم طرية لهم، وكلاب الحواري تعوى على كائنات أمرتها الدنيا بالرحيل فلا مكان يؤويهم.

الهروب إلى التأمل

فارق بوارج القرية المصنوعة من الطين والخوص، وأوى إلى المزارع يستجدى رقائق النسيم الهاربة من قيظ الضروب، جلس على حافة الجدول يفلت ساقيه لبرودة الماء المارق وخيوط العشب تدغدغ ساقيه، تمرق العصافير من حوله تنقر الماء وأشياء مدفونة بين مسامات الطين الطري حول الجدول. وهدهد سليمان يبقر الأرض بمنقاره ولا يهدأ، قالت له: لا تخرج وتتركني اعبث بالفراش إني أخاف أزيز السرير وتماوج الجدران وتراقص المصباح المشنوق بسقف الغرفة، وأطبقت على طرف جلبابه. ومن يجرعني الماء إذا جف حلقي الذي لا يبتل ولا يروى غافلها؟ وهي تسبل عينيها إلى ورم النعاس.

وتسلل إلى الغيطان يزيل بعض الأقبية التي طوقت قلبه، وزاحمت أنفاسه هنا فقط على حافة الجدول يفرغ حمولة القلب الموجوع من أزقة الحزن والقهر، تذكرها وضحك كل لحظة تسأله. من آنت يقول لها أنا ابنك غريب، وبعد لحظة تسأله من أنت يقول لها ضاحكا ابنك غريب غريب غريب والله غريب يا أم غريب. كم جابت الأسواق والمزارع والمحاصد وهو الآن عاجز عن علاجها في زمن الأكاذيب، لم يستطع سماع أنينها، فغمر رأسه بين خرير الماء. كم مرة فكر أن يسألها لماذا سمته غريب، وينسى تنسيه ألامها وأوجاعها، فيضحك بمرارة لأنه يعلم إنها لم تكن أحسن حالا قبل أن يمتطيها المرض.

وفاة والدته

قالت له إن المرض هو القدر الذي نفرغ فيه مرارتنا ليراها الناس، فوخز القلب أقسى من وغز البدن كابرت كي تربيه في زمن الأكاذيب، وهو الآن يكابر كي يدفنها بجوار أبيه وشيخه الذي حدثه عن وصايا لقمان، ولم يجبه الشيخ ماذا قال لقمان لابنه عن ضيق الحال وعسر اليد والركب قد حمل الماء؟ وصوامع يوسف ملئت بالحب الحرام؟ ماذا قال لقمان لابنه واللصوص قد حصدوا المزارع وجففوا المنابع وسرقوا الحلي من النساء؟ ماذا قال لقمان عن أمه التي صكها الوجع، وناطحها اليأس وشفاؤها دراهم معدودة كالتي بيع بها يوسف.

رفس الماء بحوافره حتى غاصت في الطين، وهب واقفا أطاح بيديه الهواء، فتطايرت العصافير وهدهد سليمان وصرخ في المدى: صوامع يوسف يديرها اللصوص ووصايا لقمان بدلها ابن سلول. انسل من الأرض إمامه الصغير، وقال له: إن جدتي تناديك أسرع معي لتسقيها الماء خطى خطواته إلى سقيفة البيت يحمل بين يديه كوب الماء، فوجد سيارة يوسف بدلوهم قد جاءوا، وحملوها إلى حيث لن تخبر أحدا بما ترى ولن يخبرها أحد بما رأى.

فيديو مقال صوامع يوسف يحميها اللصوص

أضف تعليقك هنا