طائر يناير -#قصة

الحجرة المعتمة والألم

تلفظه موجات الألم إلى العدم، أو حياة ينقصها شيء، أيامه غير تلك التى ينغمس فيها البقية من البكور حتى المساء لجلب أقواتهم، ثم يعودون إلى منازلهم راضين قانعين أنهم أتموا دورهم في الحياة على أكمل وجه، و أن سعيهم الأوحد في أعمارهم ما كان ولن يكون إلا لذاك. هكذا عاش آباءهم و هكذا سيزرعون تلك العقيدة فى أبنائهم.

هو ليس كذلك، ولا تمر حياته كهؤلاء، بل قل: إنها لا تمر! فما قيمة أن يحيا المرء دقائق وساعات عمره في معاناةٍ لا تقل في قسوتها عن تلك التي تمر على طفلٍ صغيرٍ ينتظر عودة أمه إليه بعد غيابٍ طويلٍ، أو مريضٍ متألمٍ ينتظر جرعة الدواء التي تخفف ألمه قليلاً، جميعها أوقاتٌ تمر بطيئةً حادةً يود صاحبها أن تُقبض روحه أهون عليه من تلك المعاناة.

تتجرع غرفته مرارة ذلك الأسى معه، يطليها ظلامها الدامس الذي لم يفارقها منذ وقتٍ طويلٍ، حتى أصبح لها الصديق الودود. في الحقيقة لا تدري هل هو ظلام ما تفقده الحجرة من إضاءة مصابيحها، أم هو انعكاسٌ لظلام روحه يطلي به كل ما يحيطه؟.

على أي حالٍ فهى حجرة معتمة. يظن المار من أهله بجانبها أنها صامتة، ولكنها إليه ليس كذلك، فذاك الصوت الذي تصدره عقارب ساعته كفيلٌ أن يرسل لروحه من الضجر والألم مالا تستطيع أن تفعله ليلة عرسٍ صاخبةٍ، تخبره كل دقةٍ أن عمره يمضي، ومازالت رحلته التي قضاها لعدة أيامٍ منذ ثلاث سنوات لم تُجدِ إليه نفعاً كما تمنى.

صوت إطلاق النار

في يوم من الأيام وبينما هو مستلقٍ على سريره الذي يؤويه دائماً للنوم حينما يريد الهروب من شعور العجز أمام سطوة أفكاره، فإذ به يسمع دوي إطلاق النار. الأمر الذي جعله يسرع بالنهوض فزعاً لأنه غير معتاد على سماع تلك الأصوات بجانب بيته الذي يقع في منطقة هادئة بعيدة عن ضجيج وزحام الأماكن الحيوية في القاهرة.

ذهب صوب نافذة حجرته، وفتحها ليرى ما يحدث خارجاً فإذا به صوت أحد صائدي الطيور الذي يتجول في أنحاء مدينته يصطاد ما لذ وطاب له. ولم يكد ذلك المشهد يمر عليه بضع ثوانٍ حتى جال في عقله أحلام طفولته الجميلة مع الطيور، حينما كان يرى أسرابها المنظومة في السماء فيدعو الله أن يكون طائراً معهم يجوب الأرض من مشرقها إلى مغربها حراً طليقاً غير مكبوتٍ بأي قيود.

كان طيلة عمره شديد الكره لهؤلاء الصائدين الذين يحرمون الطيور من تحليقهم، لماذا يريدون أن يقضوا عليهم؟ هل هذا ذنب كل محلقٍ طامحٍ؟ هل إذا كان طائراً في يومٍ من الأيام كان سيلاقي صائداً يحرمه من صولاته التي لطالما كان يحلم بها؟ هكذا يسأل نفسه متعجباً حينما كان يرى قسوة هؤلاء الصائدين فى طفولته، لكن الأمر الآن لم يثر دهشته بقدر ما أثار من ألمٍ حاصر قلبه حينما تذكر هو الآخر رحلته التي حلق فيها مع أصدقائه في فترةٍ من فترات حياته.

