47 يوماً وام محمد تنتظر أن تزرع القبلة الأخيرة

دعوت له بالرحمه ولوالدته بالصبر، فإذا بي أدعو لنفسي ولفلذة كبدي، محمد كان مسالماً ومحبوباً بين الجميع، حملته على كتفي وزففته بكل حب وفرح، زغردت له في كل أرجاء القرية، عُمل لمحمد عرس لم يعمل مثله في عارورة.

خبر عاجل !

في مساء السابع والعشرين من تشرين الثاني من عام 2015 في قرية عارورة، تقول أم محمد، كالعادة تلفاز المنزل يبث أخبار اليوم بدون إنقطاع، خاصة مع بداية اشتداد هبة القدس، كنت جالسة أنا وزوجي نتابع نشرات الأخبار التي تملأ الحزن والحسرة في قلوبنا على ما نتعرض له نحن الشعب الفلسطيني من عقود من ظلم وتعذيب وقتل، وفجأة يتوسط الشاشة شريط أحمر مبدوء في خبر عاجل، أنباء عن إستشهاد شاب فلسطيني قرب مفرق قرية سنجل، أصابتني غصة في قلبي وبدأ جسدي يرتجف ودعوت للشهيد بالرحمة وإلى والدته بالصبر.
بعد مرور دقائق معدودة على نبأ إستشهاد الشاب، شعور رهيب إنتباني، ممزوج بقلق ورعب وأحسست أن هناك مصيبة قادمة، وكانت هذه المرة الاولى التي يصيبني مثل هذا الشعور، ومن أجل أن يرتاح قلبي بدأت أتصل على أبنائي، سعد في القرية، وحسن دخل المنزل قبل أن أتصل به، وفلذة كبدي محمد لا يجيب!

وفي تمام الساعة السادسة مساءً، تلقى رجل من القرية يعمل في أجهزة المخابرات الفلسطينية إتصالاً هاتفياً، يخبره أن الشاب الذي أستشهد عند مفرق قرية سنجل من قرية عارورة ويدعى محمد صالح!، هذا الإسم يطلق على أربعة أو خمسة شبابٍ من القرية، انتشر الخبر بسرعة البرق في القرية، أن محمد صالح قد إستشهد، كان الخبر كالصاعقة هز الصغير فيها قبل الكبير، نزلت دموع النساء قبل معرفة من هو بالتحديد الشهيد، وسارع كل شخص للإتصال على محمد صالح !، كلهم أجابوا على الإتصال إلا ذلك الشهيد!، وتلك الأم لم تكن قد سمعت أي شيئ عن خبر إستشهاد شاب من القرية بعد، وما كان همها في تلك اللحظة إلا أن يجيب ولدها محمد على اتصالاتها التي تجاوزت المئة مرة، وفجأة يرن هاتف منزل ام محمد :

ام محمد: الو محمد ؟؟
خالة محمد: لا يختي، مين هو الشهيد الى مستشهد في بلدكم ؟
أم محمد: شهيد !
خالة محمد: ليش انتي ما سمعتي في الخبر! بحكو إسمو محمد صالح ؟
أم محمد: اه هاد محمد إبني أكيد !!

ثم بدأ الهاتف يرن بصورة متواصلة ليتفقدوا إن كان الشهيد هو محمد منير حسن صالح، وبحرقة وقلب مكسور تجيب والدته، نعم إنه إبني محمد.

تقول أم محمد، إستيقظ محمد من نومه والنشاط والسرور يملؤ عيناه، أعددت لله وجبه الفطور ولم أكن اعلم أنها أخر وجبة أعدها له في هذه الحياة، زرع قبلة على رأسي وأخبرني أنه ذاهبٌ اليوم للاتفاق على عمل جديد، ثم صعد إلى منزله الذي يقع في الدور الثاني من منزل العائلة والذي يعده للزواج، كانت هذه هي المرة الأخيرة التي أتلقى فيها قبلة من شفاه ولدي محمد !

