مستقبل الدين في الفكر العربي

التغيّر نعت الوجود, والحركة نظام العالم, والتقلب سمة الحياة, فلا شيء قط يبقى على حاله, ولا ثبات في شيء, بل كل شيء في تغير دائم, وحركة مستمرة، أو كما قال «هيرقليطس»: “إنك لا تنزل نفس النهر مرتين”, قد تسير هذه الحركة للوراء حينًا, لكنها تعود فتسير نحو الأمام مرة أخرى لتنشد التقدم والارتقاء, فلا ثبات إلا في أوهام الذهن. تشمل هذه الحركة الديناميكية الفكرَ كما تشمل الأشياء, وتلحق المعرفةَ كما تلحق الواقع, وتصيب المعني كما تصيب المادة, فالتاريخ كله بمضامينه ومحتوياته في حركة دائبة, وكل في فلك يسبحون.

والدين ليس استثناء من هذا كله, بل هو جزء من التاريخ , وعنصر فاعل فيه, ومنفعل به, بينه وبين التاريخ ديالكتيك مستمر, بين النص والواقع, أو بين المقدس وغير المقدس, بين المطلق والنسبي, بين السماء والأرض, وليست محاولات تجديد الخطاب الديني بدعا من ذلك, فهي شكلٌ من أشكال التقدم والتطور, ولا غرو؛ فالدين نفسه يؤكد على هذا المبدأ , مبدأ التطور, فشريعة آدم غير شريعة إبراهيم, وشريعة إبراهيم غير شريعة موسى, وشريعة موسى غير شريعة عيسى, وشريعة عيسى غير شريعة محمد _عليهم السلام_ فالمسيح جاء لا لينقد الناموس بل ليكمله.

والقرآن جاء ليحلّ للناس بعض الذي حُرّم عليهم, والله يبعث على رأس كل مائة سنة من “يجدد” لها أمر دينها, وقد ألّف القدماء كتبًا لمحاولة حصر المجددين في الإسلام على مدى القرون, فألّف السيوطي : “التنبئة على رأس كل مائة سنة” وألّف ابن حجر كذلك: “الفوائد الجمة في من يجدد الدين لهذ الأمة”، وفي العصر الحديث كتب الشيخ عبد المتعال الصعيدي “المجددون في الإسلام” وكذلك الشيخ أمين الخولي” على نفس هذا المنوال.

فالدين “يتجدد”، أو قلْ “يتطور” مع حركة التاريخ, لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر, ونحن إذ نؤكد على ذلكم المبدأ الهام, نتساءل: ما مستقبل الدين في فكرنا المعاصر؟ أو بصيغة أخرى، ما هي صورة الدين في مرآة مستقبل الفكر العربي والإسلامي؟ لقد غدتْ صورة الدين مع الطفرة العلمية والمعرفة الفلسفية التي يشهدها العالم مختلفةً عن ذي قبل, فاستحالت من إيمان بصورة تقليدية, إلى إيمان بصورة فلسفية, وأصبحت أكثر اتساعا لتتجاوز التصورات التقليدية القديمة المغلقة لينفتح على آفاقٍ جديدة.

أما عن الفكر العربي؛ فهل ستبقى صورة الدين ثابتة كما هي, في موات لا تتحرك, تقتصر فقط علي تجديد الخطاب من الخارج فقط دون تجديد الفكر الديني نفسه, فتجديد الخطاب يعني أن يكون التجديد من الخارج ويبقى الداخل كما هو, أن يتحرك “الهامش” في حين يبقى “المركز” كما هو. أم إننا ربما نلمح أشكالا مختلفة من الأطروحات على ساحة الفكر العربي المعاصر تحاول أن تجاوز حركة الخطاب إلى حركة الفكر نفسه, وتبلور صورة المضمون دون الوقوف فقط على صورة الإطار.

إننا عندما نلتقط بعض الخيوط لمشروعات “فلسفة الدين” في الفكر العربي نلحظ أن هناك مشروعا يتبلور لدى عدة شخصيات مرموقة, لكن هذا المشروع لا يجعل الدين في حدود التجربة الذاتية والروحية ( =العبادات) فقط, بل تبعثه ليخرج إلى المجتمع والسلوك (= المعاملات) محاولين أن يحقق بذلك نشر المحبة والخير والسلام, ويمكن صياغة هذا المشروع في “الدين في حدود الأخلاق وحدها”. والفرق بين الرؤية الأخلاقية لهذه المشاريع وبين رؤية الجماعات الإسلامية, هو أن الرؤية الأخلاقية للدين ورؤية الجماعات الإسلامية له يجعلانه يتجاوز حدود الطقوس والعبادة.

