قَـهوتُـكِ هي الأروع!

عشاق القهوة

القهوة السلعة الأكثر تداولاً بين القارات بعد النفط، فما حكــايتها!

في قمة الهرم نجد الإسـپـرسو فهي كما يصـفها أحدهم : الإسپرسو لإطاليا كالشمبانيا لفرنسا!،

و يقول آخر من عشاقها ولهاَ

Black as the devil, hot as hell, pure as an angel, sweet as love.

أول جهاز لعمل الإسپرسو صنع في أيطاليا في بداية القرن الماضي. هذا الجهاز الذي أعطى لقهوة الإسبرسو صفتها و مذاقها الخـاص والذي تمتاز به عن سائر أنواع القهوة رغم أنها تذكرني شخصيا بالقهوة التركية!

وفكرة الجهاز هي ببساطة تخلل الماء شبه المغلي ذرات القهوة المطحونة، لتتمازج ذرات القهوة الذائبة و الصلدة مع الزيوت فتعطي مذاقا كريمياً مركزاً و تتكون الرغوة على سطحها. 

تخصص في مذاق القهوة

و يعلم أخصائو و مهتمو التذوق أن للسان خمسة الاف من زغابات التذوق و كذلك نهايات عصبية مختصة باللمس و التحسس لطبيعة المواد. و ميزة المواد الكريمية اللزجة انها تغطي مساحات أوسع من سطح اللسان و تملأ التعرجات والتجاويف مما يغني المذاق وهذا ما يجعل القهوة المركزة الممزوجة بزيتها كالإسبرسو أو المخلوطة بالكريما أكثر شعبية. 

فماذا عساني أقول فالمرء منا يُصابُ بسحرها من أول نظرة لجبهتها المُذهبة، حتى أذا ما أخترق عطرها المسامات و مست سصح اللسان يذوب المرء بغرامها، وأي غرابة في ذلك! فأصلها طيب المذاق و عطرها فواح و طبعها ليّن كالكريما.

هذا اللقاء الحميم يُشبه تناول ذلك الجبن الفرسي العفن بريحة جوراب منسي، فالعارف المجرب لها، لا يشم الجبنة و يمضي هرباً، بل يقضم منها ولو قليلاً ليمزج رائحة العفن بذلك الطعم العجيب ويغمر لسانه لمسة لينة كريمية، حتى أذا بلغ عطاؤها الذروة عزفت في وجدانه لحن أديث الفرنسية: لا لست نادمة على شيء ″ ‘Non je ne regrette rien”.

وشتان ما بين ذلك العفن و أصالة القهوة التي هي موروث ثقافي لكل شعب فيه نصيب، نعم هي ثقافة لكن كيف وصلت الى هنا؟

منشأ القهوة

دخلت القهوة الى أوربا عن طريق تجار البندقية المتاجرون مع اسطنبول والقاهرة، وفي عام ١٦١٥ باعها بائعو اللمونادة المتجولون الي يوم أن فتحت اول قهوة عام ١٦٤٥ في ايطاليا، وعلى غرار بلدان آخرى أثارت ضجةً وجدلاً عندما حاول بعض الكهان تحريمها وزعموا أنها من عمل الشيطان!

أعتقد شخصياً أن السبب الرئيسي في محاولة تحريمها هو التجارة المتنامية للبُن مع الشرق دون سلعة غربية تعدل كفة الميزان، فحاول التجار منعها بأطلاق تسميات و وصفوها بشراب المسلمين و بعون من تجار الدين حاولوا أقناع بابا الفتكان بتحريمها، لكن البابا (كيمن الثامن) كان أكثر حكمة من أن يُخدع ولم يأبه بأفترائهم ظلماً و زوراً، بل طلب أن يجربها أولاً ثم يحكم عليها، فلما حضرت له أَسرته رائحتها فوراً و من ثم بمذاقها، فقال للملئ من حوله نحن أولى بهذا الشراب الرائع، ولأنه يعلم عقلية القوم سدَّ على التجار ذرائعهم فقام بتعميد حبوب القهوة وقال لهم: الآن صارت شراباً مسيحياً فشربوها.

ثم أنتشرت كالنار في الهشيم و من أوربا لبقية أرجاء العالم لا سيما الى أمريكا الجنوبية التي تعتبر اليوم من أهم منتجي القهوة.

زراعة القهوة

زراعة البن تحتاج لأنواع خاصة من التربة، ومناخ استوائي، وتبدأ أشجار البن بإعطاء ثمارها بعد مرور ثلاث إلى أربع سنوات على زراعتها، وحبوبها تكون جاهزةً للحصاد عندما تصبح حمراء اللون، لذلك تحتاج زراعة البن إلى الصَّبر، فجني أرباحها لن يكون في يوم وليلة.