رحلة الخامس والعشرين من يناير

كان حينها يبلغ منه الفخر و الطموح مبلغاً عظيماً، و الآن يتذكر عواقب تلك الرحلة وهو حزينٌ يتألم. يتذكرها بكل تفاصيلها، حينما أبلغه أحد أصدقائه في مساء السابع عشر من يناير عام ألفين وأحد عشر أن هناك انطلاقة ستنبعث بطموحات مجموعة من الشباب في يوم الخامس والعشرين من الشهر في ميدان التحرير لإسقاط جبابرة الطغيان الذين سعوا في خراب تلك البلاد لأكثر من ثلاثين عامٍ.

سمع تلك الكلمات المنصرمة فسرح وقتها بخيالاته يتأمل إشراق المستقبل والأسئلة تدق جدران عقله: “ثورة؟ هل سيأتي يوم وأكون ثائراً؟ كل ما أعرفه عنها أنني كنت أدرسها في دروس الدراسات الاجتماعية المقيتة حينما كنت في المرحلة الإعدادية ولكن هل يأتي ذلك اليوم الذي أعاصرها؟!”.

لم يكن يعلم لتلك الأسئلة أية إجاباتٍ، ولا يدري ماذا سيلاقي نتيجة ما هو مقبلٌ عليه، كل ما كان يدركه وقتها أن بداخله صراخا يريد أن ينفذ، آلامٌ تهفو إلى التداوي، عجزٌ حارقٌ يفتت جسده منذ سنين يريد الخلاص منه. بداخله دافعٌ للتغيير أقوى من أي شئ، من الجبروت وأعوانه، من أجيال غشاها الصمت منذ مولدهم حتى انتصفوا قرنا من عمرهم، من كل شيء يريد أن يخمد احتراق قلبه على الهلاك الذي انتاب بلاده، ويأبى أن يفارقها.

اشتعلت حماسته، ونهض بالنزول في ذلك اليوم مهما كان الثمن الذي سيدفعه. خرج مع أصدقائه وعددٍ ليس بقليلٍ من الشباب يطالبون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية، يبحثون عن أجواء لا يعكرها الأسى، يطالبون بغدٍ أجمل لبلادهم وشعبهم، يريدون أن ينالوا أبسط حقوق الآدميين في الحياة، فقط يبحثون عن الحرية.

الوصول للهدف بعد 18 يوما

ثمانية عشر يوماً أتموها في ميدان التحرير للوصول لهدفهم، يستقوون على برد الشتاء بحرارة الطموح والألم، ينتزعون الخوف من صدورهم بأيدي الألفة والإخاء التي غمرتهم، يصارعون ضد شتى مظاهر العنف التي لاقوها من قمع وزارة الداخلية، يسقط من بينهم كل يومٍ أكثر من شهيدٍ، ومازالوا صامدين، لا يرضون بكل وسائل التهدئة التي لاقوها حينها.

وأية تهدئة؟ فهل يهدأ ثوران البركان بقطرات الندى؟! هل تقوى الكلمات المعسولة أن تنسيهم مرارة تعذيب خالد سعيد؟ هل تستطيع خطابات الطاغية أن تنسيهم دماء أصدقائهم التي لم تجف من أرض الميدان بعد؟! هم لا يهابون في الله لومة وحاشاه سبحانه أن يستنجد به مظلومٌ إلا ورد مظلمته، فأذن الله لهم بنصرٍ وفتحٍ مبين. انتصرت طموحاتهم حينها.

كانت سعادة مؤقتة

ولكن لم تدم بهجة يناير طويلاً، فبعد ثلاث سنوات من أنانية البعض وتآمر البعض الآخر عاد كل شيء إلى ما كان عليه، تتحطم كل الأحلام، يغمر الصمت الأفواه، يعم الظلم كل البلاد، وينهزم كل حالم. تذكر كل ذلك متألماً بعد أن رأى في نفسه ذلك الطائر الطامح الذي ابتلاه الله بصائدٍ مقيتٍ قضى على حياته، فأغلق نافذته، وعاد أدراجه إلى ظلام غرفته وهو لا يعلم، هل هذا مصير الحالمين الطامحين دوماً؟ أم أن الأحلام لا تجوز في بلاد صائدي الطيور؟.

فيديو مقال طائر يناير

أضف تعليقك هنا