محمد ذو جسد نحيف، وبشرة قمحية، وعيناه بلون البن، وشعر بلون سنابل القمح، وقلب مشرق، ولسان معسول، وخفيف الظل.

إستشهاد مجهول

اختلفت الروايات حول كيفية استشهاد محمد، فقوات الإحتلال الإسرائيلي قالت أنه كان يمتلك سلاحً، في ذلك اليوم كانت الامطار قد بدأت بالتساقط والجو أصبح شديد البرودة، كان محمد جالساً في المقعد الخلفي في مركبة أحد معارفه الذي أقله من مدينة رام الله حتى مفرق قرية سنجل، وعندما وصلوا إلى الطريق الرئيسي التابع لسيطرة الإحتلال الإسرائيلي القريب من قرية سنجل، اعترضهم جيب حرس حدود إسرائيلي وأوقف السيارة التي بها محمد في الكرسي الخلفي والسائق وصديق اخر لمحمد يجلس في الكرسي الأمامي، نزل من الجيب ثلاثة جنود مدججين بالسلاح ، وبعربيةٍ ثقيلة ” انزلوا انزلوا “، فتح السائق وصديقه ابواب السيارة ونزلوا منها ، ومحمد بقي جالسا في الكرسي الخلفي يرفض النزول.

وبحسب أقوال جيش الإحتلال الإسرائيلي أنهم عندما ذهبوا بإتجاه محمد الذي رفض النزول من السيارة، وبدأ الجنود بالصراخ ” انزل وارفع ايديك “، رفع محمد المسدس ليطلق النار على الجنود ، وما كان منهم إلا أن يبادلوه بصلياتٍ من الرصاص قدرت بثلاثين رصاصة ، مزقت رأسه وعنقه وجسده الحديدي، واعتقال السائق وصديق محمد.
أما عائلة محمد، قد نفت ما قد روته قوات الإحتلال الإسرائيلي حول طريقة إستشهاد محمد، وأكدت أنها رواية من قبل الإحتلال من أجل تبرير عملهم الشنيع.

زفاف بعد الصقيع

يقول والد الشهيد، السيد منير صالح، في تمام الساعة الثامنة مساء، بدأنا بالتواصل مع الارتباط العسكري الإسرائيلي للاتفاق على موعد لتسليم جثمان الشهيد محمد، ووافق الإرتباط على تسليم الجثمان بشرط أن يتم التسليم في المساء وأن يتم دفنه مباشرة من دون إحداث أي ضجة، لكن عائلة الشهيد رفضت الشرط، خاصة أم محمد التي أقسمت ان يخرج محمد من منزله كالعريس ويزف في كل شوارع قريته، وبقي جثمانه محجوزاً عند قوات الإحتلال لمدة 47 يوماً.

مرت 47 يوماً، وقلب أمٍ مكسور يعد الدقائق والساعات للقاء فلذة كبدها، لترسم على جبين ولدها تلك القبلة التي رسمها محمد على جبين والدته صباح يوم إستشهاده، 47 يوماً مروا ولم تترك أم محمد مظاهرة لإستلام جثامين الشهداء إلا وكانت أول المشاركين فيها، إلى ان أعلن الإحتلال عن تسليم جثمان محمد يوم الجمعة، دون أي شروط، وأعلنت العائلة يوم السبت موعداً لزفاف محمد.

أوفت الأم بقسمها ولم تترك ولدها محمد أبداً، حيث شاركت في إحضار جثمانه وشاركت في حمله بين الجموع، ودع محمد سريره ومنزله وعائلته وكل أهل قريته، وشيع جثمانه وسط الهتافات والزغاريد وزخات الرصاص الممزوجة بالأمطار.

الشهيد نجمة الليل التي ترشد من تاه عن الطريق، وتبقى الكلمات تحاول أن تصفه ولكن هيهات، فهذا هو الشهيد …. لروحك السلام.

فيديو مقال 47 يوماً وام محمد تنتظر أن تزرع القبلة الأخيرة

أضف تعليقك هنا

إيهاب خصيب

صحفي من فلسطين

Snapchat ➡ ehabkhaseeb