يحدث أن تعبّر كرة القدم قومياً

جرعتي القومية الزائدة

كنت في كثير من الجلسات الخاصة التي أجلسها مع بعض الأصدقاء، أتعرض إلى التهكم والسخرية جرّاء الجرعة الزائدة في الخطاب القومي الذي أتبناه سياسة واجتماعا وثقافة. وكنت في جميع الجلسات ذلك الغريب في حضرة العولمة المزعومة وانفتاح الثقافات، أصارع جيلا بأكمله يقفز قفز عشواء على مفاهيم عروبته، ولم أكن في يوم من الأيام ذلك المنهزم إزاء ما يقولون فأنا من الذين تربوا على خطابات عبد الناصر.  وإنْ لم أكن من أبناء جيل الستينيات، وقد تعلمت من فلسفة ساطع الحصري ومشيل عفلق وعصمت سيف الدولة ونديم بيطار كلّ ما يمكن أن يوحّد ولا يفرّق.

وكنت على يقين أن أحكام هؤلاء تسيّرها خلفيات إيديولوجية أحيانا، أو تنبع من مكابرة حينا آخر، فبعضهم يدّعي أنّ البعد الإسلامي أكبر من ضيق القوميات هذا، ويرى آخر أن العرب لن يتوحدوا أبدا عمل بمقولة “اتفق العرب ألا يتفقوا”، ويتجه آخر إلى انصياع أعمى بحداثة الغرب وإن أحرجته في ذاته في بعض الأحيان. يبقى هذا الأمر في اعتقادي معلقا إلى أن يأتي ما يفضحه، ويكشف زلات الذّات أمام سطوة التاريخ المشترك، وهذا ما حدث بالفعل، فقد كشفت لنا مباريات كأس العالم لكرة القدم في روسيا هذا العام 2018 ما لم نكن نتوقع من النفس العروبي الذي صاحب شعور البعض وهم يتابعون على شاشات التلفاز مباريات المنتخبات العربية، ويكفي أن أذكر لك نماذج على عجل حتى تتبيّن ذلك.

تجلي القومية في متابعة كرة القدم

سأنطلق من حدث عايشته يوم مباراة مصر ضد الفريق الأوروغواي، يومها جلست في المقهى قبالة صديق يحمل نفسا إسلاميا لطالما حدّثته عن البعد القومي الذي يوحّد أمتنا العربية، وقد كان من المكابرين رغم ما تفضحه زلات اللسان في حديثه في كثير من الأحيان، كان هذا الصديق مشجعا وفيا لمصر طيلة المباراة، وكنت في كلّ ذلك متابعا وفيا لملامح وجهه ونعرته القومية التي لا تفارق حركاته وتفاعلاته مع المباراة.

ولم يكن الأخوة في الجزائر يوم مشاركة المنتخب التونسي ضد المنتخب الإنكليزي أقل شأنا، فقد حركهم الشعور القومي بأنْ جلسوا حشودا أمام شاشات عملاقة يشجعون تونس بعد أن ثارت في داخلهم رابطة اللّغة والأرض والتاريخ المشترك، وكذلك شجعت الجماهير التونسية منتخب المغرب ضد البرتغال، وقد كانت المقاهي شبه ممتلئة تجمعها وحدة المصير. ولم تستثني الشعوب العربية منتخب السعودية رغم انتكاسات السياسة، وما حدث أثناء التصويت لاحتضان كأس العالم ضد المغرب الشقيق.

الانتماء إلى هذا الوطن الكبير

لا أظن أن هذا التوصيف محض تعاطف يخطّه كاتب مثلي يطمح فيما يطمح إلى هذا الانتماء الكبير، ولا أعتقد أنّ هذا محض اقتناص للحظات كرة القدم خدمة للمشروع القومي. وإنّما هي حالة موجود في الواقع نرى أنّها تستحق الالتفات لما تحمله من أبعاد نبيلة تعكس عمق تاريخنا المشترك.

إنّ ما قامت به الجماهير العربية في كأس العالم بروسيا 2018 امتحان قومي يعكس عاطفة الشعوب وشعورها بالانتماء إلى هذا الوطن الكبير رغم خيبات الأمل المتكرّرة، ورغم ما صاحب المشروع القومي من انتكاسات. إنّنا أمام سليقة وفطرة قومية ينقصها وعي حقيقي يحوّل هذا الشعور إلى واقع سياسي، فما فعلته كرة القدم ليس إلا كشفا لشعور دفين بين هذه الدول يعكس وحدة في اللغة والأرض والتاريخ المشترك، فيحدث أن تعبّر كرة القدم قوميا ما عجزت عنه المؤتمرات والملتقيات السياسية.

لم يبق لي في نهاية هذه السطور إلاّ  أن أدعو القارئ العربي إلى أن يترك عنان شعوره القومي يعبّر عن حاله دون أن يقيّده بأوهام تعطّل حركة وجوده وفهم ذاته ضمن سيرورة التاريخ وفي تفاعله مع جلّ القوميات الأخرى، فخطوات التقدّم الحق مرهونة بالإجابة عن سؤال من نحن؟.

فيديو مقال يحدث أن تعبّر كرة القدم قوميا

أضف تعليقك هنا