التاريخ لا يعيد نفسه

نظرة “الصحويون” للمجتمع

رأى “الصحويون” أن المجتمع جاهل وغافل، وأن غفوته قد طالت، وآن الأوان لإيقاظه من غفوته، حتى يجني فيما بعد ثمار تلك الصحوة. وقد كان، ورأى المجتمع ثمار تلك الصحوة، ثماراً ملطخةً بدماء أُناس أبرياء، كانت هذه الثمار عبارة عن تفجيرات لمنشآت صناعية، ودوائر حكومية، ومجمعات سكنيةٍ وأسواق تجارية، باختصار كانت هذه الثمار هي تدمير وطن. وهنا سنستذكر تاريخاً مهما لنحكي الحكاية منذ البداية عن هؤلاء “الصحويين”.

دعاة الصحوة

إن ما يسمى بالصحوة، ما هي إلا كبوة تضاف إلى كبوات سابقه. ثم إن دعاة الصحوة يريدون العودة بالمجتمع لعقود مضت، بل ويسعون أيضا إلى تأليب الرأي العام، وصنع نمط معين وفق مبادئهم ومن ثم يصوّرونه للعامة أنه هو رأي الشرع. وهنا سأحاول تبسيط الأمر لفهم فكر هؤلاء.

و لنقل مثلاً أن هناك داعية ما، يخطب في الناس عن ضرورة التماسك الأُسري، ثم يعرّج على ذكر قيادة المرأة، أو دور السينما، ثم يأخذك وعن عمد إلى تصوّر مشهد معين، وهو أن إحدى قريباتك تريد أن تقود سيارة، ويضع أمامك سؤالا وليكن: ما هو موقفك من هذا؟ ومن ثم يضع أمامك خيارين، وهذا أيضا عن عمد حتى لا يدع أمامك مجالا لتفكر في خيارات أخرى، ولا يريدك أن تحاور أو تسأل، ما يريده منك فقط هو الاقتناع .

وهنا يصبح أمامك اختيار واحد من هذين الاختيارين، وهما: إما أن تدعها تخرج هكذا وتقود أمام الرجال وأمام الكاميرات، وتصبح فريسة للذئاب البشرية، وتكون حديثا لكل من هب ودب في المجالس. ثم يبدأ هنا بطرح الأسئلة المعتادة من هؤلاء: هل الغيارى يفعلون ذالك؟ هل من يخشون على أخواتهم وزوجاتهم يسمحون بهذا؟ تالله إنهم لمن الغافلين! وكل هذا ليشعرك شيئا فشيئا، بأن قبولك لأمر كهذا، هو انتقاص من رجولتك فماذا أنت فاعل إذاً؟

وهنا يأتي الاختيار الثاني الذي حدده مسبقا وهو: ألا تسمح بهذا أن يحدث، وأن تقف وقفة رجل غيور على أهله، كي يبقين ولا يقدن السيارات، وأن تمنعهن من ذالك، حتى وأن كلّف هذا الأمر حرق سياراتهن مثلا. وهنا مضمون الرسالة، أن تملك زمام الأمور بالقوة والإجبار، وربما أحيانا بالإرهاب، وهو بذالك يريد أن يصل بك لتشعر تماما، بأنك في حالة سبات وغفلة، وأن هذا الداعية، ما هو إلا مصلح يريد فقط إيقاظك، ليصل ويستقر في ذهنك، أن هذه هي الصحوة التي طال انتظارها.

إرهاصات الصحوة

إن حادثة اقتحام الحرم في العام 1979م، كان لها أثر بالغ في عقلية وخطط “الصحويين”، فقد ظهر مصطلح الصحوة للعلن بعد تلك الحادثة بأعوام قليلة. لا ينبغي تجاهل أمر هام، وهو أن تلك الصحوة، كانت امتدادا لآراء معارضة لكل ما هو جديد على المجتمع، ورغم أن تلك الآراء لم تخرج عن كونها مجرد كتابات و خطب، إلا أنها كانت تمثّل إرهاصات لتلك الصحوة، التي خرجت للعلن بشكل منظم فيما بعد، وهذا ما حدث بالفعل.

