مجمل الأحوال السياسية

منشأ الاستعمار

كتب الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار  عن  أمهات السياسة الحاضرة ـ في عصره ـ  وتكلم على بعضها ،ووعد بالكلام على باقيها ، وإنجازًا للموعد تحت عنوان : ” مجمل الأحوال السياسية ” قائلا :  نأتي على بيانها بالإجمال على الوجه الذي يوجب العظة والاعتبار مبتدئين بتمهيد في بيان الاستعمار الذي هو منشأ هذه الأحوال فنقول : من طبيعة العمران البشري استيلاء القوي على الضعيف ، ومن هنا كان طلب الفتوح والتغلب طبيعيًّا في البشر.

ولم يكن في العصور الأولى طريق للفتوح والتغلب إلا الحرب العوان ، التي لم يُلْقِ الإنسان أوزارها عن عاتقه في دور من الأدوار ، ولقد انطبعت الأنفس عليها بالعمل المتكرر وحتى كادت تكون مقصودة لذاتها ، أعني الفتك المجرد عن ملاحظة المنفعة التي عليها مدار جميع أعمال الإنسان.

تغيير الاسلام لمفهوم الاستعمار

وأول تغيير مهم حصل في تاريخ الحرب فخفف ويلاتها وجعلها في ضمن دائرة معقولة ما جاء به الدين الإسلامي ، وإن لم يجر عليه المسلمون في بعض حروبهم وغزواتهم ، وسنفرد للكلام على تاريخ الحروب فصلاً مخصوصًا ، ولكنني الآن بإثبات الآية القرآنية الشريفة التي تسمى ( آية الجهاد ) وما يتلوها من الآيات المبينة حكمة الحرب ، وسبب الإذن فيه ، وما يشترط في المحاربين إثباتًا لقولنا وهي : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ } ( الحج : 39-41 ).

وهذه الآيات صريحة في أن الفائدة من الحرب ينبغي أن يلاحظ منها منفعة المحاربين ( بفتح الراء ) بالإرشاد إلى إزالة المنكرات وعمل المعروف بواسطة التعليم ، لا بواسطة الجبر والإلزام ، وهذا هو الذي تدعيه الأمم الأوربية اليوم ، حيث يزعمون أن غرضهم من الفتوحات نشر المدنية وتهذيب الأمم المتوحشة . وإذا أنكرنا صدقهم في هذه الدعوى ، وجزمنا بأن الغرض الصحيح تحويل مجاري الثروة من البلاد التي يفتحونها إلى بلادهم ، وفتح أبواب الرزق لأممهم ، فلا ننكر عليهم الاجتهاد في تخفيف مصائب الحروب والتباعد عنها ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

أسس  الدولة المحاربة

والأصل الذي تعتمد عليه تلك الأمم في ذلك ، وهو أساس مدنيتهم ودعامة قوتهم : الاقتصاد وتوفير الثروة ، ولذلك جعلوا وسيلة الفتوح الكبرى الشركات التجارية التي تستولي على الأفكار والعقول بواسطة التربية والتعليم ، ونشر لغات أممهم وآدابها ، وغيروا اسم الفتوح والتغلب فسموه استعمارًا ، واكتفوا بالقبض على زمام السلطة بالفعل ، وأبقوا للأمراء الشرقيين ألقابهم الضخمة يتمتعون بها ؛ ففي الهند نحو من تسعين ملكًا ما بين : نواب ( الأمير المسلم ) ، وراجا (الأمير الوثني) ، وليس لهم من الأمر شيء إلا ما ينفذون به إرادة الحكمدار الإنكليزي ويأتمرون بأوامره ( إلا قليلاً منهم ).

انتشار وباء الاستعمار

وتبارت تلك الأمم في الاستعمار ، وانحدرت على الشرق انحدار الغيث المدرار حتى لم يبق صقع من أصقاعه ، ولا قطر من أقطاره إلا وتدفق عليه هذا السيل المنهمر ، فمنها ما أدركته بوادره ، ولا ندري ماذا تكون أواخره ، وبالجملة لم تبق مدينة ولا قرية إلا وأصابها شيء من رشاشه ، فإن لم يصبها وابل فطل ، هذا هو الاستعمار الذي هو منشأ جميع المشاكل السياسية الحاضرة ، ومثار الخلاف بين الأمم ، ومولد الفتن بين الدول ، وقد ذكرنا لك بعض هذه المشاكل  .

فيديو مقال مجمل الأحوال السياسية

أضف تعليقك هنا

هيثم صوان

الكاتب هيثم صوان