أيام الثلاثاء – #قصة

عتاب النفس

ها أنا هنا أصارح، ما كان هو بي جارح. هو أو أنا اليوم طارح. هنا على قارعة الطريق، وقد باتت ملابسي كالغريق أجلس أعاتب نفسي ولو لي أن أكون لها بصافع. فما بي انعقد إذ قابلتها فيفنى كل ما في معجمي كما لو كنت بأجنبي أعجمي، هذه قصتي، أرويها ويا حسرتي، على ما ضاع من بين يدي إذ هان لساني عن تكلم يوما في ذلك الجحر كنت جالسا، من الشباك ناظرا إلى أفق غير ذي أمد.

أناظر أماطل لعل اليوم بنافد. فمرت بجانبي بفستانها الأبيض بشفاه أحمر، ولمى منمق كالسراب سرت بجانبي كلمح البصر. ولو طالت لحظة إذ عيني بها تلتقي.جلست بجانبي ولم يك بيدي من حيلة. أن يتزحزح رمشي لبرهة عن جمال ليس له في ذهني من مشابه، وما أنا بشاعر عكاظ. لكن أدرّ عن شعر قد دس لي في جعبتي من مرأى روحي لها لأول مرة. فنسيت نفسي كل حلوة ومرة، ونوى الكلام أن يسري من فمي ومقلتي وكل مخرج.

دستوري الغبي

لكن احتفظت بحقي بالصمت المدرج في دستوري خوفا لما قد يسير بسفني لأي حرج. وليت الواقع لي كما هي الأسطر أمحوها وأرسمها كما تشتهي الأنفس. وأطلب من سلطان الهوى قصة من وحي الخيال، فيوحي إلي بخمس وست وعشر تتالى لي. ويا ويلي إذ أنا أمام هول جمالها على أرض الواقع.

ومر أحد واثنان متمتعا بجمال فتان.يجلس بجانبي بدون صوت. لسانان يتحدثان حتى جاء الثلاثاء وهي تشغل روحي بالرخاء والشقاء، كنت جالسا في محطة الباص أنتظر مغادرا للمنزل والمطر من فوق يهطل على لوح من الزجاج يسقط، فلمحت خيالا من السراب يظهر، فيجلس بجانبي وجه حفظته كله بشتى أوصافه هي نفسها التي تجلس بجانبي في الصف، فارتبكت وعمني من مختلف ألوان الخوف، وتجمدت وما دريت في قاموسي من حرف، فأفسحت لها مبتسما على الكرسي البارد كي تجلس بجانبي وددت أن أخبرها، لكن اكتفيت بالتعرف على اسمها وابتسامة على ثغرها وطرفة عابرة عن الجو أخبرتها حتى جاء باصها، وانطلقت والدخان ينبعث من خلفها تحت المطر، وأنا أقول لنفسي “خطوة بخطوة بدها صبر”.

ومضت الأيام في الصف لا نتحدث، لكن أيام الثلاثاء تأتي وفي محطة الباص كنا نلتقي، فتحدثني لأنني الوحيد كنت هناك ولدستور الغبي لم أقم بأي انتهاك، فلم أتفوه بإعجاب لها أو حتى اقتربت على الإوشاك، وكنت أنتظر كل أسبوع ذلك اليوم حتى تتلامس روحي مع تلك الملاك. ومع أني كنت لها اقترب شيئا فشيئا إلا أني كنت أبتعد رويدا رويدا.

إضاعة الفرصة الأخيرة

ومرت الأسابيع تحت المطر والدخان والباص، وأنا أنتظر أن أخبرها بما ليس لي له من خلاص. وأنها هي تعبئ ما فيّ من نقص وانتقاص، فقررت أن اكتب لها رسالة لعل سلطان الهوى يسعفني ككل مرة على الورق لا محالة. واحسن صياغتها فارسم ما في قلبي لها بجزالة. فذلك كان ما قمت به من دون إطالة.

كان الثلاثاء آخر يوم من الدراسة تلك السنة والرسالة في يدي كانت قد تجعدت من كثرة ما امسكت بها، فخبأتها في جيب معطفي قبل أن اخرج من المدرسة، وذهبت إلى المحطة ادعو لسلطان الهوى ما في نفسي من نجوى وشكوى، فجاءت وجلست بجواري، وامتد الوقت وهي معي متمتعان بالحوار حتى جاء باصها، فودعتني ووقفت على أقدامها وامتدت يدي إلى جيبي، فتجمدت في موقعي وعقد لساني عن التكلم حتى انطلق الباص فكنت خلفه أجري لاصلح ذنبي ومعضلتي من خوف ياسرني في كل مرة ينقسم كياني لألف فريق.

ركضت وناديت حتى لم أصبح قادرا على الزعيق، فاكتفيت بمرأى الباص يبتعد والتحديق، وأنا على الرصيف العتيق، وهكذا وصلت إلى حالتي هذه هنا على قارعة الطريق كالغريق. ودموعي تهطل مع الأمطار مسكرة مغلف الرسالة الأنيق، وراحت قصة مع مهب الريح الرقيق لعل أحدا يتحسس عبقها وهو جالس في محطة باص عتيق. هذه قصة قد أكون طلبتها من سلطان الهوى، لكنه لم ينهها لي كما تشتهي الأنفس، وليت الأسطر لي كما هو الواقع.

فيديو مقال أيام الثلاثاء – #قصة

أضف تعليقك هنا