إلا أن الرؤية الأخلاقية لا تأمل في أن يكون الدين سلطة مسيطرة, فهي لا تجعل الدين فاعلا في المجتمع بشكل “رأسي” كما تفعل الجماعات الإسلامية, إنما تجعله يعمل في المجتمع بشكل “أفقي” بدون تطرف أو تجاوز, بل بالتزام القيم العليا والأخلاق السامية. ففي رأينا أن ثمة مشاريع فكرية ثلاثة راعت هذا العنصر، وأكدت عليه في تصوراتهم للدين, يقتربون منه بأشكال متعددة على أنحاء كبيرة, رأت هذه المشاريع  أن “الأخلاق” هي الورقة الرابحة التي يمكن للدين أن يقدمها على طاولة التحديات العلمية والفلسفة والمعرفية الحاضرة والمستقبلية.

وهذه الثلاثة مشاريع تتبلور داخل إنتاجات فكرية لثلاث شخصيات مختلفة الأول: طه عبد الرحمن, والثاني: عبد الجبار الرفاعي, والثالث: محمد عثمان الخُشت. ولا نعجب عندما نجد أن كل واحد منهم يمثل جغرافية مختلفة على خريطة الوطن العربي؛ فالأول, من المغرب, ممثلا عن دور ثقافة المغرب العربي الأقصى, والثاني من العراق, ممثلا عن دور ثقافة أقصى الشرق العربي, والثالث من مصر, في وسط بين المشرق والمغرب. وكأن التفرقة التي فرق بها البعض بين فلسفة مشرقية عرفانية “وجدانية”,  وأخرى مغربية برهانية “عقلية” تتلاشى ثم تلتقي حول “المشروع الأخلاقي للدين”.

فـ«طه عبد الرحمن» لديه أطروحات كثيرة مثل “دين الحياء” و “روح الدين” وغيرهما كثير, وكلها أطروحات تؤكد على العنصر الأخلاقي في الدين, وتسعى في سبيل فعاليته في المجتمع والناس. فكتابه “دين الحياء” يقوم بناؤه كله على مصدرية ميثاق “الأمانة” التي جاء الإنسان بها إلى هذا الوجود. هذه الأمانة بدورها هي التي تتحقق_ في رأيه_ من خلال خُلق “الحياء”, فلكل دين خلق, وخلق الإسلام الحياء, وبرغم قطع طه عبد الرحمن شوطا أخلاقيا طويلا في كتابه “دين الحياء”؛ إلا أننا لا نغفل كثيرا من جوانب مشروعه الأخلاقي في أعمال أخرى مثل “روح الدين” و “سؤال الأخلاق”, إذ يقول في هذا الأخير :”إن الجمع بين الأخلاق والدين أصل من الأصول الذي بنينا عليه هذا الكتاب”.

أما «عبد الجبار الرفاعي» فهو يسعى سعيا دؤوبا كي ينقذ النزعة الأخلاقية والإنسانية من الدين, وله مؤلفات عدة تسعى كلها لرؤية جديدة للدين تؤكد كلها علي قيم الخير والعدل والإحسان, فيقول في مطلع كتابه “إنقاذ النزعة الإنسانية من الدين” :”إن فكرة الكتاب تتمحور حول التدليل على أن الدين ظل على الدوام أحد أهم منابع إلهام قيم المحبة والتراحم والتعاطف والشفقة واحترام كرامة الكائن البشري”.

وأمّا «محمد عثمان الخًشت» فللرجل إسهام قيم برغم إنه قليل في مجال الأخلاق, إلا إنه يشدد على أن قيم الدين في حقيقته وجوهره هي قيم أخلاقية بامتياز, فلا يصبح المرء مؤمنا حقا حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وبالنظر لعنوان كتابه “أخلاق التقدم” نجد من أول وهلة أن الأخلاق مرتبطة بالتقدم, فهي عنصر مهم لتقدم المجتمع ودفعه إلى الأمام, ولعل أبرز ما في مشروع “الخُشت” الفلسفي بشكل عام, والأخلاقي بصورة خاصة؛ هو تجاوز الطرح النظري إلى حيث التأسيس العملي, وتلك سمة بارزة في جل كتاباته.

وبالتالي فالرؤية الأخلاقية الجديدة للدين لا تجعل الدين حبيس التجربة  الروحية الفردية, أو الذاتية الداخلية فحسب, بل إن الرؤية الأخلاقية للدين تجعله يعمل في الواقع, ويتجاوز المعرفة إلى السلوك, ومن الفرد إلى المجتمع, كما إنها لا تجعله يخرج ليتسلط على المجتمع تسلطا مفرطا, بل تجعله في حدود فعل الخير أينما هو, ليعمق ويؤكد على قيم الحق والخير والجمال.

فيديو مقال مستقبل الدين في الفكر العربي

أضف تعليقك هنا