عَبَق الفن، أريج التحدّي، شَذَا الإثارة ( عطر الروح ).

تكهّنات ساحة رمضان الفنيّة

تِك ، تُك .. تِك ، تُك .. دقّات عقرب ساعة؟ رُبما، لكن الأكيد أن نبضات القلوب كانت بـذات الرتم إن لم تكن أسرع. الترقّب، الإنتظار، التوقعات ، والتكهّنات التي تحوم حول ساحة رمضان الفنيّة .. فـ بعد الصدمة الإقتصادية التي تعرّضت لها الشركة الإنتاجية الأضخم في الخليج ، آلَ مصير أغلب – إن لم يكن كُل – المسلسلات إلى المجهول .. أوقاتٌ تغيّرت ، مواعيدٌ أُلغِيَت ، وكثير من الأعمال قد لا ترى النور. إشاعات ، ضغوطات من كل مكان ، أخبار كاذبة ، واجتهاداتٌ شخصية تُحلل وتُفسّر ، فـ كانت النهاية عارمة بـ الفوضى.

التأثير الأكبر لم يَنصبّ على من اعتاد الظهور رمضانيًا ، فـ المهلة كانت أكثر من كافية لـ رحلة البحث عن مُتَبَنٍ بديل لـ ( صبّاح بيكتشيرز ) .. لكن المعاناة كانت أقوى على من خَطّط واستعدّ لـ يُطلّ مع غُرة ٢٠١٨ قبل أن يَبزُغ مع هلال الشهر الكريم .. بلى ، عن ( هدى حسين ) أتحدّث .. الرفيقة الوفيّة ، صاحبة الإختيارات الصائبة ، الذكية في تنوّع الأدوار ، والبطلة التي لم تُخيّب يومًا ظَن من اعتدّ بها واعتمد عليها .. في السنوات القليلة الماضية وبعد النجاح الملحوظ لـ ” جود ” ، النقلة النوعيّة التي أثْرَت بها ” مشاعل ” في ( حياة ثانية ) الدراما الخليجية ، بـ الإضافة إلى الأثر الكبير الذي تركته ” إقبال ” ، كلها أسباب كافية لـ أنْ نجزم بـ الخسارة لـ كِلا الطرفين في هذه المعادلة التي لم تُنتج إلا الإيجاب.

هدى حسين، الغياب الرمضاني

كـ طفلة نشأت وشَبّت على صوت ( هدى ) ولا تكاد مرحلة من حياتها تخلو من وجود القامة العظيمة فيها ، ساءني أنْ أشْهَد انخماد نار حماسها لـ عمل أيقَنَت وآمَنَت بـ نجاحه ، لـ ظروف خارجة عن إرادة كل من له صِلَة بما حدث .. فـ اجتماع الثلاثي الأبرز خلال السنوات الخمس الأخيرة مجددًا لم يكن محض صُدفة ولا تغريرًا لـ الجماهير وصَمّ آذانهم عن المحتوى المطروح .. بل إن الثقة في أحداث القصة ، الاطمئنان لـ أسلوب الطرح الجديد ، وطريقة السرد المُنقطعة النظير .. كانوا عناصرَ توليد الطاقة فيها وفي كل من عَلِمَ بـ نشأة مسلسل جديد يضم الخيال الواسع لـ ( علاء حمزة ) ، العدسة النقيّة لـ ( محمد القفاص ) ، والآداء الـ غير متوقع من ( هدى ). كـ حال الغالبية ، الصمت كان ردة فعل الموهوبة فطريًا .. بَيدَ أنه لم يكن فعلها المُقابل لـ تبخّر فكرة العمل خارج إطار رمضان لـ العام الثاني على التوالي .. هدأت ، تأنّت ، فكّرت ، وقرّرت أن تُطل على مُحبيها في الموسم السنوي دون عمل يُمهّد الطريق لـ تُحفة كانت مُرتقبة لـ رمضان.

فرضت الظروف على ( هدى حسين ) عَيش شيء من اسم شخصيتها الجديدة حتى قبل تحديد أبطال العمل ومواقع التصوير ؛ تحدّها مدة قصيرة لـ تُنجز عملًا في مستوى عالٍ تتحدى به نفسها ، الحال مكشوف لـ العامّة ، والضغط من كل الجوانب .. فـ كانت تمامًا كـ زجاجة عطر ، كلما زاد الضغط عليها نشرت عبيرها على مستوى المدى ؛ زادت الضغوطات ، تعددت الأقاويل ، كَثُرَت المهاترات .. فـ فاحَت ( هدى ) على الشاشة كـ ” عِطر ” أسرَ شذاه كُل من مَرّ به.!