ولأن حقبة الستينات والسبعينات، كانت عصيبة و مزدحمة بأحداث غيرت من شكل المنطقة، كان لأصحاب تيار الإسلام السياسي مشروع يتم تجهيزه، وكانت تلك الحقبة مناسبة لهم، من حيث انشغال الدولة بأحداث كبيرة متتالية. وهنا بدء “الصحويون” بالتجهيز والإعداد، لمرحلة “التمكين” قبل أن يظهروا للعلن ويبدؤوا بترويج مشروعهم، الذي سُمي بالصحوة ومن ثم بالإصلاح، وهو في حقيقته مشروع كبوة وهدم، يهدُف إلى إعادة المجتمع بأكمله إلى قرون قد مضت، وفرض وصاية على الدولة، وإجبار المجتمع بقبول آراء معينه، وفق رؤيتهم هم وحدهم.

ووصل بهم الأمر أن نشروا ما أسموه بالمطالب، وكان في محتواها تدخلا في الشؤون السياسية، والقرار السيادي للدولة، كعقد أو إلغاء الاتفاقيات مع الدول، والانضمام للمعاهدات، و كانت مطالبهم تلك، تؤدي بطريقة أو بأخرى إلى محاولة إنشاء دولة داخل الدولة، وراهنوا على حدوث انفلات امني نتيجة العمليات الإرهابية المتتالية، وأن زعزعة الأمن هي السبيل للوصول لأهدافهم.

مرحلة الصدام ومحاربة الإرهاب

وما أن رأى أولئك “الصحويون” في الداخل والخارج، أن أجندتهم لن تنفذ، بدئوا بالانتقام وكان الصدام. اخذوا يرهبون الآمنين من مواطنين ومقيمين على حد سواء. وبدأت العمليات الإرهابية بدءًا بعملية تفجير العليا العام 1995م، ثم تفجير أبراج الخبر العام 1996م، وبدأت الدولة بمحاربة هذا الإرهاب، وإحباط محاولات تفجير أخرى، وبلغ هذا الإرهاب ذروته بتنفيذ أربع عمليات إرهابية في العام 2003 م، كان أبرزها تفجير مجمع المحيا السكني، وتبنى حينها تنظيم القاعدة العملية،

ويا للمصادفة! فقد انفردت قناة الجزيرة، ببث تسجيل مصوّر لمنفذي العملية، وكانت بمثابة منبر لهم، أعلنوا فيه مسؤوليتهم عن التفجيرات. وبالفعل طبقت الذراع الإعلامية للنظام في قطر، شعارها الشهير “الجزيرة منبر من لا منبر له” وبالمناسبة، فقد كان هذا المنبر أيضا منبرا لأولئك “الصحويين” الّذين مافتئوا يكفّرون الدولة، ويصفون الأنظمة والقوانين بالكفرية، وأن كل ما جدّ على المجتمع ما هو إلا تغريب وإفساد، وهم أنفسهم من حرّموا اللواقط الفضائية سابقا.

ثم بعد ذالك اخذوا يتسابقون على الظهور في القنوات الفضائية! وهذا بالفعل لأمر يدعو للسخرية. استمرت العمليات الإرهابية طيلة العام 2004 م، الذي شهد أكثر عمليات إرهابية نُفذت أو تم إحباطها، وكان هذا الإحباط للعمليات الإرهابية، هو ثمرة نهج أمني جديد، وهو الحرب الاستباقية على الإرهاب.

التلوّن

كان “الصحويون” يستنكرون أحيانا العمليات الإرهابية، وفي أحيان أخرى يشيدون بمنفذي العمليات، ويصفونهم بـ”شباب الجهاد”. كانوا يصفون من يفجر نفسه بالانتحاري، وفي أحيان أخرى يصفونه بالاستشهادي. وهنا تنكشف سمة مميزه من سمات هؤلاء وهي التلوّن، يتراجعون عن أفكار معينه كانوا ينتهجونها في ما مضى، ومن ثم تظهر هذه الأفكار مرة أخرى في بيانات واقتراحات، كتلك التي اقترحوها لوقف الإرهاب، الذي اكتفوا بإطلاق تسمية العنف عليه بدل إرهاب.

وهنا أيضا يظهر جلياً التلاعب بالمصطلحات من قبل هؤلاء، وسأذكر هنا مقترحين فقط من تلك المقترحات وهما: وقف تطوير المناهج، والتي بالمناسبة كان أحد من أشرف على وضعها، شقيق أحد كبار منظّري تنظيم الإخوان، والاقتراح الآخر هو: إعادة الأئمة الّذين أُوقفوا بسبب تجاوزات صدرت منهم.