 وقبل قدومها الى أوربا بقرن وقليل من الزمن كانت قد أنتقلت ولجأت من الجزيرة العربية واليمن الى أسطنبول. ففي عام ١٥٥٤ فتحت المقاهي أبوابها أمام الزوار في اسطنبول وكالعادة لاقت بعض من الشغب فالناس عادة أعداء لما يجهلون، ورغم أعمال الشغب والتي كانت بدواعي (دينية) ولا غرابة، وبعد أن أقفلت أبوابها مؤقتاً تخطت تلك الترهات و فتحت المقاهي أبوابها من جديد وأمست قاعدة للمجتمع بكافة طبقاته من جنود، فنانين ومثقفين آخرين، وعززت الهوية القومية الوطنية وخاصةً عندما أصبحت اماكن لتجمع الطبقة السياسية.

القهوة ظاهرة ثقافية

القهوة ظاهرة ثقافية حقاً، و يُحكى أن من عادات الناس في بلاد الأتراك حين يتزاورون رغبة في  تزويج أبنائهم، أن تقدم الفتاة القهوة للمتطفلين و للراغبين الطالبين يدها بالسكر ألا فنجان واحد، هو فنجان الخاطب تضع فيه ملحاً، وأذا ما سكت الخاطب و تجرع قهوته المالحة علم القوم أن تلك أشارة منهُ للأعجابه بها. 

والعرب أذا قصدت ديوان الشيوخ طالبين، وضعوا فنجان القهوة جانباً دون شربه، حتى يأخذون وعداً من شيخ القوم، بأنجاز طلبها. 

ولن أحكي لكم كيف قرأت لي جدتي فنجان القهوة وأنا طفل، ذكرت لي أسم فتاة أحلامي حينها فأعتقدت أن جدتي قديسة، وما زلت ليومي هذا لا أعلم من الواشي لها بأسم تلك الفتاة! أذكر تلك الحادثة كلما سمعت عبد الحليم يغني قارئة الفنجان.

العرب لهم النصيب الأكبر  قبل الف عام في أكتشاف القهوة. وجدوها في جعب العبيد القادمين في سفن التجار مع الحبشة. كان العبيد يلتهمونها طعاماً، فطورها العرب وجعلوها شراباً. وردءاً للترهات الدينية التي حاولت منع تناول ذلك الشراب السحري أدعى تجارها أن فيها دواءً، فنمت تجارتهم وامتلأت موانؤهم بتجارة البن خاصةً في اليمن عبر البحر الأحمر بسفن محملة بالبن من موطنه الأصلي الحبشة.  ففي أثيوبيا وجدت أقدم شجرة بُن في العالم في القرن التاسع ميلادي، وليومنا هذا فأن أجود أنواع حبوب البن عالمياً من أصل أثيوبي من نوع أرابيكا/عربية.

ورغم أن للعرب النصيب الأكبر في أكتشافها و نشرها لكن الأوراق أختلطت عليَّ وأنا احاول معرفة كيفية تطور عملية صنع فنجان القهوة .

 فالمتذوق لها والعارف بأحولها، يجد أنها في صورتها الأبسط و عند الكثيرين الأروع في شكل القهوة التي يشتهر بها أهل الجزيرة العربيَّة، وهي خفيفة، حيث توضع فيها الكثير من حبَّات الهيل، ولا يوجد فيها سكر أبداً، وتقدَّم في فنجان صغير، وتتميَّز بلونها المائل للأصفر أو الأخضر  لأنها قليلة التَّحميص، مما يعطي النَّكهة الأصليَّة لها. واليمنية قريبة منها ولكنها مُبهرة كذلك السودانية تخلط بالزنجبيل و القهوة المغربيَّة يطلق عليها القهوة المعطَّرة، نظراً لما تحتويه من كميَّة بهارات عطريَّة كثيرة.

طرق تحضير القهوة

ولكن القهوة عندي في الذروة في شرقنا الأوسطي تتمثل في القهوة المعروفة في الشام فهي وأن كانت تشبه القهوة التركية، ولكن هناك أختلاف في طريقة الإعداد، حيث يتم هنا غلي الماء أولاً، ثمَّ إضافة البن والسكر، ويتم التحريك جيداً، وأحياناً يجب أن يتم غلي القهوة مرتين أو ثلاث، على عكس التركية، التي ترفع قبل الغليان. 

ولازلت اجهلُ لٍمَ تُسمى عندنا بالقهوة التركية و طرق الأعداد ليست سواء!، نظريتي الشخصية أن القهوة نُقلت الى تركيا و تطورت هناك ثم عادت لنا بحلتها الجديد فألبسناها قلادة آخرى تليق بها فصارت تمتاز عندنا بما لا تمتاز به هناك!