إنصافًا لـ العظيمة ( هدى ) ، أجد أنها بـ الفعل طبيبة نفسيّة ، مُتمرّسة ، مُخضرمة ، ذكية ، ولها سُبُل علاج خاصة لم يعرف استخدامها بشر قبلها .. استطاعت خلال السنوات الأخيرة أن تستشف ذائقة جيل الشباب من المتابعين ودمجها بـ نسبة واقعية لا يرفضها العقل بتاتًا .. القامة الفنيّة تُدرك جيدًا أن الموجة في العقد الأخير تتجه بـ شدّة نحو المسلسلات والأفلام الأجنبية بـ شتّى أنواعها ؛ أمريكية ، إنجليزية ، تركية ، وحتى إسبانية.

الشبكة العنكبوتية وسهولة التحميل

فـ اللغة لم تعد حاجزًا اليوم أمام مَن يود المتابعة والاستمتاع بـ كل أنواع الفنون من مُختلف بقاع المعمور ، كما أن الشبكة العنكبوتية تضج بـ مواقع وبرامج التحميل التي تُسهّل على الفرد المتابعة وقتما شاء وحيثما أراد .. ومن المعروف أن الطابع السائد على الفن الأجنبي هو عالم الخيال الذي قد يكون مُبالغ فيه أحيانًا ، وفي أحيانٍ أخرى تكون درجة الخيال مقبولة بل ومطلوبة لـ شد الاهتمام وجذب الانتباه نحو الأحداث وطريقة سَير القصة.

كـ شابة في مُنتصف العشرينات ، تشبّعت من القصص المُكررة ، المُماطلة في حَل المشاكل ، العُنف في بعض المشاهد تحت بند ” الواقعيّة ” الزائف .. فـ ما بالنا بـ الجيل القديم الذي عاصر تكرار حتى الحوارات منذ الثمانينات حتى يومنا هذا.؟

السباحة عكس التيار

الدكتورة ( هدى ) ، عفوًا ، ” عِطر ” ، انتهت من مرحلة التشخيص وبدأت فعليًا بـ العلاج لـ الدراما الرائدة في الخليج ؛ الكويتية ، ومستوى المسلسلات الخليجية كـ كُل بدءً من ( حياة ثانية ) حين أعلَنت العصيان على الروتين بـ طريقة كانت أشبه بـ السباحة عكس التيار والتي غالبًا ما تنجم عن غرق المُتمرّد على قوة السَيل .. إلا – ولأنها استثنائية – استطاعت بـ تحدّيها لـ طوفان التيّار أن تُوقف الهيجان ، فـ أصبح نهرًا ساكنًا ، لا يُحرّك قطراته إلا إتجاه سيرها.

بل إنها أنقذت ما تبقّى من أمل ، وألهَبَت ما قارب على الإنطفاء من الشُعَل بـ قصة جديدة ، أحداث عديدة ، وتنميّة قدرات اتفق العامة على تواضعها .. كانت تلك مُجرّد بداية ، لـ حِقبة طال انتظارها ونأمل أن لا يحين لها نهاية ؛ حِقبة تُغذّي الخيال ، تُبقي عقل المشاهد يقضًا لـ محاولة استنتاج ماهو آت ، حِقبة تجمع مُختلف الأعمار بـ نفس الشغف ، الحماس ، والتفاعل مع كل طرفة عَين.

بدأت العملاقة بـ ” مشاعل ” العنيدة ، مرّت بـ ” إقبال ” العريقة ، واستكملت السلسلة بـ ” عِطر ” الفريدة .. أسلوب التشويق ، الغموض ، واللعب على أوتار مشاعر المشاهدين ما بين سعادة ، حُزن ، وتعاطف ، كانت أبرز عناصر أعمال ( هدى حسين ) لـ تحافظ على تركيز المشاهدين وتمسّكهم بـ أحداث مسلسلاتها حتى تَلفظ لحظاتها الأخيرة .. لكن الواقع أن أعمالًا كـ هذه لا يُسدل عليها الستار ، ولا يُغلق لها باب بـ الحلقة الثلاثين .. بل يبقى أبطالها يتوهّجون في ذاكرة المشاهدين ، وتُحفظ لـ الزمن والتاريخ.