وهنا نستنتج من هذين المقترحين،  استشعار “الصحويون” الخطر من تطوير المناهج، التي يرون فيها سبيلا للوصول والتأثير في عقول الطلاب، وهذا ما دفعهم لطلب وقف تطوير المناهج، وأيضا استشعارهم الخطر من تنحية أئمة معينين، ورأوا في ذالك تحجيما لهم، لأن هؤلاء الأئمة يمثلون لهم الانتشار والتغلغل داخل المجتمع، للتأثير في توجهاته ولنشر أفكارهم على نطاق واسع، ومن ثم استخدام المتأثرين بأفكارهم لتحقيق أهداف الصحوة. وهنا ألفت الانتباه إلى أن هؤلاء “الصحويون” ربطوا بين تحقيق مطالبهم، وانتهاء الإرهاب وسأترك للقارئ استنتاج ربطهم هذا.

التاريخ لا يعيد نفسه

يزعم “الصحويون” أن أفكارهم ما هي إلا إصلاح للمجتمع مما شابه من فساد، وانحلال وتغريب، ورأوا في كل ما هو جديد على المجتمع إفساداً له وخاصةً كل ما هو غربي، وكأن بالغربي هذا كما صوّرة هؤلاء, مخلوق فاسد مفسد ونحن الملائكيون! وهنا أتساءل، هل يريد أولئك مثلا أن نعيش في كوكب آخر، بعيدا عن هؤلاء الغربيين وبعيدا عن البشرية جمعاء؟

إن ما صرّح به أولئك “الصحويين” ما هو إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد، أما ما يخفونه عنك، فهو تلقفهم لمبادئ تنظيم الإخوان، وانتهاج نهجهم في توسيع نطاق انتشارهم، ونشاطهم والسعي لامتلاك النفوذ داخل الأنظمة، والتغلغل في أحشاء المجتمع والتحكم بمفاصل الدولة، وصولاً إلى إقامة حكومة إسلاموية. سواءٌ أكان “الصحويون” أو القاعدة أو تنظيم الإخوان،  فهم جميعا يتفقون على تكفير جميع المسلمين – ماداموا لم يتفقوا معهم في آراءهم – ويتفقون أيضا على ضرورة محاربة من يخالفهم – لا أن يتحاوروا معه – ويتفقون أيضا على ضرورة “التمكين” و استعادة “أمجاد الخلافة”.

هل الصحوة بقتل الأبرياء من كافة الأعراق والأديان والطوائف؟

في النهاية أتساءل عن تلك الصحوة التي نظّروا لها طيلة تلك السنوات، هل الصحوة بقتل الأبرياء من كافة الأعراق والأديان والطوائف؟ هل الصحوة بتفجير المنشآت الصناعية، والدوائر الحكومية، والمجمعات السكنية والأسواق التجارية؟ هل الصحوة بتدمير مكتسبات الوطن؟ هل الصحوة بعدم التحاور مع الآخر، واستحلال دم كل من خالفك الرأي؟

كان ذلك جزءاً يسيراً من تاريخ الصحوة، وعلينا تذكّر ذالك التاريخ الدموي المتلوّن، ولن يكون لهؤلاء “الصحويون” مرادهم بأن يعيدوا تكرار التاريخ مرة أخرى. إن مقولة “التاريخ يعيد نفسه” لهي مقولة خاطئة تماما، فالتاريخ لا يعيد نفسه بل الأخطاء المرتكبة فيما مضى، هي التي تُعاد وتُرتكب مرة أخرى في وقت آخر.

فيما سبق، اتضح لنا رؤية هؤلاء “الصحويون” بشكل جلي، وهي إما دولة داخل الدولة – لتمكينهم وفرض وصايتهم على المجتمع ومن ثم إنشاء ما يسمونه بالخلافة الراشدة – وإما الفوضى. وينبغي علينا جميعا، إدراك أن تاريخ الصحوة مليءٌ بالتلوّن والرجعية والدموية، ولا مجال للانسياق وراء هؤلاء ليأخذونا إلى القرون الوسطى، على المجتمع بأكمله أن يعي تماما أن هذا الزمان، هو زمن التغييرات الكبرى ولا مجال لتكرار أخطاء الماضي، الذي يُفترض أن تعلمنا منه جميعا درسا مهما وهو الولاء لهذا الوطن، والسير نحو المستقبل، لا إلى الماضي.

فيديو مقال التاريخ لا يعيد نفسه

أضف تعليقك هنا