جراح الأمل .. طبيب من بلدي

أمسكه من يديه المرتجفتين بعد ان اشتمه لفترة ليست بالقصيرة وأسهبت عيناه تنظر إلى ذلك الجسد النحيف , ركبتاه المنحوتتان، على قماش بنطاله توحي بهزالة الجسد المخفي خلف السترة المخملية الفضفاضة، أنف قصير مدبب، وعينان دائريتان غائرتان تحت حاجبين سوداوين، وشعر قصير مشذب، ملامح  آخر شخص أسعفه يوسف في دمشق قبل أن يغادرها.

الدكتور يوسف الطراف

وهو يذكر كل تفاصيل المشهد دونما نقصان، ويوسف هذا طبيب , لكن ليس كأي طبيب امتهن الطب كـ مهنة، هو طبيب المظلومين ومسعف المساكين , يوسف كان  يقول عنه أهل حي العادلية  الذي يقطنه في دمشق ” الأمل ” فقد كان الأمل الوحيد في نجاة من يصاب عقب كل مظاهرة يصب عليها الأمن جام رصاصهم منحرف البوصلة.

يوسف الطراف طبيب جراح كان يختص  مع زوجته في مشفى تشرين العسكري والذي يخبر عنه اسمه فقط بالكثير، بدأ الحراك السلمي في  البلاد وبسبب طبيعة دمشق الجغرافية كان الحراك في حارات ومناطق دون اخرى، يوسف كان يذهب إلى مشفاه نهارا ويختفي ليلا عن منزله دون أن يدري أحد من أفراد العائلة اين يوسف.
تقول زوجته الدكتورة عطاء البكور: ” لم أكن أدري أين يذهب يوسف سوى أنه يغيب لفترات طويلة وبشكل فجائي  ثم يعود ليتحجج بأعذار مختلفة توحي بأنه يخفي امرا ما , لم أكن أعلم شيئا سوى أني متيقنة بأنه يعرض نفسه للخطر”.

ملاحقة النظام للطبيب

توالت الأيام وازدادت نشاطات الطبيب طراف خطورة  فعيون النظام تلحظ أي تحرك مشبوه خاصة لأمثال الطبيب يوسف فمجال عملهم واضح وحركتهم سهلة الرصد.
ضاقت الحلقة على يوسف وبدأ التهديد الأمني يتواتر سريعا مشكلا خطرا حقيقيا على حياته،يوسف لم يكن مهتما كثيرا بالخطر المحدق الذي ينتظره , لكن أساليب النظام القمعية التي لاتراعي ذمة أو ضمير قد توسع دائرة الخطر ليصل زوجه وأهله وهو الأمر الذي دفعه للعودة إلى موطنه الأصلي في ريف إدلب تاركا خلفه مستقبله المهني حيث لم يكن يحتاج سوى لشهرين كي يكمل اختصاصه في مشفى تشرين العسكري.

عاد يوسف إلى بلدته مع بداية تحول الثورة إلى المسار المسلح وبداية المعارك في الشمال السوري، يقول : ” عندما وصلنا منطقة إدلب كانت معرة النعمان لاتزال محتلة وكانت المعارك على أشدها في أغلب المناطق والأطباء نادرون جدا في هذه المناطق وخاصة اختصاص( الجراحة العامة) والمهم جدا هنا في هذه الأثناء لم أكن أرى منزلي لأيام طويلة لم أستطع رؤية أهلي وزوجتي لكثرة الضغط في العمل بسبب عدد الجرحى جراء المعارك والقصف الهمجي من سلاح المدفعية او الطيران للسكان المدنين .”
قدم لطبيبنا ابن الثورة والبلد عروض مغرية بكل ماتحمله الكلمة من معنى للسفر الى خارج البلاد برواتب وامتيازات يحلم بها أي طبيب آخر.

رفض الطبيب للمغريات

يوسف لم يلق بالاً لكل هذه المغريات بل آثر البقاء في بلده التي تحتاجه فهو يؤمن بانه هنا وسط أهله واحباءه يمارس مهنته بالشكل الأفضل فهو يزداد خبرة وعلما عمليا والاهم من ذلك أنه يخدم اهل بلده وثورته التي يحبها كما يقول .
عمل في مشفى ببلدة ( كنصفرة) المجاورة بشكل مجاني في وقت فر فيه أغلب الأطباء الى خارج البلد بحثا عن فرص للعمل وهربا من واقع القصف الشديد على المناطق المحررة،القصف نفسه الذي جعل يوسف يبقى.
وبسبب ندرة الكوادر العاملة في المجال الطبي بالمشافي وكثرة اعداد الجرحى الواردة إليها وقع على كاهله ضغط عمل كبير اضطره لمناوبات طويلة لأيام وليالي يعمل فيها ليل نهار دون كلل أو ملل فضلا عن القصف وحالة الرعب المستمرة في مكان العمل.

عمل يوسف في مشافي عدة ينتقل بينها ليسعف مقاتلا على جبهة او يجري عملا جراحيا لطفل  أصابته قذيفة غير آبه بالموت الذي يحوم حوله ويتخطف الناس في كل لحظة فيوسف يرى بأنه موجود ليهب الناس من حياته قطعا لو اقتضى الأمر هذا مايؤمن به يوسف في الطب وهذا ما أقسم عليه ولن يحنث به.

استشهاد الطبيب

عاش الطبيب يوسف وزوجته في سوريا بين أهلها وعايشا مرارة الحياة الصعبة في البلاد،واستمروا في العطاء حتى أضحى طبيب الثورة شمعة تضيئ درب حرية حمراء باستشهاده  وبقيت زوجته تمسح بعضا من الدم القاني على جبين البلاد ليبشرا بأن هناك أملا في الحياة مادام البلد يحوي من زمرة يوسف وزوجته آخرين.

فيديو مقال جراح الأمل .. طبيب من بلدي

أضف تعليقك هنا