شَهَد الموسم الرمضاني عودة شيئًا من رائحة المنافسة بين الأعمال لـ عمالقة الساحة .. أخص بـ الذكر هنا ( سعاد عبدالله ) و ( هدى حسين ) ، أما سيدة الشاشة ( حياة الفهد ) مازالت تسعى – في وجهة نظري – إلى إعادة إحياء التراث الفنّي بـ تقديم المشاكل الإجتماعية بـ طابع الكوميديا السوداء ، لكنها – لـ الأسف – لم تُفلح لـ موسمين مُتتاليين. من جهة أخرى .. عادت السندريلا بـ تجسيد شخصية قوية ، صارمة ، عنيدة ، ويصفها البعض بـ الشر.

بزوغ نجم الكاتب حمد الرومي

قدّمت القديرة ( سعاد ) لـ ساحة رمضان ثاني تجارب الكاتب الذي بزغ نجمه في العام الماضي حين قدّم تُحفة ( إقبال يوم أقبلت ) ، عاد هذا الموسم مع ” انتصار ” التي ترفض في كل و أي حال من الأحوال أن يكون المرور على ناصية منزلها ” عَبرَة شارع ” ، بل يجب أن يحسب الجميع حساب المنزل ، قوانينه ، صاحبته ، والطبقة الأرستقراطية  التي تظن ” انتصار ” أنها تنتمي لها .. لا يمكنني إخفاء إعجابي بـ فكر ( د. حمد الرومي ) وكيفية طرحة لـ قضايا المجتمع ، لكن أيضًا لا يمكنني أن أصف عمله الثاني بـ ” المُبتكَر ” كما كان الحال في إقبال .. لكنها تبقى محاولة جيدة جدًا ، ومازال الأفق واسعًا أمامه.

على الضفة الأخرى لـ النهر .. تواجَدَت هناكَ وحدها ، في عالمها الخاص ، حيث لا يشاركها أحد مكانها .. أو ربما لا يستطع أحد الإقتراب لـ تلك الضفة ؛ ضفة عالية ، صعبة الصعود ، شاهقة ، تحتاج لـ وصولها والمحافظة عليها مشقّة يفشل الكثير في حملها على عاتقه .. انعزلت ( هدى ) عن كل ما يحيط بها في فترة الإعداد ، التنسيق ، ترتيب مُستلزمات الإنتاج ، والتواصل مع أبطال قصتها الجديدة .. تكتّمت على كل شيء ، فـ لم يعرف الجمهور شيئًا عن القصة إلا أن الموهوبة فطريًا تُجسّد شخصية طبيبة نفسية ، الأمر الذي دعى بعض مُرتزقة المشاهدات وعدد المتابعين يُوقدون أُولى شُعلات التشكيك بـ عمل مُكرر بـ ذات سياق قدّمته ( هنادي الكندري ) ، فقط لأن الأخيرة قامت بـ تجسيد دور طبيبة نفسية.

الصدق، الإتقان، و الاحترافية لدى هدى حسين

قبل الغَوص في أحداث المسلسل .. يجب التطرّق إلى كميّة الصدق ، الإتقان ، و الإحترافية التي بلغتها ( هدى حسين ) حتى قبل تجسيد الدور نفسه .. غالبًا نسمع أبطال المسلسلات يشرحون فكرة العمل والقصة بـ الإجمال ، لكن ( هدى ) كانت في حديثها عن شخصيتها تصف ” عِطر ” وكأنها إنسانة تتواجد بيننا فعلًا لا مُجرد خيال جامح من ( علاء حمزة ) ، الذي – بـ المناسبة – نجح في إثبات أن ( حياة ثانية ) لم يكن محض صدفة ولا رميةً من غير رامٍ.

يمكن لـ أي متابع دقيق أن يعرف كيفية تفكير ( علاء ) والمحاور الأساسية لـ رسم ثلاثين لوحة ؛ أساس بوليسي يعتمد على الجريمة دون ترك خيوط تدل على الفاعل ، اعتماد التحايل على قوانين سُنّت في الدستور لـ خدمة المجرم ، نزاعٌ عنيف بين طرفين قد يَبلغ لـ إحداث ضرر معنوي ، نفسي ، أو حتى جسدي فقط لـ بلوغ الهدف تحت بند ” الغاية تُبرر الوسيلة ” .. ( علاء حمزة ) و ( هدى حسين ) وُجِدَا لـ يُكمّل بعضهما الآخر.