في بيت أبواي طفلاً لم أعرف القهوة حتى أذا ما بلغت الرشد وأشتد عودي، قدمتها هي لي ممزوجة بالحب فكان حبي لهما ليس له نظير. ومازلت ليومي أستثير الدماغ بها ليفرز لي أنزيم الفرح و النشوة كلما شربتها عدت للوراء تذكرت أول رشفة منها، فما هو السحرُ الذي تبعثه رشفة القهوة هذه؟

الذوق والرائحة لهما الدور الأكبر في هذه التجربة الوجدانية وذلك لان تجويف الفم والأنف مرتبطان بشكل مباشر ، فالحاستان مرتبطتان بشكل وثيق و عندما تعملان معًا لتحديد المواد الكيميائية في الطعام و الشراب نحصل على ما هو معروف بالنكهة. النكهة هي إحساس يستخدم العديد من الحواس في آن واحد – مزيج من المذاق ، والملمس ، ودرجة الحرارة (فاللسان يحس بالحرارة كذلك) ، ورائحة ما نأكله أو نشربة.

عندما تأخذ قضمة من شيء مثل الخبز الطازج ، فإن براعم التذوق على لسانك وفمك تجمع معلومات حول التركيب الكيميائي لهذا الطبق. يتكون كل برعم طعم من حوالي 50 إلى 100 خلية تسمى الخلايا المستقبِلة. عندما يتم تنشيط هذه الخلايا ، فإنها ترسل إشارات إلى منطقة خاصة في الدماغ.

لدى البشر 450 نوعًا مختلفًا من مستقبلات الرائحة، لكن ما نحس فيه كرائحة أو طعم واحدة هو في حقيقة الأمر مزيج من روائح عدة (نكهة)، 

ولذلك فهناك الملايين من تلك الخلطات والتمازج بين الطعم والرائحة يشعرنا بالغبطة علاوة على استدعاء اجمل الذكريات.

هذا هو السبب الحقيقي الذي يجعلنا نميز بين الطبق نفسه من صنع أمهاتنا او من صنع الآخرين.

لكن لماذا بعض مما نتناول يشعرنا بالغبطة علاوة على أسدعاء اجمل الذكريات!

ارتباط رائحة الطعام والشراب بالذكريات

إن دور الرائحة في النكهة هو السبب الرئيسي في أن للطعام والشراب إمكانية أستدعاء الذكريا بعملية لا إرادية ولكنها ما زالت غامضة نوعاً ما. ورغم الغموض لكنها دون شك مرتبطة بمواقع ذات وضائف محددة في الدماغ، فكل من مركز الشم و قشرة الدماغ (الإنسولا) مرتبطان بجزء من الدماغ أسمه Amygdala ارتباطًا وثيقًا ، و هذه المنطقة تختص بالتعلم العاطفي.

وهناك أرتباط آخر مهم جداً وهو الأرتباط بمناطق دماغية مختصة بالذكريات. هذه الروابط بين الحواس و تلك المناطق في الدماغ هي التي تستدعي لنا تلك التجربة من المشاعر والذكريات.

شاهدت في أحد البرامج الوثائقية أن من أقدم المقاهي في عاصمة الشرق و الغرب أسطنبول مقهى قديم مازال يعد القهوة التركية التقليدية أسمه Mandabatmaz وتعني الكلمة قهوة كثيفة يغرق الثور برغوتها!

 تلهفت لتجربتها لجمال وصفها، حتى حان موعد اللقاء في أسطنبول فقصدتها باكرا ووقفت أنتظر حتى فتحت ابوابها، ثم وضعت لي في طريق المشاة طاولة وكرسي صغيرين، و آخيراً حصلت على ذلك الفنجان الذي لم يكن كما توقعت! فطلبت من النادل آخر ولكن أقوى حتى حصلت قليلاً على جزء من ما كنت أبحث عنه، ألا أني ما زلت أفقد شيئاً آخر!

ذلك لأن القهوة كالوردة لا متعة للمرء اذا قدمها لنفسه بنفسه، أنما هي أجمل و أروع مقدمة أليه من  يد عزيز أو حبيب. لذا ستبقى قـهـوتــكِ هي الأروع، فهي كما وصفها شاعر:

أشهابٌ في دجى الليل ثَقَبْ

 أم سراجٌ نارهُ ماءُ العِنَبْ 

أم عروسٌ فوق كرسيِّ يدي 

يجتليها اللهو في عقد الحببْ 

يا شقيقَ النفسِ، أنفاس الصَّبا

 بردتْ، والصبحُ لاشكّ اقتربْ

فيديو مقال قَـهوتُـكِ هي الأروع!

أضف تعليقك هنا