( علاء ) يملك خيالًا أجنبيًا جامحًا ، فِكرًا مُختلفًا عن نمط المسلسلات الخليجية الإعتيادية ، ورسمًا لـ أحداث تُجاري حاجات وطلبات المشاهد في عصرنا الحالي .. و ( هدى ) في كفّة الميزان الأخرى التي – حسبما وصفها الكاتب – تُجسّد الشخصية بـ إتقان وروعة تُمتع ( علاء ) ، مما يؤول إلى نتيجة لم يستطع هو نفسه توقعها لـ تفانيها في الآداء وعَيشها لـ كل تفاصيل الدور وما تمر به من أطوار عديدة خلال فترات المسلسل ، مما يجعل فكرة الكتابة لـ ( هدى ) دون غيرها من الأسماء فكرة متواجدة دائمًا ومُشجعة.

بداية الحكاية

بدأت ( هدى ) حكايتها – كـ العادة – بـ أحداث سادَها الغموض ، إذ أن علاقة ” عِطر ” بـ المحيطين بها لم تكن واضحة تمامًا ، كما أنها لم تنسى عامل التشويق بـ مشاهد حابسة لـ الأنفاس حيث كان ختام غُرة المسلسل مشهد محاولة اغتيالها من أحد المرضى السابقين لـ ” د. عِطر ” .. الدكتورة التي أُصدر حُكم قضائي ضدها يمنعها من مُمارسة ما أحبّت وأبدعت فيه حتى أصبحت اسمًا معروفًا بين أوساط الأطباء لـ أسلوب علاجها الفذ والغير إعتيادي ، حتى تم وصف ما تقوم به دجلًا وشعوذة لأن أحد نتائج علاجها كانت عكسية ، حيث أدّت إلى تحويل أحد المُضطربين نفسيًا لـ وحش لا يشعر بـ شيء سوى الإنتقام ، التدمير ، والخراب.

كـ الدانة وسط المحيط ، أصبحت ” د. عِطر ” مُراد عدة أشخاص .. واقعًا ، هم ليسوا مُجرد أشخاص ، بل أحد أكبر رؤوس الأموال في محيطهم وعلى مستوى الكويت ؛ ” مشعل ” ، وابن عمه ” عدنان ” كانا في حالة هلَع وسباق مع الزمن لـ العثور على طريقة لـ التواصل المباشر مع الدكتورة التي غيّرت مقرّ سكنها وقطعت كل سُبُل الوصول إليها .. احترمَت الدكتورة قرار المحكمة وتفهّمت أسبابه ، إلا أنها لم تقف مكتوفة الأيدي أمام ضعف المستوى المادي لـ زوجها الموظف البسيط القائم بـ واجبات بيته اعتمادًا على مدخوله الشهري المحدود جدًا وهو مُعيل لـ زوجته وابنيهما .. كان ” مشعل ” أول الواصلين لـ خط النهاية ، خط النهاية الذي بدأ منه كل شيء ؛ عنوان منزل الدكتورة الموقوفة.

محاولة إغتيال الدكتورة الفاشلة كانت الشرارة لـ إشعال الأحداث بين القُطبَين المُتنافسَين ، إذ أن القدر قد كُتِبَ أن تُعالج ” عِطر ” في مَشفى ” مشعل ” لـ يلتقيَ المريض السابق بـ مَن كانت السبيل لـ خلاصه من عُقدة نفسية أحاطت بـ فترة من حياته .. كيف لا ، وهي من وقفت معه في محنته بعد أن تلقى رصاصة في كتفه مع سبق الإصرار والترصّد من ابن عمه ” عدنان ” بعد ملاحم طاحنة بين الرّجُلَين كانت بدايتها طَيش طفولة وتهوّر مراهقة .. فَضل ” عِطر ” على ” مشعل ” كان سابغًا ؛ لم يمحِه الزمن ولم يُنسِه إياه المرض والتعب .. كما أن براعتها في حل أزمته النفسية التي عجز عنها أطباء في ذات المجال ، جعلتها الحل الأمثل لـ استخراج الطفل من جسد ابن ” مشعل ” الشاب ، اليافع ، الذي يعيش سنوات الازدهار رقميًا دون وعي لما يُحيط به من أشخاص أو مُتغيّرات

” مازن ” الحُب المُتبقّي في قلب ” مشعل ” المُنهك من تقدّم السن والمرض .. آخر ما تبقّى من عائلته التي تشتّتَ شملها بـ حادث شنيع أدى لـ خسارة روح زوجته وابنه الرضيع ، إلا أن رحمة الله شَمَلَت قلبَ ” مازن ” لـ يبقى نابضًا بـ الحياة .. لكنها حياة سوداء ، مُفزعة ، مُخيفة ، لا يعرف فيها صاحبًا ولا صديق .. يَرهَب كل أطياف الكون ؛ الضوء ، الصوت ، والإنسان .. عدّة عُقد سكنت عقل الطفل حينها لـ مَبيتِهِ أيامًا ولياليًا بين جُثث هامدة ، إحداها كانت جثة أمه مُحتضنةً جُثّة أخيه الأصغر.

بدأت ( هدى ) أُولى خطواتها كـ ” عِطر ” بـ خجل ، إذ أن الدكتورة أقنعتنا بـ شخصيتها الودودة ، المُسالمة ، الهادئة ، التي تبعد عن المشاكل بُعدَ النّوَى .. كانت الدكتورة الموقوفة تعيش حياتها البسيطة بـ نظام روتيني لا يتخلله أيَّ تغييرٍ على مستوى الأفراد ، وحتى الأحداث اليومية .. لكن كبرياء الإنسانة العظيمة التي بلَغَت هامة جهابذة العلم النفسي حول العالم لم يسمح لها بـ البقاء في حالة السكون ضد استفزازات مُتعددة من ” عدنان ” الذي بدا صريحًا فوق العادة بـ تهديده المباشر لها والتحذير من الإقتراب لـ بقايا العائلة المُشتتة.

” مازن ” ، لـ معرفته بـ قدراتها على علاجه وهو ما سـ يحول بينه وبين مُخططاته البعيدة المدى لـ القضاء على كل أثر لـ ابن عمه الذي دمّر حياته حسب تعبيره .. لم تُحرك مُغريات ” مشعل ” الماديّة أيًّا من مبادئ ” عِطر ” لـ تُخالف أمر القضاء وتعاود مزاولَة عملها ، على الرغم من كونها سـ تكون تحت حماية قانونية مُشددة ، إلا أن العامل الإنساني بـ جانب التحدّي الصريح من ” عدنان ” كان أول ما أعاد دائرة حياة الطب النفسي لـ تدبّ في ” عِطر ” من جديد.

أحداث مُتسارعة في ( عطر الروح )

على غِرار ( حياة ثانية ) ، كان ( عطر الروح ) ذا رتمٍ عالٍ ، أحداث مُتسارعة ، به شخصيات كثيرة ، ومشاكل عديدة غير قابلة لـ التوقّع طيلة الثلاثين حلقة .. لم تكن الأحداث والأقدار المكتوبة من ( علاء حمزة ) ذات الرتم المُتصاعد فقط ، بل إن ( هدى حسين ) لم تكف عن إبهار المشاهد بـ آدائها ذا الحِس العالي ، الصدق الـ لا مُتناهي ، والمُتشكّل حسب مُقتضيات الدور بـ سلاسة غير مسبوقة من زملائها في المجال.

تغيّرت شخصيّة ” عِطر ” من الأم/المعلمة المُسالمة إلى ” د. عِطر ” التي تتحدّى كل العقبات – حتى القانوني منها – في سبيل علاج حالة يأسَ الطب منها وإرضاء عنفوانها ضد سيل الهجمات والتهديدات التي طالت عائلتها وحياتها الخاصة .. كـ شغف ( هدى ) بـ التمثيل ، كانت ” عِطر ” شغوفةً لـ العودة إلى عملها وما برَعت فيه بعد غيابٍ امتدَّ لـ عشرين سنة .. وكـ صدق ( هدى ) في تقديم أعمالها ، كانت ” عِطر ” صادقةً في تقديم العَون لـ ” مشعل ” وابنه حينما أيقنَت أنها الخيار الأخير أمام رجل يحلم في آخر أيام حياته بـ بقاء اسمه مع آخر ما بقيَ من نَسله لـ يُخلّد بـ خلود الدهر.

وكـ ذكاء ( هدى ) في اختيار شخصياتها لـ تُحافظ على القمة التي وصلتها ، كانت ” د. عِطر ” حاذقة في تدرّج مراحل علاج ” مازن ” ، حيث بدأت في البحث عن القرائن التي جعلت من ” إيمان ” المخلوق الحَي الوحيد في الكون القريب منه دونما خوف أو حتى غضب .. تدرّج ” مازن ” من رائحة عطر أمه ، إلى التعلّق بـ ” عِطر ” ، إلى تقليد كل ما تقوم به ، إلى الانصياع التام لـ أوامرها ، إلى الإحساس بـ المسؤولية لـ حمايتها من أي خطر يعترض طريقها .. لكن – ولأن ( علاء ) يَمَلّ النهايات المتوقّعة – بلغ ” مازن ” مرحلة القوة ، الجبروت ، والطغيان إلى الحد الذي جعله يستخدم كل المحيطين به – حتى مَن أحسنوا إليه في مرضه – كـ دُمى يحركهم كيفما شاء لـ خدمة مصالحة المادية فقط .. لم يحمل ” مازن ” من أبيه إلا اسمه ، إذ أنه اكتسب طِباع عمه الجشعة والتي لا ترى الإنسان إلا مخلوق يتشكّل قدرما يُدفع له من أموال.

الأداء اللافت للانتباه من هدى حسين

لم يكن آداء ( هدى حسين ) هو الوحيد الـ لافت لـ الانتباه .. فـ أغلب من قاسمها الحلقات الثلاثين كان لهم بصمات رائعة لا يمكن نسيانها أو حتى التغافل عنها .. فـ ( عبدالمحسن النمر ) ، قُطب الشر في المسلسل ، كان إبداعه صارخًا وتلبّسه لـ الشخصية فوق حدود الوصف .. كان ” عدنان ” شخصية مُزعجة جدًا لـ الإنسانية ، عدوّة لـ الحق ، مُناقضة لـ المنطق .. لكن في ذات الوقت نجد أن الكثير من جمهور المسلسل كانوا في صفّه لـ إعجابهم بـ تصوير وتكوين الشخصية التي لم تخلو من الطابع الأجنبي الذي اكتسى العمل بـ رُمّته.

نذكر جيدًا الـ لفتة في أول الحلقات لـ ” عدنان ” بـ تعلّقه بـ نوع مُحدد من الشوكولاتة والتي كان يعتبرها بـ مثابة مكافأة لـ مَن يُنجز شيئًا من أوامره .. الـ لفتة ذاتها لم تكن مُقتصرة على الأدوار الرئيسية ، فـ ذات الفكرة تطبّقت على ( خالد المفيدي ) الذي قام بـ تطبيق دور ” كمال ” ، هو بـ دورة كانت له عادة مسح عدسات النظارة حين يزيد توتّره أو يكون منتشيًا بـ عائدٍ مادي من ” عدنان ” .. أشياء مُشابهة لـ الجُملة الأسطورية الخالدة لـ ( Heath Ledger ) حين جسّد شخصية الجوكر الذي اشتهر في ٢٠٠٨ بـ ” Why so seriouse ؟”.

طالَ الإتقان سبب الحرب الأهليّة بين ابناء العمومة الذي جسّده الفنان الشاب ( عبدالله البلوشي ) ؛ ” مازن ” الذي كسَب الجميع في صفّه عند أول مشهد ، تلاعب بـ المشاعر حتى قلبَ كل المُعطيات وكل بادرة تعاطف تجاهه إلى مشاعر صدمة ، استياء ، ورُبما كُره .. فـ مَن يمكنه نسيان المشهد الذي فطر قلب كل من رآه حين تنكّرت ” عِطر ” بـ زي والدة ” مازن ” حتى رائحتها.؟! المشهد الذي كان العلاج بـ الصدمة ذاتها لـ تقبّل العَقَبة ، التعايش معها ، وتخطّي كل جوانبها السلبيّة.

بـ المِثل ، كيف لنا أن ننسى ” مازن ” الذي هدّد طبيبته بـ ” فصل رأسها عن جسدها ” إن حاولت أن تقف في وجه مُخططاته أو تُعرقل سَير أوامره.؟! بـ جانب ( عبدالله ) ظهرت ( إلهام علي ) بـ مستوى لائق بـ دور ” مَيس ” المُوكل إليها ، الفتاة التي عانت من أشد أنواع الصدمات حتى أصيبَت بـ الوَهم الذي أقنعها بـ خيالات كثيرة كـ مَوت أمها وأخيها الأصغر ، بـ الإضافة إلى قناعتها أن أيامها في الحياة باتت معدودة نظرًا لـ إصابتها بـ المرض الخبيث .. وضعت ( إلهام ) بصمة رائعة في المسلسل ولعل أبرز ما نستذكره لها هو مشهد مواجهتها بـ حقيقة حياة أمها وأخيها حيث استطاعت ” مَيس ” استدرار عواطف المتابعين حين التَقت بـ عائلتها بعد فراق استمر لـ خمس سنين.!

مصطلحات رياضية  في مسلسلات ( علاء حمزة )

لا يَخفى على المتابع الواعي الطابع الرياضي وكثرة استخدام مصطلحاته في مسلسلات ( علاء حمزة ) ؛ فـ ” سُلطان مرزوق ” برر تفوّق ” أ. مشاعل ” عليه بـ ” التسخين ” وأن اللعب لم يبدأ بعد ، فـ كان رد الأستاذة هو الوعيد بـ إصابته بـ ” رباط صليبي ” في أرض الملعب إذ أنها تملك ” تكتيكها ” الخاص لـ مواجهة كل حِيَله لـ الحفاظ على بيتها وبناتها من مكائده .. بـ ذات الهوية ، تخلّل بعض حوارات ( عطر الروح ) الـ لمسة الرياضية ، كـ بعض حوارات ” د. عِطر ” مع شخصيات أخرى .. على سبيل المثال : نقاشها مع ابنها ” فوّاز ” حول السيناريو الأجمل لـ الإنتصار ؛ ٣ أهداف في الشوط الأول ، أم هدف حسم في شوط المباراة الثاني.؟ وما يبدو جليًّا أيضًا أن هذا الطابع لم يكسِ الحوارات فقط ، بل امتدّ لـ أرض الواقع حين كانت ( هدى حسين ) تُسطّر أمجادها بـ انتصارات مُتتالية حتى تُوّجت بـ كأس البطولة في نهاية الموسم الرمضاني.

بداية مشوار ( هدى ) في بطولة ( دوري أبطال رمضان ) كان في مجموعة تضم كُلًا من : التشكيك ، النقد النمطي ، والعَجلَة .. راوَدَ البعض فكرة فشل المسلسل إن كان استنساخًا من ( حياة ثانية ) ، كما أن النقد الإعتيادي عاوَد الظهور من جديد ؛ ( هدى ) تُجسّد دور ” محور الكون ” والشخصية القوية ، الذكية ، والتي لا تُهزم أبدًا ، وحُكِمَ على ( عِطر الروح ) بـ التكرار حتى قبل أن يُعرض ، فقط لأن بطلة القصة هي دكتورة نفسية وهو ما تم تجسيده سَلَفًا.

ألحَقت ( هدى حسين ) هزائم نكراء بـ خصومها الثلاثة ؛ فـ النجاح كان مضمونًا لـ المسلسل بعد أول ٣ حلقات إن لم يكن من الحلقة الأولى ، و ” عِطر ” لم تكن بـ تلك القوة التي تجعلها لا تُهزم .. فـ النهاية كانت تورّط الدكتورة بـ عدوٍ قديم وابنته المُختلّة عقليًا التي يجب على ” عِطر ” علاجها أو أن الثمن سـ يكون زوجها وابنها .. أخيرًا وليس آخرًا ، لم تُكرر ( هدى ) عمل غيرها تحت المُسمّى الوظيفي لـ الشخصية المرسومة ، بل إنها رفعت سقف التحدّي لـ كل من سـ يفكر ذات يوم في قَبول عمل يتخلله الطب النفسي مُستقبلًا.

تأهلّت ( هدى حسين ) لـ دور الـ ١٦ كـ مُتصدّرة لـ المجموعة بـ ٣ انتصارات من أصل ٣ .. فـ كان خصمها في هذا الدور هي مُنظّمة ( كان ) لـ التوعية بـ أمراض السرطان حيث كان مسؤولوها مُستاؤون من المعلومات المغلوطة التي يبثّها المسلسل من أعراض ونتائج سرطان الرئة وأنه مرض لا عِلاج له .. كان انتصار ( هدى ) في هذا الدور دراماتيكيًا ، حيث رَبِحَت المُنظّمة جولة الذهاب بـ ١-٠ لكن عادت البطلة في الإياب لـ تقلب النتيجة.

فـ ” مَيس ” لم تكن مصابةً بـ المرض الخبيث أصلًا ، ومعلومة انعدام العلاج كانت مَحض وهم ، وهو مرضها الحقيقي .. فـ تأهلّت ( هدى حسين ) لـ دور الـ ٨ بـ ” ريمونتادا ” تاريخية بـ واقع انتصار ٣-١ في مجموع اللقائين حيث أوقعتها قُرعة دور رُبع النهائي في مواجهة أحد أكثر الأسماء ذكرًا وسط النُقّاد ممن عُرفوا بـ ” اللسع ” بـ حروفهم.

مُنظّمة ( كان ) ضد مسلسل عطر الروح

كانت مواجهة مُرتقبَة تجمع قوى مُتضادة ؛ فِكر x جَهل ، فَن x هدم ، رُقي x همجية ، احترام x استفزاز .. شَنّت الناقدة أولى هجماتها عبر تأييدها التام لـ بيان مُنظّمة ( كان ) ضد المسلسل كونه غير واقعي وينشر أفكارًا مسمومة لـ المُجتمع ويحطّم عزائم كل من يُشاهده والذي قد يكون أحد المصابين – شفاهم الله من بلائهم – وهو ما لاقى قبولًا وتأييدًا من الكثير من مُتابعيها .. الطريف في هذا الهجوم ، أن الناقدة وصفت ( إقبال يوم أقبلت ) بـ ” العمل الكئيب ” ، مُتناسيَة أن كل المعلومات المذكورة فيه صحيحة طبيًّا ، وكذلك تجاهَلت أن أحد مُتابعيها قد يكون مصابًا بـ الباركنسون

وهو ما سـ يؤثر على حالته النفسية كما تعلّمنا جميعًا أن مرضى شلل الرُعاش أحد أكثر البشر حساسية .. بـ الإضافة إلى أن الناقدة الأكاديمية لم تعِ أن كل المساوئ التي ذكرتها صدرت من مريضة مُصابة بـ الوهم وهو ما يعني تَخيّل أحداث لا صِلة لها بـ الواقع ، وما يؤكد ذلك أن ” مَيس ” ذاتها أكّدت وجود علاجات عديدة لـ ” فوّاز ” الذي أوهمها إصابته بـ ورم في الدماغ ، لكنها في نفس الوقت غير مُقتنعة أن لـ دائها دواء.

وهو ما كَشَف دفاع الناقدة المُهترئ إذ أن هذا دليلًا كافيًا لـ عدم دراستها لـ أحداث المسلسل مما جَعل هجمات ( هدى ) المُرتدّة التي تعتمد على ” كسر مصيدة التسلل ” قاتلة ، لـ تقلب ( هدى حسين ) كل التوقعات بـ لقاء ناري ، إلى شُعلة سُرعان ما تم إخمادها دون الحاجة لـ الاستعانة بـ الدفاع المدني.

عادت الناقدة لـ تكون خصم الاستثنائية في نصف النهائي مُتنكّرةً بـ حجة عزّزت بها خط الدفاع ؛ صورة لـ تغريدة المؤلف يشكر إحدى متابعاته على تصحيح فكرة حول المرض الخبيث .. لكن ما جهلته الأكاديمية أن عين ( هدى ) لا تُكسر كـ ” عِطر ” بـ عنصرٍ هَشٍ لا يدل إلا على ضعف المُتابعة والاستيعاب لـ الحِبكة الدرامية التي حاولت الناقدة عزلها عن نُقطة نقدها ، بَيدَ أنه لا مَناص من ذكرها لأنها هي السبب الرئيسي لـ شَن الهجوم البربري في المقام الأول.

بطلة دوري أبطال رمضان

. فـ مثل هكذا حِيَل لا تنطلِ على الخبيرة في المجال ، فـ لم يصعب على ( هدى ) تخطّي هذا الدور لـ تُزف بـ دَعم مُناصريها إلى الدور النهائي من المنافسة حيث كانت المفاجأة .. لم يتقدّم أحدًا لـ المواجهة ، لم يصل أحدًا من المجموعات الأخرى إلى الدور النهائي .. فـ كل المسلسلات بلا استثناء وقعوا في أحد الأخطاء السنوية ؛ حوارات ضعيفة ، سيناريو مُمل ، تكرار طرح بعض القضايا ، المثالية المُفرطة ، جرعة زائدة من الدراما ، و غيرهم الكثير .. فـ تُوّجت ( هدى ) المحفوفة بـ هتافات جماهيرها بـ لقب ( بطلة دوري أبطال رمضان ) عن جدارة ، استحقاق ، وبـ منافسة لم تلبث خمسة عشر حلقة حتى أضافت ( عِطر الروح ) لـ مُتحف النجاحات الذي يشهد عليه الجمهور والزمن.

قدّمت ( هدى حسين ) موادًا دسمةً لـ الساحة الفنيّة أعادت بها نسب المشاهدة المليونية لـ المسلسلات الخليجية، لكنها وبـ ذات العمل تملّكت الشريحة الأوسع من المتابعين ، بات التشويق والإثارة حَصرًا لها ، واحتكرت النجاح المُنقطع النظير .. فـ نعود لـ نُكرر أن ( هدى ) خارج نطاق المقارنات .. فـ المكان مكانها ، الشاشة مُلكها، الزمن زمانها .. والبقية مُجرّد ضيوف في حضرتها.

فيديو مقال عَبَق الفن، أريج التحدّي، شَذَا الإثارة ( عطر الروح ).

أضف تعليقك هنا